كشوف أثرية في السعودية تعيد كتابة تاريخ الخط العربي

من بينها نقش جبل الحقون لكعب بن عمر

نقش كعب بن عمر

كشوف أثرية في السعودية تعيد كتابة تاريخ الخط العربي

كشفت هيئة التراث في المملكة العربية السعودية قبل أيام عن نقش عربي مبكر بخط الجزم، يضاف إلى سلسلة نقوش مؤرّخة توثق ظهور الكتابة العربية كما نستخدمها اليوم، وتطورها، وهي تنتشر شمالا من خربة زبد التابعة لمحافظة حلب السورية، وحتى منطقة نجران جنوبا، الأمر الذي يؤكد الدور المحوري للمناطق الغربية من المملكة في تطوير الخط العربي، بعد أن ساد اعتقاد لدى علماء الآثار لعقود طويلة أن تطوير هذا الخط حدث في بلاد الشام تحديدا، كما أن الاكتشافات الجديدة في السعودية تدحض نهائيا النظرية التقليدية للمؤرخين العباسيين، الزاعمة أن عرب الجزيرة أخذوا كتابتهم من مدينة الحيرة في العراق.

نقش جبل الحقون

أهمية النقش الجديد، "نقش كعب بن عمرو"، الذي عثر عليه في جبل الحقون، بمنطقة حمى الثقافية قرب نجران، أنه مؤرّخ، وقد حددت هيئة التراث تاريخه بعام 390 بتقويم بصرى، وهو يعادل عام 485 بالتقويم الميلادي (الغريغوري)، علما أن بعض الخبراء أشاروا إلى أن تاريخ النقش أحدث بمائة عام من التاريخ الذي حدده خبراء الهيئة. وسواء أكان تاريخ هذا النقش 485 أو 585 ميلادي، فإنه يضاف إلى نقش آخر في حمى نجران يدعى "نقش ثوبان"، يعدّ أقدم نقوش خط الجزم العربي قاطبة، إذ يعود إلى العام 470 للميلاد.

مع نقش ثوبان، انتقل مكان تطور خط الجزم العربي من بلاد الشام إلى المناطق الغربية في المملكة العربية السعودية، وقد أتى في الأيام الأخيرة "نقش كعب بن عمرو" ليعزز هذه النقلة، وليثبت محورية المنطقة الغربية من المملكة في نشوء الكتابة العربية وتطورها


يتكوّن نقش "كعب بن عمرو" من سبع كلمات وتاريخ مكتوب بالرموز الرقمية التي اقتبسها العرب الأنباط عن الفينيقيين في فترات سابقة. والكلمات تخص رجلا يدعى كعب بن عمرو بن عبد مناة. يقول إنه كتب هذا الكتاب، أي النقش، في سنة كذا. وخلافا لنقوش الجزم المؤرخة الأخرى التي كتبها عرب مسيحيون، فإن اسم صاحب النقش يدل على أنه من الوثنيين العرب، وربما كان تاجرا من شمال غرب المملكة أو من جنوب بلاد الشام، حيث يؤرخ أبناء هذه المنطقة بتقويم مدينة بصرى، وهو تقويم اعتمد في مناطق مملكة الأنباط بعد سقوطها بيد الرومان عام 106 ميلادي، ولذلك يضاف هذا الرقم إلى الرقم المكتوب بهذا التقويم لمعادلته مع التقويم الميلادي المتداول في العصور الحديثة.

نقش ثوبان

 

قبل اكتشاف نقوش الجزم العربية المؤرخة قبل الإسلام،  سادت لأكثر من ألف ومائتي عام نظرية تقول إن كتابة الجزم انتقلت من الحيرة، عاصمة مملكة المناذرة في العراق إلى مكة، ومن مكة انتشرت في أنحاء الجزيرة العربية. وصاحب هذه النظرية هو المؤرخ ابن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب، وهو مؤرخ ونسّابة كوفي شهير ولد عام 737 وتوفي عام 819  ميلادي، له كتب كثيرة تنوف على الخمسين كتابا أشهرها "جمهرة الأنساب"، و"الأصنام".

