كيف تُجلي أميركا مواطنيها من السودان؟

فصول الأزمة تتوالى... ورعايا واشنطن في وضع مضطرب

AFP
AFP
جنود اميركيون يستعدون لإجلاء مواطنيهم على متن سفينة حربية في مرفأ بورتسودان في 30 أبريل

كيف تُجلي أميركا مواطنيها من السودان؟

في نهاية الأسبوع المنصرم، ساعدت الحكومة الأميركية مئات الأميركيين على النجاة بأنفسهم من السودان بنجاح، وهي قصة مثيرة للاهتمام جرت عل هامش الحدث الإخباري الرئيس الذي لا تزال فصوله تتوالى على بلد يتأرجح في صراع أوسع.

لكن الطريقة التي تضافرت بها هذه الجهود، بالإضافة إلى الانتقادات التي وجهها بعض الأميركيين الذين لديهم أقارب محاصرون في السودان، أثارت تساؤلات حول سبب إعطاء الولايات المتحدة الأولوية لإغلاق السفارة وإرسال موظفيها إلى الوطن أولا، بدلا من مساعدة المواطنين الأميركيين على الهروب من الوضع الخطير الذي يتكشف في السودان.

1. طريقة الإجلاء من السودان: القاعدة وليس الاستثناء في سياسة واشنطن

أول ما ينبغي فهمه في كيفية استجابة حكومة الولايات المتحدة في السودان هو الاستجابة العملياتية القياسية هذه الأيام التي تتمّ عندما يتعلق الأمر بحماية موظفي السفارة أولاً، ثم القيام فيما بعد بما في وسعها لمساعدة المواطنين الأميركيين العاديين الذين لا يعملون بصفة رسمية في الحكومة. وفي حالات مماثلة أخرى جرت مؤخرا في مناطق مثل سوريا وفنزويلا واليمن، أوقفت الولايات المتحدة العمليات الدبلوماسية وأجلت الموظفين الرسميين أولاً، لكنها لم تتخذ خطوات كبيرة لمساعدة المواطنين الأميركيين العاديين على الخروج من البلاد. وكذلك الأمر في أوكرانيا حين تعرضت للغزو الروسي والاحتلال عام 2022، اتخذت إدارة بايدن قرارا بإغلاق السفارة الأميركية لفترة وجيزة في كييف، عاصمة أوكرانيا، ولكن لم يكن هناك إجلاء عسكري للدبلوماسيين أو المواطنين العاديين.

AFP
جندية اميركية تسجل اسماء الاميركيين قبل صعودهم على متن سفينة حربية اميركية في بورتسودان في 30 أبريل

وقد يسأل سائل لماذا بدت الولايات المتحدة وكأنها تبذل نشاطا أكبر في مساعدة المواطنين الأميركيين العاديين الذين كانوا يعيشون في أفغانستان أثناء الانسحاب الأميركي في أغسطس/آب 2021 وما تلاه. في تلك الحالة، ساعدت الحكومة الأميركية في اتخاذ ترتيبات خاصة لإجلاء الدبلوماسيين وكثير من المواطنين الأميركيين وعشرات الآلاف من المدنيين الأفغان الذين شعروا بالخطر بسبب علاقتهم بالولايات المتحدة أو بالحلفاء الآخرين الذين كانوا ينهون وجودا عسكريا في أفغانستان استمر 20 عاما بهدف الدفاع عن الحكومة الأفغانية التي انهارت أثناء سيطرة طالبان على السلطة قبل أكثر من عام ونصف العام.

الاستجابة العملياتية القياسية هذه الأيام التي تتمّ عندما يتعلق الأمر بحماية موظفي السفارة أولاً، ثم القيام فيما بعد بما في وسع الحكومة الاميركية لمساعدة المواطنين الأميركيين العاديين الذين لا صفة رسمية لهم

بذلت الولايات المتحدة جهودا حثيثة لإجلاء عدد أكبر من الأشخاص خارج سفارتها وفرقها العسكرية في أفغانستان لسببين رئيسيين. أولهما أنها شعرت ببعض المسؤولية تجاه الأفغان الذين خاطروا بحياتهم حين عملوا مع الولايات المتحدة لسنوات. بالإضافة إلى أن عددا من الأميركيين كانوا يشاركون في أنشطة الدعم الشامل للحكومة في أفغانستان.


أما السبب الثاني، فهو الخبرة الطويلة للولايات المتحدة عن الوضع في أفغانستان؛ حيث إن لدى واشنطن القدرة والمعرفة الكافيتين، ولا سيما الديناميكيات الأمنية، بسبب وجودها الطويل وحجم قواتها في البلاد. بعبارة أخرى، بذلت واشنطن جهدا في أفغانستان أكثر من السودان لأنه كان بإمكانها ذلك وكان لديها الموارد المتاحة، كما أنها شعرت بضرورة القيام ذلك، نظرا للمهمة التي استمرت عقودا وثبت أنها فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة.

