"الخيار السعودي" عند آباء الاستقلال السوري

تَطلُّع شرائح مهمة من السوريين نحو الجزيرة العربية ليس جديداً

Getty Images
Getty Images
الحجاج يغادرون دمشق في الطريق الى مكة سنة 1875

"الخيار السعودي" عند آباء الاستقلال السوري

شكل ما يمكن أن نسميه اصطلاحاً "الخيار السعودي" واحداً من محركات السياسة لدى نخبة الإصلاحيين العرب السوريين إبان نهايات السلطنة العثمانية (منذ عام 1913 حتى 1918)، وفي مرحلة الانتداب الفرنسي (منذ عام 1920 وحتى 1946). ولعب هذا الخيار دوراً مهماً في تحقيق التوازن مع "الخيار الهاشمي" الذي كان يتبناه صف من سياسيي سوريا في تلك الحقبة. واللافت أن الأمير، ثم السلطان، ثم الملك السعودي المغفور له عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (1876-1953)، والمعروف بواقعيته السياسية، لم ينخرط بسكل مباشر في هذا الملف الشائك، وحصر اهتماماته وخططه في الجزيرة العربية.

في انتظار سعود الكبير

ولم يكن تَطلُّع شرائح مهمة من السوريين، وخصوصاً الدمشقيين منهم، نحو الجزيرة العربية، بوصفهاً خياراً بديلاً للحكم العثماني، لم يكن جديداً، حيث يخبرنا الرحالة والجاسوس الإسباني دومينيغو فرانثيسكو باديا (1767-1818)، المتنكّر في شخصية علي باي العباسي، أن قسماً كبيراً من أهالي دمشق عام 1807 كانوا يتشوقون لوصول قوات الإمام سعود الكبير (1748– 1814م) إلى مدينتهم مع تواتر أخبار انتصاراته في الجزيرة، وتقدمه نحو بلاد الشام.

وعبر باديا عن دهشته من هذا الموقف، نظراً لأنّ أهل دمشق كانوا يعلمون على كلّ حال أن أتباع هذا الأمير يعتبرون استعمال الحرير والتبغ وما شاكل مجلبة شر، وأنّ هؤلاء، بالاستناد إلى مبادئهم الإسلامية الصارمة، سيضعون العراقيل القاهرة في طريق المصانع والتجارة التي يعتمدون عليها في حياتهم، بحسب تعبيره.

وقد فات الجاسوس باديا أمران مهمان في هذا الموقف، الأول؛ أن علاقات دمشق التجارية مع قبائل الجزيرة العربية ضاربة في القدم، حيث كانت الأسواق الممتدة من باب الجابية إلى بوابة الميدان، جنوبي العاصمة دمشق، سوقاً لتلك القبائل لمئات السنين، يتبضعون منها غالبية حاجاتهم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية كانت السلطنة العثمانية تعيش واحدة من أسوأ مراحلها، حيث بلغ تسلط الولاة وجنود الانكشارية على حياة الناس مبلغاً تجاوز أي حد، فالانكشاريون المتمركزون في مقاهيهم في كل حي من أحياء دمشق لم يكونوا يتورعون عن اقتراف أي شيء يخطر لأحدهم، من خطف واغتصاب النساء والأطفال، إلى وضع اليد على أي بضاعة تعرض أمامهم من دون رادع أو حسيب. وكانت قوات الإمام سعود الكبير بالنسبة للدمشقيين نافذة أمل للخلاص من أسوأ أيام كانت تعيشها مدينتهم.

علاقات دمشق التجارية مع قبائل الجزيرة العربية ضاربة في القدم، حيث كان جنوبي العاصمة دمشق، سوقاً لتلك القبائل مئات السنين، يتبضعون منها غالبية حاجاتهم، كما أن السلطنة العثمانية كانت تعيش واحدة من أسوأ مراحلها

بعد نحو قرن من الزمان، عقب نجاح ثورة جمعية الاتحاد والترقي عام 1908 في عزل السلطان عبدالحميد وإعادة العمل بالدستور المعطل منذ ثلاثة عقود، نشط الإصلاحيون العرب في إسطنبول، وبدأوا بتأسيس جمعيات عربية ذات هوية ثقافية، ولكن بعد تبلور تيار قومي طوراني وضع يده بانقلاب عسكري عام 1913 على الجيش والجهاز الأمني والدولة برمتها، وصار يجاهر بعداء العرب، ويعاملهم بوصفهم خونة، توصل أولئك الإصلاحيون إلى توافقات سياسية عامة حول تبنى اللامركزية، ولكن من دون الاتفاق على شكلها، فبينما كانت جمعية العهد ذات الهوية العسكرية تتبنى فكرة تاجين لمملكة واحدة، كانت "جمعية العربية الفتاة" ترى الفيدرالية حلاً، ومن أجل ذلك تم تشكيل حزب اللامركزية من جانب الإصلاحينن العرب المنفيين إلى القاهرة، كإطار جامع لهم. 