العراق ونظرية ابن الكلبي

تقول نظرية ابن الكلبي: "كان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، وكان نصرانيا، فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة، ثُمَّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سُفْيَان بْن أمية بْن عَبْد شمس، وأبو قيس بْن عَبْد مناف بْن زهرة بْن كلاب يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء ثُمَّ أراهما الخط فكتبا، ثُمّ إن بشر وسُفْيَان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة، فصحبهم غيلان بْن سلمة الثقفي، فتعلم الخط منهم، وفارقهم بشر ومضى إِلَى ديار مضر فتعلم الخط منه عَمْرو بْن زرارة ابن عدس فسمى عَمْرو الكاتب، ثُمَّ أتى بشر الشام فتعلم الخط منه ناس هناك، وتعلم الخط منَ الثلاثة الطائيين أيضا رجل من طابخة كلب فعلمه رجلا من أهل وادي القرى، فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلم الخط قوما من أهلها". وتشبه هذه النظرية نظرية أخرى عن انتقال عبادة الأصنام من العراق أيضا إلى الجزيرة العربية ومكة.

قلب نقش المابيات تاريخ المرحلة الانتقالية، فقد أكد الباحثون أنه يمثل هذه المرحلة خير تمثيل، ويعيد كتابة تاريح الأبيغرافيا العربية، فهو يصور تحولات الحروف النبطية وكيف تطورت إلى مرحلة وسطى بين عربية الحزم والنبطية المتأخرة

وتندرج هذه النظرية ضمن سعي مؤرخي الحقبة العباسية إلى جعل العراق منبع العلوم والفنون والأفكار والمعتقدات العربية، وقد سادت في جميع الحقب الإسلامية، وكانت تعد حجة لا جدال فيها حول أصل الكتابة العربية. وكان باحثو التراث العربي يعولون على مكتشفات مدينة الحيرة التي ستثبت نظرية ابن الكلبي، وهو ما لم يتحقق أبدا، إذ لم تكشف التنقيبات الأثرية في عاصمة المناذرة اللخميين عن أي نقوش أو كتابات بخط الحزم العربي تثبت نظرية ابن الكلبي ومن سار على نهجه.

 

الشام والنظرية الاستشراقية

مقابل ذلك، بدأت تتشكل منذ أواخر القرن التاسع عشر نظرية تقول إن نشأة خط الجزم العربي لم تظهر إلا في مطلع القرن السادس الميلادي في بلاد الشام تحديدا، بناء على ثلاثة نقوش مؤرّخة عُثر عليها في مناطق مختلفة من سوريا.

نقش رقوش

النقش الأول الذي أسس لهذه النظرية هو نقش مزدوج اللغة، عربي/ يوناني، عثر عليه المستكشف الفرنسي الشهير ويليام هنري وادينغتون (1826- 1894م) في قرية حران اللجاة، في جنوبي سوريا، وهو يخص شيخا عربيا يدعى شراحيل بن ظالم، أقام مقاما لأحد قديسي المسيحية تخليدا لانتصاره على يهود خيبر. وجاء في النقش ما يلي: "أنا شراحيل بن ظالم بنيت ذا المرطور (مقام الشهيد) سنة 463 (بتأريخ بصرى المعادل لـ 568م) بعد مفسد خيبر بعام". وفي النص اليوناني المرافق يسمي القديس يوحنا المعمدان.

وفي أخبار العرب قبل الإسلام التي يذكرها الطبري نقرأ إشارة إلى أن ملكا من الغساسنة يدعى الحارث بن ظالم هاجم خيبر ودمرها. بأمر من الحارث بن جبلة الغساني، ولذلك من المحتمل أن يكون الحارث بن ظالم الشهير في بعض قصص الجاهلية، هو نفسه صاحب النقش، أي شراحيل بن ظالم، اختلط اسمه باسم الحارث بن جبلة لدى الإخباريين العرب.

