هشام شربتجي.. المخرج الذي خلق التلفزيون تقريبا

ترك أعمالا خالدة في ذاكرة السوريين

هشام شربتجي.. المخرج الذي خلق التلفزيون تقريبا

كانت ولادته عام 1948، في حي "المهاجرين"، أحد أكثر الأحياء الدمشقية تنوعا في الأصول والعادات والثقافات، الحي الذي لا يملك فيه أحدٌ ذاكرة مكان واحد، ولا لباسا من منشأ واحد.

لابدّ من أن الطفل الذي في داخله راح يتأمّل التنوّع الهائل للثقافات ومن ثمّ شعر أن ما في الدمشقيين من تنوّع، ومن قدرةٍ على الاختلاف يحتاج إلى حيّز أوسع، لكي لا تكون الفوضى التي تُخلق في الشارع هي الحياة نفسها. وحينما كان يساعد أباه في مهنة الحلاقة، الأرجح أنه رأى لمحات عن كيفية انتقال الأشخاص من حيواتهم وعاداتهم في الشارع، نحو الثبات والتجمّد على كرسي الحلاق وبين يدي أبيه، ولعله تعلم باكرا المفارقة الساخرة بين مكانين وحركة الأجساد فيهما. دراسة المسرح والتخصص بالإخراج الصوتي جعلاه يلمّ بعالم الأصوات وإدارتها، ولا نعرف إن كان قد دفن خلال تلك الفترة ذاكرة الصورة المُحتملة أو المُمكنة التي خبرها في طفولته، إلى أن دفعه ياسر العظمة إلى إخراج الحلقات التي يكتبها، الدراما المكثّفة لصفحاتٍ قد لا تتجاوز العشرين، أو الخمس عشرة أحيانا، هذا التفكيك والتقطيع للزمن ناسبه دون شك.

تجربة المسرح وتجربة هشام الإنسانية جعلتاه يحوّل بعض حلقات مرايا إلى عرضٍ مسرحي مُدهش، خاصة في كسر جمود النص نحو تشكيل الشخصيّات بحيوية، وتحويل كل شخصية إلى هيئةٍ مسرحيّة على التلفزيون

البدايات

المرحلة الأولى من العمل الإخراجي استمرت نحو ست سنوات، استطاع خلالها هشام شربتجي النجاح عربيا رفقة ياسر العظمة، خاصة أن بعض الحلقات الطويلة كانت في كثافتها تقارب الفيلم القصير أو المتوسط، دون الإضاءة بالطبع على الخصائص المختلفة لكلّ من النص الدرامي والسينمائي. لكنّ الجانب الخاص للموهبة السورية في التمثيل بلا شك لمعت وأُضيء عليها على يد هشام شربتجي. بعض الحلقات كان ذات قيمةٍ محوريّة، خاصة أن عصر التلفزيون عربيا - تحديدا عصر الكوميديا- قد تأخّر وصوله للتلفزيون. في الثمانينات كان المسرح المصري جذّابا أكثر، حتى في سوريا. ليحقق التلفزيون في سوريا نقلة نوعية في الجانب الترفيهي. لكنّ تجربة المسرح وتجربة هشام الإنسانية جعلتاه يحوّل بعض حلقات "مرايا" إلى عرضٍ مسرحي مُدهش، خاصة في كسر جمود النص نحو تشكيل الشخصيّات بحيوية، وتحويل كل شخصية إلى هيئةٍ مسرحيّة على التلفزيون.

المخرج الراحل هشام شربتجي وابنته المخرجة رشا شربتجي

لم يوفّر هشام جانبا ماديا أو معنويا في الشخصية إلا وفعّله كوميديا، ليتجسد نجاحُه في نقل الكلاسيكية المسرحية على مستوى هيئة الشخوص وتجلياتها في النص: القصير، الطويل، السمين، النحيف، الأعرج، والأعمى. كل تجلّيات فيزياء الجسد استطاع تفعيلها بحرفةٍ وجماليّةٍ شكليّةٍ ممتازة إلى حد كبير، ولذلك فإن بعض مشاهد "مرايا" في ثمانينات القرن الماضي ساهم في تشكيل ذاكرة السوريين التلفزيونية. 