أما في السودان، فلم تكن أي من هذه الظروف موجودة. لم يكن لدى الولايات المتحدة سوى عدد قليل من العسكريين على الأرض، وهم فرقة من مشاة البحرية كانوا يقومون بحماية السفارة في الخرطوم. ونتيجة لذلك، لم يكن لدى الولايات المتحدة المعرفة العميقة بالمشهد الأمني في السودان الذي كانت تمتلكه بعد عقود من وجودها في أفغانستان، وهذا المزيج من الافتقار إلى الوعي الظرفي بالإضافة إلى الوجود الأمني الضعيف للغاية على الأرض، حدّ من الخيارات العملية المتاحة أمامها.

بذلت واشنطن جهودا حثيثة لإجلاء عدد أكبر من الأشخاص خارج سفارتها وفرقها العسكرية في أفغانستان لأنها شعرت ببعض المسؤولية تجاه الأفغان الذين خاطروا بحياتهم حين عملوا مع الولايات المتحدة لسنوات

2. يبدو أن عددا قليلا فقط من الأميركيين في السودان طلبوا المساعدة

الأمر الثاني الذي يساعد في تفسير سبب عدم قيام الحكومة الأميركية على ما يبدو بفعل الكثير للمواطنين الأميركيين العالقين في السودان مرتبط بالأعداد الإجمالية للمواطنين الأميركيين وسبب وجودهم هناك والظروف التي اختاروا العمل فيها، رغم كل التحذيرات التي قدمتها الحكومة الأميركية بشأن مخاطر السفر إلى السودان والعيش فيه. ووفقا لمسؤولين في الحكومة الأميركية، فقد بلغ عدد الأميركيين الذين كانوا يعيشون في السودان لحظة اندلاع هذا الصراع نحو 16 ألف مواطن أميركي.

أقل من ثلث هؤلاء المواطنين– حوالي 5000 شخص– هم الذين سجّلوا أنفسهم بالفعل في سفارة الولايات المتحدة، أي إنهم تواصلوا مع السفارة في وقت ما بعد وصولهم وقدموا معلومات الاتصال الخاصة بهم في حالة رغبتهم في تلقي رسائل من حكومة الولايات المتحدة لتخبرهم بما عليهم فعله في حال وقوع حالات طارئة، كتلك التي حدثت بالفعل في هذه الجولة الأخيرة من الصراع.

حذرت الحكومة الأميركية المواطنين الأميركيين مرارا من السفر إلى السودان، ونبّهت إلى أن الخدمات القنصلية داخل البلاد من خلال السفارة الأميركية قد تكون محدودة للغاية بسبب الظروف على الأرض. وفوق ذلك، يبدو أن كثيرا من المواطنين الأميركيين الذين يعيشون في السودان هم أساسا أميركيون سودانيون تربطهم علاقات أسرية ومعرفة عميقة بالوضع على الأرض. ولعل أحد الأسباب التي لم تجعل هؤلاء الأشخاص يطلبون مساعدة السفارة هو معرفتهم عن حق بمحدودية قدرة السفارة على مساعدتهم، في الوقت الذي بدأ فيه الصراع يتحوّل إلى خطر داهم.


3. قوة غير ذكية: نقص القدرات المؤسسية والموارد في الوكالات المدنية الأميركية

وثمة أمر ثالث قد يساعد في تفسير استجابة الولايات المتحدة في إجلاء مواطنيها من السودان ويتعلق بالنقص النسبي في الموارد والمعرفة في الوكالات المدنية الأميركية الرئيسة، بما في ذلك وزارة الخارجية. على الرغم من كل الحديث منذ ما يقرب من عقدين داخل دوائر السياسة الخارجية الأميركية حول الحاجة إلى استثمار المزيد من الموارد من أجل تطوير وتحديث وكالات مثل وزارة الخارجية، فإن هذه الوكالات المدنية لا تزال تحتل أولويات دنيا مقارنة بالاستثمار في الجيش الأميركي. 

Getty Images
جنود اميركيون يراقبون عملية الاجلاء من مطار كابول في 21 أغسطس 2021

لم تحقّق الجهود المبذولة لتعزيز ما يسمى "القوة الذكية،"، بما في ذلك مراجعتان رئيستان منفصلتان، نتج عنهما تقريران هدفا إلى إصلاح الوكالات المدنية للسياسة الخارجية، بعد وعودها بتغيير الطريقة التي تتبعها وزارة الخارجية والوكالات المدنية الأخرى في الولايات المتحدة بشكل جذري. هذه الجهود الهادفة لإعطاء الأولوية للوكالات المدنية الأميركية للسياسة الخارجية بعد عقدين من النهج العسكري للغاية للأمن القومي للولايات المتحدة لم تسفر بعد عن النتائج التي كان يأملها كثيرون في اقتراح الإصلاحات. 
أضف إلى ذلك الحقيقة البسيطة المتمثلة في الموجة الأخيرة من هجرة المواهب من العمل في الخارجية الأميركية بسبب الإدارة السابقة، وما نراه الآن في وزارة الخارجية هو وكالة تكافح للحفاظ على أهميتها في القرن الحادي والعشرين.

