ريختر الأغنية السعودية

عن طلال مدّاح الذي صار "صوت الأرض"

Albane Simon
Albane Simon

ريختر الأغنية السعودية

"يا قمرنا يا قمرنا

ليه تسيبنا يا قمرنا

رحت تسهر يا قمر، وسبتنا على الأرض ليه... يا قمرنا"

1973: كان طلال مدّاح يقف على إحدى أعظم خشبات مسارح الغناء العربي، مصر، التي تقدّم عباقرتها وأصواتها للغناء في العالم العربي.

في تسجيل للحفل الغنائي، تشير يد طلال إلى الفرقة الموسيقية بالإعادة. يعدّل نظارته الطبية. ينقطع عن الغناء لأن "كورال" الأغنية أعاد مقطعا في غير مكانه. يقول كلمة ويتوقف، ليتأكد من "الستاند" لكنه لا يُكمِل. حين يتأكد من أن الفرقة بكاملها ذهبت إلى مكان لا عودة منه، يخرج عن الجميع في عالمه الخاص ويذهب برفقة بيت النميري:

لي في محبتكم شهود أربع

وشهود كل قضيةٍ إثنانِ

يخرج ليعيد الفرقة بأكملها إلى درس المقامات. يخرج خروج المعلّم الذي يعرف مواقع القمر، "قمرنا"، ولمعة النجوم ودورة أفلاك الموسيقى، دون أن يخفي ابتسامته عن العازفين، ليعدّلوا من هندام آلاتهم.

كادت الأغنية أن تتوقف، إلى أن اقترب من المايسترو وعازف القانون، الذي حاول أن يشرح لطلال في وسط الأغنية الأخطاء التي وقع فيها الجميع، ويلتفت بنوتته حاملا سجلاتها ليشرح لمن خلفه من العازفين.

إلا أن طلال يُكمل الغناء:

"النجوم تحمل رسايل"، مشيرا بيده إلى السموات.

بعدما انتهى طلال من "مواله" الثاني، اضطر لضبط الإيقاع والكورال بضرب كفيه معا لتعرف الفرقة الإيقاع الذي سيبدأ به المذهب، وليصبح الأستاذ والمايسترو والإيقاعات وبحة الأوتار وهواء الناي.

كتب أحد المعلقين على تسجيلات الأغنية في "يوتيوب" هذه القصة عن الأغنية:

"في حفل صوت العرب العشرين تمت دعوة طلال مدّاح ليشارك في الحفل كأول خليجي، وكان طلال سيقدم أغنية بكلمات وألحان سعودية، لكن بليغ حمدي قدّم لطلال لحنا لأغنية "يا قمرنا".

وافق طلال وتم عمل البروفات لكن بليغ عدّل اللحن في اللحظات الأخيرة.

لم يسعف الوقت طلال ولا الفرقة لعمل البروفات الكافية له، وحدثت "لخبطة" من الجانبين، لطلال الذي حفظ اللحن السابق وتغير في وقت قصير، وللفرقة التي لم تتمكن من اللحن بعد.

ارتجل طلال في الأغنية "موالين" لتلافي عدم تناغم الفرقة معه، وتمكن من تدارك الموقف، أو بعضه على الأقل. انتهت الحفلة وعاد طلال إلى السعودية وقوبل بهجوم لفشل الأغنية.

كان رأي طلال مختلفا، فالاغنية نجحت في مصر لكن الإعلام المحلي ضخم الموضوع.

اعتزل طلال الناس واتفق الأمير محمد العبد الله والأمير بدر بن عبد المحسن والموسيقار سراج عمر على إقامة معسكر إعدادي لطلال في الحفلة المقبلة، وفعلا تمت دعوة طلال في العام التالي عام 1974 في حفل صوت العرب الـ21 ليشارك مع العندليب عبد الحليم حافظ في حفل نادي الترسانة في القاهرة أمام أكثر من 50 ألف متفرج.

مع الأمير محمد العبدالله الفيصل والموسيقار سراج عمر، حصل التحدي الكبير الذي رمم جراح الحضور السابق، وقدم طلال رائعته "مقادير" لتنجح نجاحا منقطع النظير وسط استقبال هائل من الحضور، وليخطف هو الاضواء كعادته، ويثبت للناس أنه صوت الأرض قاطبة

التحدي الكبير

مع الأمير محمد العبدالله الفيصل والموسيقار سراج عمر، حصل التحدي الكبير الذي رمم جراح الحضور السابق، وقدم طلال رائعته "مقادير" لتنجح نجاحا منقطع النظير وسط استقبال هائل من الحضور، وليخطف هو الاضواء كعادته، ويثبت للناس أنه صوت الأرض قاطبة، رحمة الله عليه ورحمة الله على سراج عمر ومحمد العبدالله الفيصل.

هذه القصة رواها أحد المعلقين مع اختلاف بسيط وبعض التدخّلات لكي لا يختلّ الأمر، على الرغم من وجود سيناريو آخر للحكاية كلها.

