يوميات كاتب سوداني: صقر الجديان

الصراع الحالي يعيد ذكرى الحروب الماضية

REUTERS
REUTERS
سيارات ومباني متضررة في السوق المركزي خلال اشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش في الخرطوم بحري، السودان، 27 أبريل / نيسان 2023.

يوميات كاتب سوداني: صقر الجديان

طائر "صقر الجديان"، أو "الكاتب" أو "طائر السكرتير" هو الشعار الرسمي لدولة السودان. وهو طائر جميل، طويل الساقين، يبدو أنيقا ومغرورا وأنت تراه متجولا باختيال في الغابات الأفريقية. كما أنه مقاتل شرس ضد أعدائه لاسيما الثعابين السامة.

و"صقر الجديان" هو أيضا اسم لرواية كتبها الروائي السوداني محمد سليمان الشاذلي، وهي إحدى الروايات السودانية – الكثيرة – التي يمكننا إدراجها ضمن ما يعرف بـ "أدب الحرب"، ومع هذا فهي من الروايات القليلة التي تناولت حرب الجنوب الطويلة ببعد إنساني ووجودي يعكس حجم الدمار والخراب الذي تحدثه الحروب بصورة تصل إلى درجة الرعب.

قدم محمد سليمان الشاذلي في هذه الرواية صورة مرعبة عن بشاعة الحرب وقدرتها على تدمير الفرد والجماعة، الأمم والدول. فمن خلال سرد قصة صحافي التحق بالقوات الشمالية المحاربة في جنوب السودان، بهدف إعداد تقارير صحافية لصالح صحيفة القوات المسلحة الرسمية، نقترب بشكل مؤلم من مآسي وفظاعة أسوأ حرب شهدتها أفريقيا خلال القرن العشرين.

وفي رأيي أن أكثر ما نجح فيه كاتب هذه الرواية – الإدانة، هو قدرته على نقل "الألم" من صورته التخيلية الأدبية ليقترب في معناه من المحسوس الموجع إلى درجة الغثيان، فقراءة هذه العمل هي تجريب ممض ومؤلم لفظاعة الألم الجسدي والنفسي الناتج عن التعذيب والخوف والرعب والفقدان المتدرّج للعقل، وكل ما يمكن أن تسببه الحروب البشعة من آلام للفرد – الجندي، المواطن- الأسير، وحتى الحيوان الهائم في غابة التوحش التي تماثل -للمفارقة- الجنة في مقابل وحشية الإنسان الذي في سبيل اللاشيء يمضي لإبادة كل أثر للحياة.

رمزية صقر الجديان (شعار دولة السودان) وعنوان الرواية ولقب إحدى الشخصيات الرئيسية، تأتي ملتبسة وشعرية وغامضة تتداخل مع التوحّش والذكاء و.. الجنون، الذي يدمغ الرواية من بدايتها إلى نهايتها.

مثل شبح ظلت تطاردني أحداث هذه الرواية، بصورها المرعبة عن الموت، والتقتيل والتعذيب، وتطاير الأشلاء البشرية الممزقة. مثل شبح تطاردني – وتخنقني في هذه الأيام.

أي نزوح ستقودنا إليه الحرب الدائرة الآن؟ وأي معسكرات تلك التي ستشاد إن لم تتوقف هذه الحرب الملعونة. أفكر في ذلك وأنا استعيد صورة "حياة" وهي تبتسم في وجوهنا مرحبة أثناء توزيعها علينا تمر الضيافة بمعسكر النازحين بدارفور

