ذهبُ مصر مع صراع السودان ... ذهبَ

أنفق المصريون نحو مليار دولار على شراء المعدن الاصفر خلال الربع الأول

سبائك من الذهب والعلم المصري

ذهبُ مصر مع صراع السودان ... ذهبَ

حال تجارة الذهب في مصر متأرجحة متقلبة مذ تواترت دورات الأزمة الاقتصادية والنقدية في البلاد. لكن الضربة الكبرى جاءت مع الصراع العسكري في السودان، ما أثر سلبا على الاقتصاد المصري المنهك ووضعه المتأزم، والذي يعاني من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية التى ضغطت على قيمة الجنيه في مقابل الدولار، وباتت بوادر تعويمه الكامل تلوح في الأفق لعدم تمكن احتياط النقد الأجنبي من استعادة عافيته تزامنا مع ارتفاع التضخم الى معدلات قياسية.

ويبدو أن الحرب الدائرة بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع"، والاضطرابات السياسية الحالية، قضت على أي أمل بانتعاش قريب، فكان لها تأثيرات كبيرة على كميات الذهب التي تتجه من السودان إلى مصر، ليساهم الصراع العسكري المتفاقم في السودان في نقص المعروض من الذهب فى السوق المصرية، مما أدى إلى تذبذب قوي في أسعاره، مع ارتفاعات صاروخية جراء عدم الثقة بالمستقبل وفي العملة المحلية. واستطاع ذهب السودان أن يكون حاضرا بقوة على طاولة نقاشات المصريين وهمومهم، وهم الذين سارعوا إلى اقتناء السبائك والعملات الذهبية، عقب تراجع استيراد الذهب من خلال السياحة السودانية الوافدة إلى مصر ومن خلال القادمين إليها بغرض العلاج. وبات الذهب يُتداول داخليا فى مصر فأصبحت السوق منغلقة على نفسها، مما أثر في طبيعة الحال على المعروض منه. وتوقف الذهب عن كونه سلعة مسعّرة وفق عوامل وأسس محددة كالسعر العالمي وسعر صرف الدولار في السوق المحلية، ليخضع للعرض والطلب العشوائي، وتشهد سوق المعدن الأصفر تلاعبا على أيدي تجار يحددون أسعاره وفقا لأسعار السوق الموازية للدولار، في ظل احتكار نحو أربع إلى خمس شركات لسوق السبائك في مصر. وأضحى من يمتلك الذهب هو القادر على تسعيره.

AFP
منجم ذهب في الصحراء السودانية، 800 كم شمال شرق العاصمة الخرطوم، في 3 أكتوبر 2011.

في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، دوليا ومحليا، وعلى الرغم من الارتفاعات القياسية في أسعار الذهب، أنفق المصريون 986,6 مليون دولار على شراء الذهب خلال الربع الأول من السنة الجارية، أي بارتفاع 34 في المئة عن الفترة نفسها من العام المنصرم، بحسب التقرير الصادر عن مجلس الذهب العالمي، وقدّر التقرير حجم طلب السوق المصرية من المعدن النفيس بنحو 16,2 طنا خلال الشهور الثلاثة الأولى في مقابل 12,2 طنا خلال الفترة نفسها من 2022.

أنفق المصريون 986,6 مليون دولار على شراء الذهب خلال الربع الأول من السنة الجارية، أي بارتفاع 34 في المئة عن الفترة نفسها من العام المنصرم

مصر في المرتبة الثانية

تحتل مصر المركز السابع فى قائمة الدول الأكثر إقبالا على شراء الذهب بحصة تمثل 2 في المئة من الطلب العالمي الإجمالي، وأشار التقرير إلى تصدر مصر قائمة الدول العربية الأكثر إنفاقا على شراء المعدن الأصفر، إلا أنها جاءت فى المركز الثاني في منطقة الشرق الأوسط مع تقدم إيران. ووفق التقرير، تضاعف الطلب على السبائك والجنيهات (الليرات) الذهبية في مصر إلى 7 أطنان خلال الربع الأول من السنة الجارية، إذ جاء المصريون في المرتبة الخامسة في العالم من حيث ارتفاع الطلب عليها للتحوط من التضخم وليس للزينة، بعد تركيا، والصين، واليابان، وإيران، باعتباره إدخارا جيدا وملجأ لحفظ القيمة في الأزمات، مع وصول سعر الدولار في السوق الموازية إلى ما بين 36 و39 جنيها، بينما يستقر في السوق الرسمية عند 31 جنيها، ويزيد في العقود الآجلة على 49 جنيها.