عراب تلفزيوني

كان للتلفزيون في العالم العربي في تلك المرحلة العديد من العرّابين، أحدهم في سوريا هشام شربتجي، في قدرته على تفعيل مكانية الصورة عند المتلقي. ولعلّ حسه الإبداعي تجلى في تحرير النقلة من المسرح إلى التلفزيون من معوقاتها. خاصة أن أبرز نجوم الدراما في التسعينات ظهروا عبر كاميرته.

بعد تجربة ياسر العظمة في مسلسل "مرايا" بأجزائه، كان مسلسل "البناء" (1990)، التجربة الأكثر تواصليّة من حيث الزمن والمكان والشخصيات، كانت الشخصيات متنوّعة للغاية، وكان أحد أول الأعمال الكوميدية الذي أخرج السوريين من حارة غوار الطوشة وأبو عنتر وياسين بقوش ورفيق سبيعي. لقد تنبّه هشام شربتجي إلى ضرورة أن الكوميديا هي كل يوم وليست الحنين الصنمي إلى ضحكات قديمة فحسب.

أثناء اخراجه أحد الأعمال الدرامية

لم تكن الكوميديا في "البناء" جذّابة بالضرورة، وقد اعتمدت على شخصية اسمها (بهلول)، واستخدمت مفارقات الشخصيات والعلامات المميزة بين الشخصيات لإنتاج كوميديا معقولة، لكن جاذبيّتها خفيفةٌ جدا، ولا تحمل محتوى تصويريّا للواقع السوري، بالكاد نقلتهم من الحارة إلى البيت. لكنّ تلك المرحلة المبكرة شهدت على أية حال صناعة المقالب المضحكة بحرفيّة، شيءٌ من طفولة هشام انفعل عبر الكاميرا، محاولا كسب الفتيان والأطفال دوما لعمله في صنع المشاهد بوصفها مقالب تعلق في ذهن الفتى والطفل قبل الكبير.

نصل إلى مرحلة التسعينات والتي شهدت ذروة هشام شربتجي التلفزيونية، سلسلة عائلة النجوم أضافت بُعدا حميميّا لن ينساه السوريون، وبرزت من خلالها جرأة شربتجي في افتتاح عصر انتشار الفضائيات العربية بعمل خمس نجوم ضمن بنية المكان الواحد والكاميرا الواحدة، ومن ثم بقيّة السلسلة التي نجح فيها بوصفه من القلائل الذين وازنوا -أمام اختناق المكان الواحد- ما بين الحوار والحركة الجسدية للفنانين، لقد أنشأ بُعدا مسرحيا للممثّلين كي لا يجعل الحوار خانقا للنص. 

المُلفت للنظر تسريب الصور خلال فترة تصوير تلك الأعمال، في كل مرة تتسرّب صورةٌ لهشام مع أحد الممثلين بقربه، يكون مُجمل نظرات الشخصيات كلها على الورق الممسوك بأيديهم، هذه الصور شكّلت دلالة مضافا إليها كلام الفنانين معه على التفصيلية في الشرح لما يُريده خلف الكاميرا. البعض شعر بأنه يقابل ديكتاتورا، والبعض بأنه يتلقى درسا في التمثيل وفيفهم لغة هشام البصرية الخاصة والمختلفة، لأن التجسّدية التي يتطلّبها هشام على الرغم من الحرية التي يتركها للممثّل مبالغٌ فيها، وفيها عقدة المثال أو الكمال، والذي أكد عليها هو نفسه في أكثر من تصريح.

سلسلة عائلة النجوم أضافت بُعدا حميميّا لن ينساه السوريون، وبرزت من خلالها جرأة شربتجي في افتتاح عصر انتشار الفضائيات العربية بعمل خمس نجوم ضمن بنية المكان الواحد والكاميرا الواحدة


