ما جدوى المدارس والمذاهب الأدبية؟

ما جدوى المدارس والمذاهب الأدبية؟

يقول الشاعر الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس في كتابه "صنعة الشِّعر" (ترجمة صالح علماني): "إنّ كل النظريّات الشِّعرية أدوات لكتابة القصيدة، فلا بدّ من وجود معتقدات عديدة، بقدر ما هناك أديان أو شعراء". ويضيف: "الناس في الهند لا يتمتّعون بحسٍّ تاريخي، ولهذا يعاملون كل مفكّريهم كما لو أنهم معاصرون". ويوضح: "إن الأدب الفرنسي واحد من أكبر الآداب في العالم، لكنّني مضطر إلى التفكير في أنّ المؤلفين الفرنسيين هم بصورة عامة واعون كثيرا بذواتهم، فأوّل ما يفعله الكاتب الفرنسي تحديد نفسه حتى قبل أن يعرف ما سيكتبه، فيقول: أنا كذا وكذا، مولود في المقاطعة كذا، أو يقول ’ماذا سأكتب بعد الحرب العالمية الثانية’.

وقد التقى الكاتب المسرحي السويسري الكبير فريدريك دورنمات صاحب مسرحية "عودة السيّدة العجوز" العالمية في ذلك مع بورخيس، وردّا على سؤال طرحه برنار بيفو في برنامجه الشهير على التلفزيون الفرنسي، قبل عدّة سنوات: ما رأيك في الرواية الفرنسية الجديدة؟ أجاب دورنمات بشيء من السخرية: كل عشر سنوات عندكم في فرنسا شيء جديد: كالرواية الجديدة، أو المسرح الجديد، أو الشِّعر الجديد... أنتم الفرنسيون عشّاق المدارس والنظريات".

وقد أصاب كلّ من بورخيس ودورنمات صميم الحالة الفرنسية. فالفرنسيون سبقوا بنظريّاتهم ومدارسهم مختلف المجتمعات الأوروبية وسواها: فالسوريالية طلعت من عندهم بزعيمها الشاعر أندره بريتون (ومعه الشعراء أراغون وألويار وفيليب سوبو...) الذي لم يصدر بيانا سورياليّا واحدا يحدّد طريقة كتابة الشِّعر بمواصفاته وبنوده، بل أصدر سبعة بيانات، كلّ منها يرسم طريقا أخرى للسوريالية، بحيث بات عندنا سبع سورياليات مختلفة..، وشاركوا في القرن التاسع عشر بالرومانطيقيّة وإن كانت أشعار رومانطيقيّاتهم أضعف الرومانطيقيّات بالمقارنة مع ما قدّمته الرومانطيقية الإنكليزية (كيتس، بايرون) والألمانية (هولدرلن، ريلكه)، وسبق أن انخرطوا في الحركة الدادائيّة ومؤسّسها تريستان تزارا، من دون أن ننسى المدرسة البرنسيّة أيضا التي تدعو إلى اعتبار الأدب غاية في ذاته، والى الامتناع عن استخدامه وسيلة لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية، وتطوّر هذا المذهب في اتجاه آخر وأطلق عليه مذهب "الفنّ للفنّ". ويرى أنّ الأدب لا يعبّر عن القضايا الوطنية وقضايا الالتزام الأيديولوجي، أسّسه كلّ من الشاعر تيوفيل غوتييه، ولوكونت دي لِيل. ونضيف مدرسة أخرى غير واضحة المعالم اسمها بين الرمزيّة والبرناسيّة وتدعى "أوليبو".