بحثاً عن ملك من الجزيرة العربية


ومع ذلك كان الطرفان، العسكري والمدني، يتفقان على ضرورة البحث عن زعامة من إحدى الأسر الحاكمة في الجزيرة العربية، وكانت الأنظار تتجه بشكل رئيس نحو الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الذي كان يحمل مشروعاً توحيدياً مستقلاً للجزيرة العربية، بمعزل عن العثمانيين وغيرهم، ولكن انضمام الأمير فيصل بن الحسين (الملك لاحقاً) للإصلاحيين العرب بشكل رسمي عام 1916، رجح "الخيار الهاشمي" لديهم، من دون أن يتخلوا عن "الخيار السعودي".

رسالة إلى عبد العزيز


وفي هذا الإطار كلف حزب اللامركزية واحداً من أنشط أعضائه، وهو محب الدين الخطيب، ورفيقا له من نجد هو الطالب في الأزهر آنذاك عبد العزيز العتيقي بإيصال رسالة إلى الأمير عبد العزيز آل سعود، أمير نجد والإحساء، والتفاوض معه حول التحرك العربي المطلوب في هذه المرحلة، بعد أن بلغ التطرف الطوراني ضد العرب لدى الجماعة المتغلبة في القسطنطينية مداه. 

الصورة من "اللطائف" أرشيف تيسير خلف
الأمير فيصل بن عبد العزيز مرشح لحكم سوريا


حمل الشابان الرسالة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1914، وركبا من مدينة السويس باخرة إلى عدن، ليأخذا منها باخرة أخرى إلى بومباي في الهند، ثم يقصدان الخليج العربي وصولاً إلى نجد، وكان هذا الطريق هو الأيسر في ذلك الحين. ولما وصلا إلى عدن علما أن الدولة العثمانية دخلت الحرب إلى جانب الألمان، فواصلا السفر إلى بومباي، وهناك ضربت السلطات البريطانية عليهما رقابة شديدة، إلى أن أبحرا نحو الخليج على باخرة تمر من مسقط إلى الكويت. 


كانت النية معقودة على النزول في الكويت ومنها إلى الجهة التي يوجد فيها الأمير عبد العزيز، ولكن قبل أن يسمح للركاب بالنزول في ميناء الكويت، صعد ضابط بريطاني وسأل عن القادمين من مصر، فاشار له القبطان إلى العتيقي والخطيب، ثم تقدم منهما وطلب تفتيش حقائبهما قبل أن يأمر بحبسهما في الفاو، عند مدخل البصرة، وهناك اعتقلا لمدة تسعة أشهر من دون أن يستطيعا تنفيذ المهمة، ولا أن يعرفا سبب اعتقالهما. 
كان الغرض من هذه المهمة بحسب أوراق محب الدين الخطيب، التنسيق مع الإمام عبد العزيز آل سعود حول مستقبل العرب بعد إعلان الحرب العالمية الأولى، ومفاوضته على نقاط محددة لوقاية البلاد العربية من شرور الحرب. 

 

كلف حزب اللامركزية واحداً من أنشط أعضائه، وهو محب الدين الخطيب، ورفيقا له من نجد هو الطالب في الأزهر آنذاك عبد العزيز العتيقي، بإيصال رسالة إلى الأمير عبد العزيز آل سعود، والتفاوض معه حول التحرك العربي المطلوب في هذه المرحلة

في هذه الأثناء كان ناشط دمشقي آخر من "جمعية العربية الفتاة" هو الشيخ كامل القصاب يسعى للوصول إلى مكة للتباحث مع الشريف حسين حول مستقبل العرب بعد الهزيمة المتوقعة للعثمانيين نتيجة إعلان دخولهم الحرب إلى جانب ألمانيا، حيث لعب الشيخ القصاب دوراً كبيراً في إعلان الثورة العربية في مكة. ولكن الشيخ القصاب، وبعد أن لمس لدى الشريف حسين نزعة للتفرد، وأن لديه قنوات خاصة مع الإنجليز، بمعزل عن توجهات الثوار العرب، نفر منه وأصبح من أشد أعدائه، ومن أكبر مناصري "الخيار السعودي". ومن القصص الطريفة التي تروى في هذا السياق أن الشيخ كامل أسس مدرسة ثانوية خاصة في مكة على النسق الحديث، وكان برنامج المدارس في ذلك الوقت يتضمن تقديم عمل مسرحي في نهاية الفصل.