توازن مع الحياة السورية

القادمون من خلفية مسرحية يرتبكون دوما مع الكاميرا ولو بدت أعمالهم ناجحة، لكن السياق الكوميدي منذ الثمانينات حتى بداية الألفين حمل أعمالا هامّة بحق، ورغم أن أغلب أعماله كوميديا مرحة، أي أن حاملها الفكري أو الثقافي ضعيف ومنعدم أحيانا، إلا أنها توازت مع شكل من أشكال الحياة السورية أصلا. لا يُمكن لأعمالٍ فنيّة ترتبط بالمال والاستهلاك، وفي مجتمعٍ مقموع، أن تتطوّر في سياقٍ أكثر تنويريّة أو أهمية. والعمل الأول مع ياسر العظمة ونصوصه جعل تجربة هشام شربتجي تتطور على مستوى تنويع الشخصيات أكثر مما على مستوى المعالجة الدرامية. فهشام ينجح في الثيمة الواضحة للعمل، ويحاول خلق البُعد الجمالي اعتمادا على النص والعلاقة الحرة مع الممثل، ثمرة أعماله الكوميديّة تشي بهذا. 

 بعض الأعمال لا يُمكن نسيانها، وهذا ليس تميزا له فحسب، بل طبيعة فكرة الثقافة في سوريا والتي أصبحت تلفزيونية فقط، أي الانسلاخ عن أي جانب ثقافي، كشيوع الأدب أو المسرح أو أي حالة محاكاتية خارج إطار التلفزيون. 

 هشام جعل الدراما في لحظاتٍ كثيرة تملك ثيمات لكل تفاصيل الحياة السورية وكثيرا ما كانت المعالجة دلالة على تأخّر السوري واستحالة حياته. ليست نهاية سلسلة النجوم سوى مَقتلة سوريّةٍ مرحة. بعد ذلك بدأنا نرى العائلات التي لا تملك أي غاية اجتماعية أو أخلاقية. ولا حتى في "يوميات مدير عام" (1995)؛ التي لم تحمل معنى عميقا لفهم الاجتماع السوري، بل حوّلت مثلا الموظّف السوري إلى فاسدٍ أبدي في أعين الجميع، والموظّف في مسلسل "بطل من هذا الزمن" (1999) بأنّه مُعاقَب وغير مُحترم، وفقير إلى الحد الذي لا يُمكن فيه أن يكون مُحترما أو مُتّزنا في الحياة.  شيء من الكوميديا التي خلقها هشام لم يراعِ السلطة العربية فقط، بل حدّد معايير عيش الناس مع سلطاتٍ مستحيلة التقدّم والتغيير.

 في نهاية المطاف كل جرأة التسعينيات وبداية الألفيّة الجديدة كانت تجارب راصدة لكنها أميل إلى الركود، كوميديا هشام لم تستطع إنتاج أي معنى جديد أو أكثر إبداعية على مستوى الأثر. 

مُتعبة الكوميديا لأنها تستوجب تفاصيل أكثر يتدخل فيها المُخرج، إضافة إلى عجزها أمام مجتمعٍ راكدٍ لا يتغيّر، يجعل الكوميديا أمرا صعبا. كوميديا المفارقة والحدث والشخصية كلّها جربها هشام، ومع التجارب الدرامية حاول نقل كاميرته اعتمادا على النص والتكوين الذي يمكن إضافته لسياق يكون فيه الممثل أكثر عرضة أمام الكاميرا لإخراج الشخصية المكتوبة إلى العالم بتصوّراتها وتفاصيلها. لكن اتّضح بشكل جلي أن ما فقده في العمل الدرامي الاجتماعي، قدرته على التدخل في تكوين الشخصيات وزخرفتها على المستويات كافة، لكنه نجح دون أدنى شك في صنع بصمةٍ أيضا، خاصة ضمن الثيمات الممُكنة والتي يمكن فيها كشف واقع كان دائما غير سوي في الساحة الاجتماعية السورية. 

الجيل الذهبي

في الألفية الجديدة عمل شربتجي مع الجيل الذهبي لكتّاب الدراما السورية حسن يوسف ونجيب نصير لتكون مسلسلات مثل  "أسرار المدينة" (2000) و "أيامنا الحلوة" (2003)، ولتتشكل تجربة جدّية في الخروج من الكوميديا وأي أثر حدثي أو مشهدي لها، فكانت النتيجة مختلفة إلى حد كبير، خاصة في توازي ثلاثة عقول كلاسيكية في البناء الدرامي والمشهدي. حرص هشام دوما على اقتناء فعل مركب للشخصية عبر لغة الكاميرا، لكل شخصية بُعدها نحو العالم من الكاميرا، لأنها ترصده ماديا قبل فكرته التي يمكن قولها. 