انتهت المذاهب الأدبيّة والفنّية اليوم، وتحرّر المبدع من كلّ عبء، وانتهى عصر "الروّاد". ومن يطّلع على الشِّعر العربي الشبابي اليوم، في كلّ الأقطار العربيّة، يلمس نتاجا حيويّا، أُنفضت عن كاهله أثقال الأيديولوجيّات والأفكار الجاهزة

صحيح أنّ مثل هذه الظواهر قد ضخّت دما جديدا، واقعا جديدا وحالات غريبة، فأحدثت ضجة وانخرط فيها من انخرط من الفنّانين والكتّاب... إنها كوقع الصاعقة التي أغرت الكثيرين في فرنسا وغيرها.

هذا في الأدب، أمّا في الفلسفة فلا ننسى "وجوديّة" جان بول سارتر، وعبثيّة ألبير كامو،... ونتذكر صعود الرواية الفرنسية الجديدة وروّادها آلان روب غرييه وناتالي ساروت وفيليب سولرز، ثم نعود إلى الوراء ونتقصّى المدرسة الرمزية وعلى رأسها الشاعر مالرمه ومن بعده تلميذه بول فاليري. أمّا في المسرح فعندنا أنطونان أرطو صاحب نظريّة "مسرح القسوة"... وكذلك في السينما وسواها. لكنْ لم يبقَ من كلّ هذه المدارس اليوم شيء يُذكر سوى بعض القصائد المهمّة؛ وبالمناسبة أنا انضمّ إلى رأيَيْ بورخيس ودورنمات وسواهما: أن يحدّد الشاعر أو سواه سلفا قواعد وأطرا جاهزة للتجارب الأدبية والفنّية، يعني أنك تكتب أو ترسم بما يُملى عليك. ويُفكّر عنك، ويتخيّل عنك. كأنّما يختار الشاعر أو سواه عبوديّته الطوعية، ولن نجد في هذا الإطار سوى نصوص معلّبة، متشابهة، متقابسة، من الصعب أن يصلح تدوين اسمك أو توقيعك عليها.

لكنْ في الواقع أيضا أن هذا الجديد يحمل في طيّاته خطر المماثلة، والتماهي، فإنّه لا يمكن وضع النظريات قبل وجود اللوحة أو القصيدة أو الرواية، خصوصا أن يظهر هناك انجراف وسحر في كلّ فكرة مجترحة. أي لا يمكن أن تكتب أفكار غيرك وتظنّها أفكارك، ولا تدوّن مشاعر غيرك وتظنّها مشاعرك؛ والأخطر في هذه الظواهر أن مُريديها وأفرادها يكادون يكتبون نصّا واحدا بصيغة الجمع أو الجمع بصيغة الفرد (وهو الرائد واضع القوانين والدساتير)، بمعنى آخر يفقد الكاتب حرّيته، وينداح عمّا يجود في داخله كفرد في مجتمع أو في مدينة. بل يفقد خصوصيته، لا سيّما عندما تتحوّل هذه المدارس إلى ما يشبه الأحزاب العقائدية الراديكالية، فتقع في الأيديولوجيا، والأدب هو أيديولوجيا نفسه، لا أيديولوجيا أفكار سواه من الخارج. وهنا نجد ما قد نجده في ما عرفنا من أحزاب مغلقة كثيرة حيث يصبح رائد المدرسة هو ديكتاتورها، كما حدث في السورياليّة عندما راح أندريه بريتون يطرد من الحركة من لا يخضع لقوانينها أو قوانينه، فطرد أراغون وجاك بريفير وأنطونان أرطو.

وهذا الضيق في ممارسة الطقوس والقواعد يؤدي حتما إلى نصوص متشابهة، متوالدة، فالأفكار الجاهزة تؤدي إلى نصوص يموت فيها التفرّد والفرديّة، تصبح ذاتا منعزلة عن رحابة الإبداع، تحاور نفسها، وتقع في التّكرار؛ والتّكرار من علامات النهاية.