وفي أحد الفصول دعا الشريف حسين لحضور مسرحية بعنوان "الحق والباطل" عن ظلم حاكم، والمقصود به الحكم العثماني، ولكن الشريف انزعج جداً، وأمر بإيقاف المسرحية ووبخ الشيخ كامل معترضاً على بث الأفكار ضد الحكام بين الطلبة. وكانت هذه خيبة أضيفت إلى الخيبات الأخرى من الشريف حسين. 

احباط من الهاشميين 


وكما هو الحال مع الشيخ كامل القصاب، توصل محب الدين الخطيب الذي كان قد بدأ بتأسيس جريدة "القبلة" في مكة، والإشراف على الإعلام في الدولة العربية الناشئة، للنتيجة نفسها، أي وهم المراهنة على الشريف حسين، نظراً لارتباطه العضوي بالإنجليز، وحصر مفاوضاته معهم بضمان الحكم لأبنائه، بمعزل عن أهداف الثوار العرب وتضحياتهم.

أرشيف تيسير خلف
صفحة من "اللطائف"


ومع سقوط السلطنة العثمانية، وإعلان الدولة العربية في بلاد الشام على يد الأمير فيصل بن الحسين، التفَّ السياسيون السوريون من رواد الحركة العربية حوله، وتأملوا أن يجلب لهم الاستقلال في بلاد الشام الموحدة، من العريش إلى كيليكية، كخطوة أولى نحو فيدرالية تضم جميع دول المشرق العربي. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ يتكشف لهم استعداداه للتنازل عن هذا المطلب مقابل اعتراف بريطانيا وفرنسا به ملكاً، وخصوصاً استعداده للتنازل عما كان يسمى سوريا الساحلية، من لواء إسكندرون إلى رفح. وحصر مفاوضاته بسوريا الداخلية. 


رسالة ثانية


وهنا عاد "الخيار السعودي" ليطل برأسه من جديد، فتم التوافق بين المتشككين في نوايا فيصل وعلى رأسهم الشيخ رشيد رضا وتياره بإرسال الشيخ محمد بهجت البيطار، وكان شاباً يومها، برسالة شفوية إلى "أمير نجد والإحساء" عبد العزيز آل سعود في شهر فبراير/شباط عام 1920، أي قبل سقوط دمشق بيد غورو يوم 25 يوليو/تموز 1920، وللتمويه على هدف المهمة الأصلي، وهو استعادة العلاقة مع الأمير عبد العزيز وإعادة إحياء "الخيار السعودي"، حمل البيطار رسائل أخرى للأمير علي بن الحسين، وكذلك رسالة بروتوكولية من الأمير فيصل إلى الأمير عبد العزيز. 


وقد كتب الشيخ البيطار عن وقائع رحلته نصاً جميلا حققناه عام 2009، وصف فيه مكابداته وفشله في لقاء الأمير عبد العزيز، ولكنه استطاع إيصال الرسالة إليه عن طريق الشيخ شلاش النجدي. وكانت رسالة سرية ذات مطالب ونقاط محددة حيث يقول: "ولقد ذاكرني السيد (رشيد رضا) مذكرات، لأشافهكم بها، فكتبتها في ورقة خاصة مشار إليها بالأرقام، وأرجو كل الرجاء أن تجيبوني عنها كتابة باختصار، حتى أسرد تلك الأجوبة للسيد، قياماً مني بتمام الخدمة، ووفاء بواجب الذمة، وعسى أن يسبغ الله بكما على المسلمين النعمة، ويدفع عنهم البلاء والنقمة. وأكرر رجائي في أن تأمروا بكتابة جواب مختصر على المذكرات، ويفصله لي مؤتمن من طرفكم تفصيلاً إذا شئتم واقتضى الأمر ذلك".