2

سافرت قبل عامين إلى مدينة نيالا، رفقة صديقي الروائي والقاص الهادي علي راضي. كنا في رحلة تكريم من مؤسسة نيرفانا الثقافية. جاءت الرحلة بعد غياب لأكثر من عقدين من الزمان عن مدينتنا التي نشأنا وتربينا فيها، وخرجنا منها والحرب قد بدأت تشتعل في أنحاء الإقليم المختلفة؛ إقليم دارفور. أتيح لنا في هذه الرحلة زيارة أحد أكبر معسكرات النازحين في الإقليم. وكنت أتوقع أن أجد معسكرا مثلما أتصوره في ذهني: مكونا من الخيام، أو من مبان أشبه بالمعسكرات الحربية المؤقتة، مثلما نرى في السينما، لكني فوجئت بما يشبه المدينة المصغرة، أو لنقل القرية الكبيرة نسبيا، أحياء سكنية مخططة، ومدارس لاستيعاب الطلاب، ومركز صحي شبه متكامل، وإدارة أهلية شعبية مسلحة بالمعرفة والقدرة على مواجهة كافة التناقضات داخل معسكر يضم مختلف الاثنيات في وضع قبلي مشتعل قائم على الصراع الإثني ونزاع الأرض في أحد أوجهه المهمة. المعسكر منفصل تماما عن "الدولة" ومن بداخله يجهرون بعدائهم لها ويجزمون بلا انتهائه إلا بعودتهم إلى قراهم الأصلية، المحروقة أو المستلبة، وبالطبع تعويضهم عن كل فظائع حرب دارفور.

الحكايات كثيرة، وملهمة من داخل المعسكر، إلا أن ما استوقفني وقتها وأجدني أستعيده خلال هذه الأيام، أيام الحرب والنزوح من العاصمة الخرطوم؛ هي قصة روتها لنا إحدى القابلات. إذ ذكرت لنا أن من أكثر المواقف التي أثرت عليها، حدثت قبل سنوات عند بداية تشكل المعسكر، والقصة بالطبع عن امرأة وطفل، وأول ضحايا الحروب في كل مكان بهذا العالم هم النساء والأطفال. قالت القابلة:

الروائي السوداني محمد سليمان الشاذلي

من تعمل هنا هن النساء، فالرجال إما قتلوا أو يقاتلون. في ذلك اليوم خرجت هذه المرأة إلى العمل في الحقول المحيطة بالمعسكر، بحثا عن أجر صغير يساعدها وصغارها على مكابدة الحياة. كانت في شهرها التاسع من الحمل، لكنها لم تتوقف قط عن العمل الشاق بأدوات الزراعة التقليدية في نظافة الأراضي وفلاحتها، عمل شاق ومنهك للإنسان العادي دعك من امرأة حامل في شهرها الأخير.

وأضافت القابلة:

كنت أجلس أمام الغرفة الصحية الوحيدة بالمعسكر وقتها حين لمحت بعيدا امرأة تترنح، تسقط وتنهض وهي تتقدم نحوي. في البداية شككت أنها تعرضت لهجوم مسلح، فالقتل هو المتحكم في مسار الحياة هنا، وأوشكت على الصراخ واستدعاء "حراس المكان"، لكن ومع تقدمها نحوي في ترنحها ذاك تأكدت أنها تلك المرأة الحامل... هرولت نحوها وأنا أصرخ مستدعية من يساعدني للوصول إليها.

REUTERS
سودانيون فروا من العنف في بلادهم، ينتظرون التسجيل في المخيم بالقرب من الحدود بين السودان وتشاد في أدري، تشاد في 26 أبريل/نيسان 2023.

صمتت تلك القابلة قليلا، ربما قمعت دموعا أوشكت على الانهمار، أخفت انفعالا ما، ثم قالت:

حين خرجت من باب المعكسر وجدتها مرمية أمامه ميتة وبين يديها المولود يصرخ صرخات الحياة. كانت طفلة جميلة، فدتها أمها بروحها. أسميناها "حياة"، عمرها الآن سبعة عشر عاما، وهي على أعتاب الجامعة.

أي نزوح ستقودنا إليه الحرب الدائرة الآن؟ وأي معسكرات تلك التي ستشاد إن لم تتوقف هذه الحرب الملعونة. أفكر في ذلك وأنا استعيد صورة "حياة" وهي تبتسم في وجوهنا مرحبة أثناء توزيعها علينا تمر الضيافة بمعسكر النازحين بدارفور.