AFP
تصنيع المجوهرات في ورشة لتصنيع الذهب في القاهرة

فاقم تأزم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتضييقه على الحكومة المصرية الضغوط على الاقتصاد المصري، بمطالبات وصلت إلى حد وقف المشاريع القومية العملاقة، التي هي في الأصل المبرر الرئيسي لاستدانة الحكومة الحالية على أمل النهوض بالاقتصاد كما تصرح، والتحرير الكامل لسعر الصرف، الذي يعتقد على نطاق واسع أنه سيدفع بالدولار الى مستويات قياسية جديدة أمام الجنيه. أمام هذا الواقع، تتحرك فئات واسعة للتحوط من التضخم، وتراجع قيمة العملة الحالي والمرتقب، من خلال زيادة حيازاتها من الأصول التقليدية وفي مقدمها الذهب. وهذا ما تعكسه زيادة الإقبال على شراء منتجات الذهب الخام، ونصف المشغول، كالسبائك، والجنيهات الذهبية، على حساب المشغولات الذهبية، كالحلى والمجوهرات.

عقب تفاقم أزمة الذهب في مصر، ولتحقيق التوازن المنشود بين الأسعار المحلية والعالمية، ولتعويض نقص المعروض في السوق المحلية وتهدئة الأسعار، سارعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ عدد من الإجراءات أبرزها إصدار مشروع قرار في شأن إعفاء واردات الذهب بأشكال نصف مشغولة، وتلك المُعدّة للتداول النقدي والحلى والمجوهرات وأجزائها من معادن ثمينة، وتلك التي ترد مع القادمين من الخارج، من الضريبة الجمركية والرسوم الأخرى، في ما عدا الضريبة على القيمة المضافة التي تقدر بنحو 14 فى المئة من قيمة السلعة المصنّعة، على مدى ستة أشهر. وبدأت البورصة المصرية  أخيرا في عرض سعر الذهب  على موقعها الإلكتروني بالتعاون مع شركة "غولد نت" للتجارة  بهدف توفير سعر استرشادي للأسواق المحلية.

كما أطلقت الهيئة العامة للرقابة المالية، أول صندوق للاستثمار في الذهب والمعادن الثمينة، يسمح للمؤسسات والأفراد بالاستثمار في المعدن الاصفر، من دون شرائه، ولكن عبر وثيقة صادرة عن الصندوق تحدد كمية الغرامات التي يمتلكها كل مستثمر، وتديره شركة "إيفولف أزيموت" (Evolve Azimut) التي حصلت على موافقة الهيئة العامة للرقابة المالية لإطلاق الصندوق. ومن المقرر البدء بالجولات الترويجية للصندوق قريبا، ومن ثم فتح باب الاكتتاب فيه للمستثمرين، وستتولى شركة "كاتاليست" لخدمات الإدارة، عملية تسعير وثيقة الاستثمار في الصندوق بشكل يومي بناء على معدلات الإقبال والتداول، وفقا لـ"الشرق بلومبرغ".

اشترى المصرف المركزي المصري 44 طنا من الذهب في عام 2021، ما حفز المصريين ايضا على اقتناء المعدن النفيس في ظل الأزمة النقدية الراهنة

الذهب بيت الأمان في الأزمات

ولفت الخبير الاقتصادي ورئيس أبحاث السوق لدى شركة "بيليون إيجيبت" طاهر مرسي، أن للذهب في السودان وضعا خاصا سواء قبل انفجار الصراع الحالي أو أثناءه، وحتى بعد انتهائه. فقد كان ذهب السودان حاضرا بقوة على طاولة النقاش خلال الفترة الماضية بسبب تصدره قائمة الذهب المهرّب من أفريقيا، والمستخدم في عمليات غسيل الأموال، والتجارة المشبوهة، التي طالت العديد من الدول. 

