في الفظاظة

في الفظاظة

منذ انتقلت إلى برشلونة في إسبانيا، مقاما ومستقرا أخيرا لي ولعائلتي، كثيرا ما أسأل لماذا اخترت برشلونة أو لماذا اخترت إسبانيا؟ جوابي على ذلك لا يستحضر الكلام العمومي حول الحرية والديمقراطية، فأنا لا يطغى عليّ الجوع إلى التعبير بقدر ما يطغى الجوع إلى الصمت، ولا الكلام السياحي حول الشمس والبحر و"الكامب نو" فأنا من ملتزمي البيت أغلب الأحيان وحتى في البيت أجدني معظم ساعات اليوم ملتزما بقعة واحدة في غرفة، أو حول الحوافز الاقتصادية والمعيشية وفرص العمل التي لا تزال منخفضة هنا كما في أماكن أخرى في هذه الأزمنة العجفاء العصيبة.

جوابي غالبا ما يتكون من كلمة واحدة: اللطافة. أقول: الناس هنا لطفاء، ولا أقصد اللطافة بمعنى التهذيب أو الاحترام، وإن كنت من محبي الأمرين، بل بمعاني "المودة والكرم والمراعاة" مثلما يشير التعريف القاموسي الإنكليزي للكلمة. أما في العربية فتحمل الكلمة معنى يكاد يكون مطابقا، فاللطف هو "البر والتكرمة والتحفي"، و"اللطيف" اسم من أسماء الله الحسنى و"اللطف من الله" هو "التوفيق والعصمة"، وهذه الرفعة والسمو في معاني اللطف هما ما جعل العرب يوازون، بحسب لسان العرب بين اللطف والهدية فيقال "جاءتنا لطفة من فلان أي هدية".

إذا كانت اللطافة في مرتبة الهدية عند العرب، فماذا نسمي، وبم نصف، عكسها، أي الغلظة والمجافاة والجلافة والقسوة، والتي يمكن لنا اختصارها بكلمة واحدة، هي "الفظاظة"، تلك التي ترد في إحدى الآيات القرآنية "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، وجميع ذلك من مفردات وألفاظ يؤدّي المعنى نفسه، ليس في العربية وحدها بل في جميع اللغات الحيّة.

 إذا كانت اللطافة في مرتبة الهدية عند العرب، فماذا نسمي، وبم نصف، عكسها، أي الغلظة والمجافاة والجلافة والقسوة، والتي يمكن لنا اختصارها بكلمة واحدة، هي "الفظاظة"، وجميع ذلك من مفردات وألفاظ يؤدّي المعنى نفسه، ليس في العربية وحدها بل في جميع اللغات الحيّة


وأشدّ ما تتبدّى من خلاله الفظاظة وتتمظهر، هو الكلام. حيث يكثّف الناس غالبا فظاظتهم في الكلمات التي يختارونها للتواصل أو التعبير عن مكنونات نفوسهم تجاه بعضهم البعض، لكن بعضهم ولشدّة تأصّل الفظاظة فيه، يمتلك القدرة على التعبير عن الفظاظة بكلمة واحدة، بل وحتى بكلمة ترحيب! وقد حدث أنني صادفت أخيراً بعد غياب سيدة زاملتها عددا من السنوات، ولم يربطني بها أيّ شعور من مشاعر الجفاء أو العداء، فبادرتها مؤهّلا مرحبا مبتسما، لتردّ بكلمة واحدة أتقنت فيها اللؤم والتجهّم والعبوس: "أهلا" ألقتها على مسامعي مثلما تلقى طلقة أو ضربة سيف، ثم مضت في طريقها، فكان للكلمة في قلبي وقع الشتيمة وخلفت في نفسي شعورا عارما بالتقزّز، وبمقت المصادفات بجميع ألوانها وأشكالها.