أتساءل: هل أراد مؤلف رواية "صقر الجديان"، أن يقول لنا إن دولتنا هي دولة "الفصام"؟ ما بين صقر الجديان الشعار المبجل للدولة، وصقر الجديان الجنرال السيكوباتي المهووس بالقتل والتعذيب وتكسير العظام؟ 


3

خلال شهر رمضان الفائت، كنت أتابع يوميا، سلسلة مذكرات توثيقية مهمة يكتبها الطيار الليبي سليمان الشطيطي، عن فترة أسره في جنوب السودان خلال ثمانينات القرن الماضي، بعد مشاركته في الحرب الدائرة وقتها بين الجيش الحكومي الرسمي للسودان – حينها كان دولة واحدة – وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة العقيد جون قرنق.

تهب هذه المذكرات قدرا ثرا من المعلومات المهمة، عن طبيعة الحرب بين الشمال والجنوب السودانيين، وعن حجم التدخل الإقليمي في هذه الحرب، وتأرجح نظام مثل نظام القذافي العربي مثلا – بمزاجية غريبة – بين دعم الجيش الرسمي مرة وجيش الحركة الشعبية حينا آخر، ومدى تأثير ذلك على سير المعارك وترجيح كفة على أخرى. وبالرغم من أن الكاتب الطيار الشطيطي ركز بشكل خاص على تبين الأهوال التي واجهها خلال فترة أسره الطويلة، إلا أنه ومن خلال سرده الدقيق قدم صورة متكاملة عن حجم المعاناة التي كان يواجهها المواطن البسيط في جنوب السودان، والظروف المأساوية التي واجهها ويواجهها كل من وقع أسيرا، سواء لدى قوات هذا المعسكر أو ذاك.

حكاية الطيار الشطيطي مع الأسر في جنوب السودان، تصلح لتحويلها إلى رواية ناجحة أو إلى فيلم عظيم يكشف البؤس الإنساني الناتج عن الحروب، وما تخلفه من تدمير لكل ما هو إنساني.

من خلال متابعتي لهذه المذكرات، كنت أركز بشكل خاص على الأجواء المحيطة بالأسير: حياة الجنود - الحراس، طبيعة المناطق؛ والمدن والقرى التي تنقل بينها، شكل السجون والمعاملة التي تلقاها من سجن إلى آخر، وكلها لا يحتمل بالطبع وفوق التصور، رغم أنه كان يعد أسيرا خاصا وصيدا ثمينا، فهو طيار وأجنبي من جنسية عربية إسلامية، ويشارك في حرب معقدة تلعب الهوية والدين دورا رئيسيا في تأجيجها.

نقص الغذاء والجوع والأمراض التي تعرض لها الشطيطي إلى لحظة إطلاق سراحه كلها تقود إلى تصور حجم البؤس الذي كان يواجه الإنسان الجنوبي العادي، في تلك الأصقاع الملتهبة بالنيران والحرائق المتقدة بفعل عداء الإخوة، وهو أمر مستمر حتى الآن.

من المفارقات المدهشة أن السجين الأسير الطيار الليبي الشطيطي، تحرر من أسره في مشهد يشبه ما جرى في السودان خلال الأيام الماضية، إذ تمكنت قوات مقاتلة في دولة أخرى نقل إليها من تحريره بعد اقتحامها السجن وإطلاقها لسراح كافة المساجين، وتلك كانت حرب التحرير الإثيوبية الإرتيرية ضد نظام مانقستو، التي لم تكن آخر حروب إثيوبيا الداخلية بالطبع مثلها مثل أغلب حروب القارة الإفريقية العبثية.

AP
دخان يتصاعد في الخرطوم نتيجة الاشتباكات، السودان، الأربعاء 19 أبريل/نيسان 2023.

4

اليوم هو الخامس عشر منذ اشتعال الحرب في السودان. الخرطوم العاصمة صارت شبه فارغة من سكانها، وما زالت أصوات الدوي تتردد في أنحائها المختلفة. من المنتصر ومن المهزوم، لا أحد يعلم.

وأنا أتأمل كل هذه الشذرات، أتساءل الآن هل أراد مؤلف رواية "صقر الجديان"، أن يقول لنا إن دولتنا هي دولة "الفصام"؟ ما بين صقر الجديان الشعار المبجل للدولة، وصقر الجديان الجنرال السيكوباتي المهووس بالقتل والتعذيب وتكسير العظام؟

font change

مقالات ذات صلة