السنوات التالية حملت لهشام أعمالا متوسطة، الجيل الثاني من المخرجين السوريين تغيّرت تجربتهم في القرن الحادي والعشرين، لتغيّر جسد الدراما نفسها ومنتجيها ومُستهلكيها أيضا. في العشر سنين الأخيرة من حياته كانت مقابلاته وتتبعه عبر المقابلات أمرا شاقا، تملّص من وجوده خلف الكاميرا نحو التحدّث أمامها، لم تكن آراؤه إلا ذات جدل، وخلافاته الكثيرة وأراؤه عن كل شيء امتلكت بُعدا نزاعيّا، شيء من هذا اعتاد عليه في سياقاتٍ قديمة، كخلافه لفترة طويلة من الزمن مع ياسر العظمة، أو أيمن رضا. لكن في نهاية المطاف لا يُمكن فهم التجربة إلا في سياق طويل ومُمتد. ألقابه التي رفضها مثل "شيخ الكار" وغيرها خُلقت له من لاوعي جمعي بإحساس الممثلين الذين عملوا معه بأنه حقّق نقلة نحو التلفزيون وهو يُمسرِحُه. بعض المسرحيّات أيضا يتذكّرها الجميع في دمشق، وهو بحد ذاته شعر في كل مقابلةٍ له بحرقةٍ لأنه ترك المسرح، وبدأت لفظة الموت ترتبط بغصّة المسرح الذي فقده لأنه وبحسب وصفه "المثال الحقيقي والكمال الحقيقي ومن المُخجل تركه. ولأنه الحقيقة علينا ألا نعمل بهِ بسهولة".

 لن يوازي أعمال شربتجي الكوميدية في ذاكرة الحميمية السورية سوى مسلسل أو اثنين. ما يكفي كي يُحترم ما تركه من ذاكرة، ومغامرته الموهوبة في جعل الأجساد تتحرّك دوما، وأن يكون للفن الكوميدي جسده الذي يملك أبا

بصمة دائمة

هرب من المسرح، ثم لم تعد الساحة تتّسع لكاميرته بطريقة يُحبها، كان الاندفاع للعمل دوما يجعله أقل مقدرة على تخزين الشغف، ومحدوديّة الشغف أحيانا تأتي من العُمر والتغيّرات التي طرأت على العالم كُلّه. أفضل ما في هشام شربتجي أنه في سنواته الأخيرة ظهر تماما، مقابلاته تدل على شخصِه، لا نتاجَ عمله وفنيّته، وهذا إنصافٌ له ولمترقّبي الفن، أن كاميرته منفصلة عن ظهوره أمام كاميرا أخرى يقول فيها ما يُريد. سنشاهد كثيرا نقادا لشخصه وآرائه، لكنْ موضوعيا يظلّ هشام شربتجي صانعا حقيقيا من صناع التلفزيون السوري، وقدرته الفنية الهائلة على مسرحة الممثلين عبر التلفزيون لا تنسى، فمن ينسى سامية الجزائري، وياسر العظمة، وباسم ياخور، وأيمن رضا، ودريد لحام، وحسام تحسين بك … لا أحد بالطبع، لكن كُل هذه الشخصيات ازداد تطوّرها لأن مُنتج اللقطة في الزمان والمكان كان هشام شربتجي. في كل مرة كان صراعه صراع البداية.

في موته تذكّر الجميع رحلته نحو التلفزيون، أكثر من تذكّر كيف كان عنيفا في رأيه وذا نزعةٍ غاضبة ورأي صريح وجارح. ومهما مرّ على الرجل من نزاعات تبقى أعماله أكثر الأعمال السورية بقاء، ولن يوازي أعماله الكوميدية في ذاكرة الحميمية السورية سوى مسلسل أو اثنين. ما يكفي كي يُحترم ما تركه من ذاكرة، ومغامرته الموهوبة في جعل الأجساد تتحرّك دوما، وأن يكون للفن الكوميدي جسده الذي يملك أبا.

font change

مقالات ذات صلة