وقد لا تبدو القدرة الضعيفة لوزارة الخارجية، في حالة إخلاء السودان، عاملا رئيسا مثله مثل النقطتين الأوليين، ومردّ ذلك جزئيا أن البعثة الدبلوماسية داخل السودان لم تكن كبيرة. غير أن وزارة الخارجية لعبت دورا مهما في عمليات الإجلاء الناجحة للمواطنين الأميركيين من مناطق الصراع في الماضي، على الرغم من اختلالات الموارد.

وخير مثال على ذلك هو الإجلاء الناجح لما يقرب من 15 ألف مواطن أميركي كانوا يعيشون في لبنان شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 2006 أثناء الحرب بين إسرائيل و"حزب الله". وتتحمل وزارة الخارجية المسؤولية الرئيسة عن المساعدة في إجلاء المواطنين الأميركيين في مثل هذه الحالات، ووجدت مراجعة لاحقة أن هذا الإجلاء يتطلب مساعدة كبيرة من وزارة الدفاع للمساعدة في توفير ممر آمن بالإضافة إلى الموارد اللازمة لتأمين النقل البحري والجوي لأعداد كبيرة من المواطنين. ولذلك، فحتى في العمليات الناجحة نسبيا التي ساعدت على إجلاء أعداد كبيرة، يتعين على البنتاغون بالضرورة أن يلعب دورا كبيرا.

لعبت وزارة الخارجية دورا مهما في عمليات الإجلاء الناجحة للمواطنين الأميركيين من مناطق الصراع في الماضي، على الرغم من اختلالات الموارد

4. تزايد النفور من المخاطرة بالدبلوماسية الأميركية على مدى عقود

العامل الرابع الذي ساهم في صياغة استجابة الولايات المتحدة لتحدي إجلاء المواطنين الأميركيين من السودان مرتبط بتوجه طويل المدى لطالما أعاق الدبلوماسية والنشاط القنصلي الأميركي في جميع أنحاء العالم: حقيقة أن الولايات المتحدة لا تتحمّل مخاطر خسارة موظفيها الدبلوماسيين وتسعى إلى الحفاظ على أصولها العسكرية الواقعة تحت الضغط أساسا بسبب مجموعة واسعة من التهديدات والطوارئ العالمية.

خلال الأسابيع الأولى من الصراع في السودان، صرحت وزارة الخارجية الأميركية مرارا عديدة أن الوضع الأمني غير المستقر في الخرطوم وإغلاق المطار جعلا من غير الآمن إجلاء مواطنين أميركيين عاديين بتنسيق من الحكومة الأميركية. ومجددا، هذه ممارسة قياسية إلى حد ما، بالنظر إلى مسار العمليات الدبلوماسية الأميركية في العقود الأخيرة.

Getty Images
رهائن اميركيون في مقر سفارة واشنطن في طهران

لعلّ آخر شيء يريد صانعو السياسة في الولايات المتحدة رؤيته هو تكرار أزمة الرهائن الإيرانية 1979-1981، ولهذا اختارت الولايات المتحدة إعطاء الأولوية لإخلاء السفارة. أضف إلى هذا الإرث سلسلة من التهديدات والهجمات المميتة مثل هجمات 1998 على السفارات في أفريقيا، والتهديدات الإرهابية المزمنة، حيث تعمل الدبلوماسية الأميركية بشكل متزايد خلف جدران الحماية التي ترتفع أعلى فأعلى داخل مجمعات آمنة تُغلق بسرعة أكبر بسبب التهديدات مقارنة بالسنوات الماضية. وجاء تسييس هجوم عام 2012 على منشآت الحكومة الأميركية في بنغازي الليبية، ليرسّخ الابتعاد عن المخاطرة ويثبّط همم المسؤولين الأميركيين خوفا من تعريض أنفسهم للخطر عند المساعدة في إجلاء المواطنين.

لا تزال فصول الأزمة في السودان تتوالى، ولا يزال آلاف الأميركيين في وضع مضطرب. وسيبيّن الوقت ما إذا كان الإجلاء الناجح لمئات من الأميركيين نهاية الأسبوع الماضي حدثا فريدا أم إنه الأول في سلسلة من المهام الأخرى. ولكن الأرجح فيما نراه أنه سيتعين على الأميركيين الذين يعيشون في السودان الاعتماد على مزيج من مواردهم الخاصة، بالإضافة إلى مساعدة محدودة من الحكومة الأميركية، ومساعدة من دول أخرى مجاورة للسودان.

font change

مقالات ذات صلة