اقرأ أيضا: معاوية بن أبي سفيان و"طريق الحرير"

هل يعني ذلك مقاطعة نتاجات تلك المدارس والمذاهب؟ كلا! كلا! ونحن هنا لا نُدين نصوص تلك المذاهب، فهي جزء من حركة الإبداع التي تضيق أحيانا بحدودها التقليديّة، وهي جزء من إرثٍ، ومن تاريخ لا بدّ من الانفتاح عليه، لأنّه لا يمكن تجاوز مثل هذه الظواهر ونفيها كليّا. عندها نقع في المطبّات التي وقع فيها أصحاب النظريّات، فالانفتاح شرط أساسي من شروط اغتناء الخُبرات والتجارب. ونرى أنه يجب التعامل مع نصوص تلك المذاهب، ونتعامل معها كاقتراحات حرّة، نحدّد قيمتها بكل موضوعيّة، وبحرّية كاملة، نازعين عنها صفات "التقديس" التي أُلصقت بها، كطريق وحيد لتطوير الأدب أو الفنّ. نخرج من أحاديثها، إلى الذات وما فيها من تعدّد وخصب، في محاولة تستفيد من كلّ نصوصها، كمعطى، وتبادل، وتثاقف ونضوج، منها التجارب الخاصة.

 أكاد أقول إن الشِّعر اليوم في العالم، يعيش، بعد ذهاب المدارس، زمنه الشِّعري الذهبي، عكس كلّ مَنْ ينعون الشِّعر، بتأبينات يوميّة مُردّدين "مات الشِّعر"


انتهت المذاهب الأدبيّة والفنّية اليوم، وتحرّر المبدع من كلّ عبء، وانتهى عصر "الروّاد". ومن يطّلع على الشِّعر العربي الشبابي اليوم، في كلّ الأقطار العربيّة، يلمس نتاجا حيويّا، أُنفضت عن كاهله أثقال الأيديولوجيّات والأفكار الجاهزة؛ وترى ذلك في دواوينهم الشِّعرية أو رواياتهم أو رسومهم... لتكتشف مدى جدّتهم، وفرادة كلّ واحد منهم، لم يعد من روّاد الشِّعر (والشِّعر لا يحتاج إلى مثل هؤلاء)، ولم تعد من "أسفار" ومواثيق على الشباب اتّباعها. بل كلّ ما يكتبون يطلع من ذواتهم، ومن أجسادهم، ومن حواسّهم، ومن مشاعرهم. فقد تُحدّد طريقة الكتابة أو الرسم؛ أي ما تصوغه التجربة الفردية (من دون طبعا قطيعة لا مع التراث ولا مع من سَبَقَهم). فالشِّعر يطلع من خزين ثقافي طلوعه من الحواس والغرائز.. فكلّ حالة تحدّد أسلوبها؛ وكل موضوع يرسم حدوده، وكله تجربه تفجّر لغتها.

اقرأ أيضا: روائيون: هذه فضائل الجوائز الأدبية وتلك مثالبها

وهكذا نجد علامات جديدة مفتوحة في شِعرنا الشبابي والمخضرم، وكذلك فالظاهرة تكبر في فرنسا (أرض المذاهب)، حيث نجد ألوف الشِّعراء الشبّان والجُدد، كلّ منهم يصوغ حياته في قصيدته أو لوحته... وقد ترجمتُ مئات القصائد لهؤلاء الشِّعراء الفرنسيين (وغير الفرنسيين)، وتمتّعت بقصائد كثيرة لا تشبه بعضها: ألف شاعر يكتب بألف أسلوب، مئة روائيّ يكتب بمئة أسلوب... وهذه هي نعمة الحرّية، بل أكاد أقول إن الشِّعر اليوم في العالم، يعيش، (بعد ذهاب المدارس)، زمنه الشِّعري الذهبي، عكس كلّ مَنْ ينعون الشِّعر، بتأبينات يوميّة مُردّدين "مات الشِّعر"...

إنّه زمن الشِّعر الآخر خارج التابوهات والحساسيّات المجلّدة، المجمّدة.

font change