لم يفصح أحد عن مضمون تلك الرسائل السرية، ولكن مسار الأحداث يشير إلى أن الأمير عبد العزيز آل سعود، وانطلاقاً من واقعيته السياسية، وإدراكه لتعقيدات الوضع في بلاد الشام، حصر اهتماماته في محاولات استعادة حدود الدولة السعودية الأولى في عهد سلفه سعود الكبير. ولم يخف التيار السوري الذي تعمقت معاداته للمشروع الهاشمي تأييده ومباركته لبسط الدولة السعودية سيطرتها على إقليم الحجاز، حيث قال رشيد رضا خلال مشاركته في المؤتمر الإسلامي العام الذي دعا إليه "سلطان نجد" عبد العزيز آل سعود في موسم الحج لعام 1344 الموافق لعام 1925: "ما وُجِد في بلاد العرب بعد صدر الإسلام مَن يقدر على حفظ الأمن في الحجاز ونجد مثل السلطان (عبد العزيز)".
 

مع سقوط السلطنة العثمانية، وإعلان الدولة العربية في بلاد الشام على يد الأمير فيصل بن الحسين، التفَّ السياسيون السوريون من رواد الحركة العربية حوله، ولكن شيئاً فشيئاً بدأ يتكشف لهم استعداداه للتنازل عن هذا المطلب مقابل اعتراف بريطانيا وفرنسا به ملكاً

 وكان الزعيم الوطني السوري شكري القوتلي (1891–1967)، أبرز سياسيي التيار المعادي للهاشميين، قد وجد ورفاقه، ومنهم السياسي المعروف صبري العسلي (1903-1976) في الرياض ملجأ بعد مطاردة سلطات الانتداب الفرنسي لهم إثر تأييد الثورة السورية عام 1925، وتوطدت علاقة القوتلي بالسلطان عبد العزيز الذي وافق على طلبه باستضافة ثوار جبل الدروز في الأراضي السعودية، إثر إنذار حكومة الأمير عبد الله بن الحسين لهم بمغادرة شرقي الأردن، بعد أن لجأوا إليه، فأقاموا معززين مكرمين في القريات ووادي السرحان من الأراضي السعودية. 

الزعيم شكري القوتلي 


وأثناء إقامة القوتلي في الرياض عقدت المفاوضات حول تعيين الحدود بين السعودية وشرقي الأردن، والتي توجت بـ"معاهدة حدا" في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1925. ويذكر السياسي السوري عبد اللطيف اليونس (1914-2013)، وكان مقرباً من الرئيس القوتلي، أن الأخير كانت له مواقف مشهودة إلى جانب السلطان عبد العزيز في تلك المفاوضات. 

الأمير فيصل بن عبد العزيز

صورة من صحيفة "اللطائف" أرشيف تيسير خلف
الامير فيصل بن عبد العزيز


ومن جملة الأمور التي تمخضت عنها الأحداث بعد الثورة السورية الكبرى قبول الفرنسيين عقد جمعية تأسيسية لوضع دستور للبلاد وتحديد شكل النظام، ملكياً كان أو جمهورياً. وبدأت تعلو أصوات التيار الهاشمي، الذي كان يمثله بشكل رئيس حزب الشعب، مطالبة بالانضمام للعراق تحت حكم الملك فيصل الأول، الأمر الذي ووجه باعتراض كبير من القوتلي والتيار الذي كان يمثله. وفي ذلك الوقت بدأ يطرح اسم الأمير فيصل بن عبد العزيز كمرشح لهذا التيار إن جرى التوافق على النظام الملكي. 


ويومها انتشرت في الصحف العربية صور الأمير فيصل بن عبد العزيز بوصفه ملك سوريا القادم، ويبدو أن هذه الشائعة كانت تهدف إلى قطع الطريق على "الخيار الهاشمي"، نظراً لما يمتلكه السلطان عبد العزيز ونجله الأمير فيصل في ذلك الوقت من شعبية في أوساط شريحة مهمة من السياسيين السوريين. 


وكما بينت الوقائع؛ تحقق الهدف من هذه الحملة، فقد تراجع حزب الشعب عن طرح الخيار الملكي، بعد تيقنه من أن فرص الأمير فيصل بن عبد العزيز تتفوق على فرص الملك فيصل بن الحسين، ولذلك بدأ زعيم حزب الشعب الدكتور عبد الرحمن الشهبندر (1879-1940) بالمناداة علناً بالنظام الجمهوري، واستبعاد فكرة النظام الملكي كلياً من الخيارات المطروحة. وهو ما كان. ومع ذلك لم يتوقف حزب الشعب عن تأييد "الخيار الهاشمي" في الفترات اللاحقة، وفي الوقت ذاته كان "الخيار السعودي" مطروحاً بقوة لدى الكتلة الوطنية، ولكن هذه المرة بصيغة تحالف سياسي استراتيجي.
 
    

font change

مقالات ذات صلة