وإذ رويت هذه الحادثة المؤسفة لأحد الأصدقاء، ضحك وقال لي "رغم أنك لم تغب منذ فترة طويلة، لكن يبدو أنك نسيت طبيعة بعض الناس في منطقتنا، إنها الفظاظة يا حبيبي". قال ذلك كحقيقة مطلقة ونهائية، فقلت مدافعا إنها في نهاية المطاف تظلّ حوادث فردية، فقال يبدو إنك لا تدرك حجم الخراب الذي أصاب مجتمعاتنا وبات شيفرة من شيفرات تكوين أفرادها. هذا الصديق، وهو كاتب وصحافي لبناني، بات أحد أهداف حياته، مثل الآلاف غيره، إيجاد تذكرة خروج من مكان أصبح، على حدّ تعبيره "ملوثا بالفظاظة".

"إنها الفظاظة من أجل الفظاظة" يتفنن الصديق في البوح بمكنونات صدره، مستلهماً عبارة "الفن للفن" في معرض محاولته تلخيص أحوال الناس في ظلّ الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمتحنهم في يومياتهم وفي معيشهم وأخلاقهم. وهذه السمة، أي الفظاظة، هي بحسبه، أكثر ما تلمحه في تعامل الناس مع بعضهم البعض في الفضاء العام، في الشارع مثلا، وكأنّ الفظاظة باتت جدار حماية لهم، ليس من الآخرين فحسب، بل من كلّ احتمالات التعرّض للأذية، وما أكثرها. فيتحوّلون إلى صنّاع أذية بأنفسهم.

ربما يكون الأمر كذلك بالفعل. ربما كانت الفظاظة حقا سمة من سمات الأزمات وملمحا من ملامح المجتمعات المأزومة. لكنك ستجد بلدانا لا تعاني الظروف القاسية التي يعانيها بلد مثل لبنان حاليا، وستجد فيها كثرا يميلون إلى الفظاظة على نحو ما نرى شرقا وغربا من دعوات عنصرية مسمومة لطرد اللاجئين والمهاجرين الذين فروا من فظاظة بلدانهم وقسوة ظروفهم، أو من تعالٍ تجاه عمال بسطاء جاؤوا إلى بلدانهم هربا من الجوائح الاقتصادية التي ضربت أوطانهم.

 

 "الفظاظة من أجل الفظاظة" لا تعكس سوى خطاب متماد في صناعة صورة متوهّمة، في زمن يسمى عنوة بزمن "التواصل الاجتماعي"، بات فيه الجميع صنّاع صور، فلم يعد مهما حقا التواصل الذي تقيمه مع الآخرين، لأن الوحيد الذي ترغب حقا في التواصل معه، هو أنت

أما على الصعيد الفردي المحض، فإن "الفظاظة من أجل الفظاظة"، كنمط وأسلوب وواجهة، لا تعكس في الحقيقة شيئا سوى خطاب متماد في صناعة صورة متوهّمة، في زمن يسمّى عنوة بزمن "التواصل الاجتماعي"، بات فيه الجميع صنّاع صور، ولاسيما صور ذواتهم، فلم يعد مهما حقا التواصل الذي تقيمه مع الآخرين، والتفكير في جدوى هذا التواصل واحتمالاته ومسراته، لأن الوحيد الذي ترغب حقا في التواصل معه، هو أنت، والمرآة الوحيدة التي ترغب في رؤية صورتك من خلالها، هي مرآتك.

هكذا أصبحت الفظاظة ملمحا وسمة من ملامح حياتنا وسماتها. وإذا كان الواحد منا ينفق ساعات لا بأس بها من يومه ويومياته في ذلك العالم الافتراضي الذي يسمّى عالم التواصل الاجتماعي، فإنه لابدّ واقع في واحد من فخاخ الفظاظة الصرفة المذكورة أعلاه. الفظاظة الحقّة لا تتجلّى في نهاية المطاف في تبادل الكلمات والأفكار، بل في انعدام معنى هذه الكلمات وجدواها، بقطع النظر عن سبل قولها. إنها تتجلى فعليا في اللامبالاة التي رسخها سيل الكلمات والصور. إنها اللحظة التي تشعر بها أن كلّ شيء مغلف بفقاعة اللامبالاة الضخمة التي تكاد تستوعب الجميع، وفي خضم هذه اللامبالاة، يصبح تبادل الأذية شكلا من أشكال الشعور أو صراخا يعلن من خلاله المرء أنه كائن موجود وليس مجرد هواء أثيري عابر في كلمات سرعان ما تمحوها كلمات، وفي صور لا تني تلتهم ما سبقها من صور.

font change