الكثير من محبي طلال مداح "يروون" قصصا عنه، قصصا لأغنياته ولصداقاته ولموسيقاه ولإنسانيته ولبساطته.

للذي يريد أن يبحث أو يستمع أو يقرأ، سيجد طلال متاحا بكل تفاصيله، لذا فإن الكتابة عنه محفوفة بالأخطار، خطر التكرار وخطر رواية ما لم يحدث، مجازفة الاستماع إلى الروايات الشفهية التي تصدر من عاشقيه.

الخطأ، إن ارتُكب في الكتابة، حتى وإن كان صغيرا وغير متعمد، سيصبح خطأ فادحا لا يمكن أن يمر مرور الكرام.

Albane Simon

في الأسطورة

لم تُترك لأبي عبدالله أي شاردة تفلت من قلوب الناس، فقد تتبعوه في حياته كلها، حفظوها ودوّنوها واحتفظوا ببعض أسرارها، وهذه خاصية تميّز بها بعض "مراجع" تاريخ طلال مدّاح الفنية والشخصية. أصبحت سيرة أبو عبدالله "ملكية" خاصة نادرا ما يفشون بها أو تتسرب منهم قطعة من حياته وموسيقاه. 

المحظوظون فقط هم من يستمعون ولو من قبيل المصادفة إلى رواية شفهية عن أحد مواقفه أو إحدى أغنياته النادرة وقصتها.

بعد عام 2000 وهو العام الذي لم يكمل فيه طلال أغنيته الأخيرة على خشبة المسرح، بدأت حياة الراحل تدخل قائمة الأساطير.

رحلته امتدّت منذ أوائل الستينات تقريبا حين غادر الطائف ليزرع ورد الأغنية السعودية في "وردك يا زارع الورد". ولم تنتهِ الرحلة عند ذلك الحدّ، حيث تبنى محبوه ومرافقوه على مستوى العالم العربي كله، جمع الشتات والروايات والقصص، بعضهم كان يهوى ترديدها ونشرها، وبعضهم اعتبرها سره الخاص ليسرّب منها ما يراه ممكنا دون أن يخدش احتفاظه لنفسه بحق هذا السرّ.

على الرغم من أن طلال مدّاح كان معلنا للكل.

في إحدى الشهادات التي تلفت الانتباه، ما قاله بليغ حمدي حين سئل عن "صوت" طلال: "مفيهوش فهلوة".

هذا الوصف المتفرّد من حارس الموسيقى العربية، دقيق ومعبّر وأخاذ، كان لا يمكن أن يصدر عن أي شخص لو لم يقله بليغ.

الكثير من محبي طلال مداح "يروون" قصصا عنه، قصصا لأغنياته ولصداقاته ولموسيقاه ولإنسانيته ولبساطته. للذي يريد أن يبحث أو يستمع أو يقرأ، سيجد طلال متاحا بكل تفاصيله

قصب الأرض

صوت طلال خامة من قصب الأرض وطينها وتربتها المغموسة بالماء، شيء يصعب وصفه ولا يمكن نسيانه. 

حتى "راء" الكلمات على الرغم من خطأ مخارجها، تحولت إلى أيقونة في الكلمات وفي أصوات من يرددون أغانيه.

الشغف العظيم للغناء، لم يخالطه زيف النجومية ولا لمعانها.

حين تستمع إلى أحد محبي طلال يتحدث، تشعر أن كل أغنية غنيت له بشكل خاص، وأنها تلامسه هو وتضع يدها على قلبه.

طلال ليس الوحيد الذي غنى بكل ألوان المملكة وتراثها، لكنه الوحيد الذي دخل قلب كل ساكنيها بتنوع ذائقاتهم.

إنه مقياس "ريختر" الذوق المحلّي على أقل تقدير، فما دون 9 درجات في تقييم سماعك له، فذائقتك محل شكّ وعليك إعادة حساباتك.

هذا التطرف العنيف صنعته شخصية طلال الفنية والإنسانية حبا به وله، وتقديرا من الناس لما قدمه لهم.

نوافذهم مفتوحة لتاريخه، أبوابهم مشرعة لموسيقاه، قصائد شعراء أغنيته خالدة في وجدانهم.

لا يوجد شَعر امرأة لم يُسرّح على صوت طلال، ولا بحة أب غائب لم تنبت في ذاكرته عشبة من أغنية، ولا أم تُعدّ وجبة صباح دون أن تضع ملح أصابعها في مقطع لأغنية تحبها.

لا فتاة ولا شاب عاصره أو لم يعاصره، لم يرسل لمن يحبه "راء" مزيّنة بالقلب عبر سناب تشات أو واتساب أو رد في تويتر أو غلاف لصورة في إنستغرام.

طلال صوت الحضور في الغياب، صوت الحب في الحرب، صوت الوداعة في التوحش، وصوت الطمأنينة في مواجهة التهوّر في ابتلاع الحياة.

font change

مقالات ذات صلة