وفي دولة ذات اقتصاد هش تعتمد على تجارة السلع، قال مرسي لـ"المجلة": "يمثل الذهب عنصرا مهما زمن الحروب والصراعات، حيث تزداد فرص القوى المسيطرة على مناطق إنتاج الذهب في الحصول على السلاح وتعزيز قدراتها العسكرية، من خلال مبادلته مع كثير من الشركاء، والتجار الإقليميين والدوليين". وذكر على سبيل المثل، التقرير الذي تم نشره في أغسطس/آب 2022، وأشار إلى وصول قيمة الذهب المهرّب من السودان إلى روسيا وحدها إلى نحو 13,4 مليار دولار، وكان الهدف بالطبع تعزيز القدرات العسكرية لأحد الأطراف، وتحقيق التفوق النوعي المطلوب لإحكام السيطرة على الأمور هناك وسط موجة من الانتقادات الداخلية والخارجية. في حين اعتبر مرسي أن تأثير الأزمة على السوق المصرية هو في حقيقته أزمة ثقة.

للمزيد إقرأ: السودان ... الصراع على الذهب

ورأى أن الدولة أخذت اتجاه الأفراد نفسه للحد من أزمة احتياط العملات الأجنبية، وأزمة العملة المحلية، من خلال شراء الذهب، حيث اشترى المصرف المركزي المصري 44 طنا من الذهب في عام 2021. وربما يكون هذا الاتجاه الرسمي أحد محفزات الأفراد أيضا للإقبال على الذهب كنوع من التحوط، معتبراً أن هذا التوجه أدى إلى خلل في العرض، في دولة معروف أنها تعتمد بشكل كبير على استيراد الذهب لتعويض النقص في السوق المحلية وتلبية الطلب المتنامي، وهذا ما أدى إلى ازدياد استغلال بعض التجار الكبار، بحسب مرسي، الذي أفصح عن مواجهة صندوق الاستثمار في الذهب الكثير من العقبات والمناقشات، تتلخص في آليات التنفيذ، والجهات التي سيتم إسناد الأمر إليها، مع ارتفاع التخوفات من التأثيرات السلبية الممكنة، في دولة لا تزال تعتمد آليات تقليدية في أسواقها المالية، مع سلوك استهلاكي متحفظ لجمهور المتعاملين.

في المقابل رأى الصائغ نبيل سامي أن الأزمة السودانية أثرت بشكل سلبي على سعر الذهب في السوق العالمية، كما أثرت على المعروض في السوق المصرية، وصرّح لـ"المجلة": "إن غالبية السودانيين الوافدين الى مصر سواء للسياحة أو للعلاج أو للدراسة أو للعمل، تكون أموالهم عبارة عن ذهب يتم بيعه في مصر. ومذ بدأت الحرب في السودان منتصف أبريل/نيسان الماضي، انعكست تلك العوامل على المعروض من الذهب، فضلا عن حالة عدم اليقين في الأسواق والترقب لتحركات الدولار وتراجع الفائدة الحقيقية في المصارف على خلفية ارتفاع معدلات التضخم، أدى إلى لجوء نسبة كبيرة من المواطنيين إلى سحب مدخراتهم واستثمارها في شراء السبائك والعملات الذهبية باعتبارها أحد أهم الملاذات الآمنة للادخار"، ولمّح سامي إلى توافر سيولة نقدية في الأسواق نهاية مارس/آذار الماضي بعد استحقاق شهادات ادخار الـ18 في المئة التي وفرت ما يقارب 885 مليار جنيه في الأسواق.وعلى الرغم من تلك السيولة وامتلاك محلات وشركات الذهب في مصر مخزونا كبيرا من المشغولات الذهبية، فإن سوقها تشهد حالة ركود غير مسبوقة، وهي التي تحقق ربحيتها من المشغولات الذهبية بشكل أكبر من السبائك والعملات الذهبية. وتوقع أن يؤثر قرار الحكومة حول الاعفاءات الجمركية إيجابا على المعروض، ومن ثم مواكبة الأسعار العالمية.

font change

مقالات ذات صلة