وبعد نقش شراحيل توالت الكشوف في بلاد الشام، ومنها النقش الأقدم العائد لعدد من الشخصيات العربية المسيحية، منها: الشرح بن مناف، وهانئ بن امرؤ القيس، والشرح بن سعد وغيرهم، بنوا كنيسة في خربة زبد، جنوبي حلب، ووثقوا تاريخ بنائها في العام 511 ميلادي، وبثلاث لغات هي: اليونانية والسريانية والعربية. وقد ساد اعتقاد منذ ثلاثينات القرن العشرين أن هذا النقش هو الأقدم في نقوش خط الجزم العربي.

كان باحثو التراث العربي يعولون على مكتشفات مدينة الحيرة التي ستثبت نظرية ابن الكلبي، وهو ما لم يتحقق أبدا، إذ لم تكشف التنقيبات الأثرية في عاصمة المناذرة اللخميين عن أي نقوش أو كتابات بخط الحزم العربي

بعد سنوات من ذلك، اكتشف في سبعينات القرن العشرين نقش في جبل أسيس، في بادية الشام، شرقي محافظة السويداء، يعود لرجل يدعى إبراهيم بن مغيرة الأوسي، أرسله الحارث بن جبلة، ملك الغساسنة، إلى صحراء السلمان مسلحة، أي دورية استطلاع في البادية، عام 529م. وبعد هذه الاكتشافات الثلاث اكتشفت نقوش أخرى بخط الجزم، ولكنها لم تكن مؤرّخة، الأمر الذي أفقدها قيمتها التأريخية، مثل نقش أم الجمال الثاني في بادية الأردن.

تاريخ جديد من السعودية

استقرت نظرية أسبقية بلاد الشام في الأوساط الأكاديمية الدولية، إلى أن ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية نقوش الجزم المؤرخة في المملكة العربية السعودية، لتعيد كتابة تاريخ نشوء الخط العربي المعاصر وتطوره، ولترجع سنوات هذا الظهور إلى القرن الخامس الميلادي.

من الناحية العلمية الأكاديمية بات "نقش ثوبان مالك"، المؤرخ عام 470 ميلادي، والمكتشف في حمى نجران عام 2011، أقدم نقش بخط الجزم العربي حتى الآن، على الرغم من حديث بعض الباحثين بأنه مشوب، من الناحية اللغوية، بالصياغات النبطية، مثل استخدام كلمة "يرح" التي تعني شهر. ويبدو أن ثوبان هذا كان مسيحيا إذ وضع علامة الصليب أعلى كتابته، وهو تقليد نجده في نقوش أخرى كثيرة بعضها غير مؤرّخ. ومع نقش ثوبان، انتقل مكان تطور خط الجزم العربي من بلاد الشام إلى المناطق الغربية في المملكة العربية السعودية، وقد أتى في الأيام الأخيرة "نقش كعب بن عمرو" ليعزز هذه النقلة، وليثبت محورية المنطقة الغربية من المملكة في نشوء الكتابة العربية وتطورها.

المرحلة الانتقالية

ومما يعزز هذه المحورية اكتشاف نقوش المرحلة الانتقالية من الخط النبطي إلى خط الجزم العربي في مدينتي الحجر والعلا شمالي غربي المملكة اعتبارا من القرن الثالث الميلادي. فقبل هذه الاكتشافات عانت دراسات تطور الخطوط العربية من وجود فجوة كبيرة في تاريخ ذلك الانتقال، على الرغم من أن الروابط بين الكتابتين كبيرة جدا، ولا تخطئها عين الدارس، لكن نقوش المرحلة الانتقالية ظلت لغزا يبحث عن حل. ورغم  احتواء نقش رقوش بنت عبد مناة المكتشف في مدائن صالح، والعائد لعام 267 ميلادي، على عناصر لغوية عربية لا لبس فيها، غير أنه مكتوب بحروف نبطية معيارية من المرحلة المتأخرة. ولذلك عدّه الباحثون من نقوش المرحلة الانتقالية لغويا وليس كتابة. وكذلك الأمر فيما يخص نقش امرؤ القيس الشهير والمعروف باسم "نقش النمارة" في بادية الشام، وهو نقش عائد لأحد ملوك الحيرة، هو الملك امرؤ القيس بن عمر بن المنذر مؤرخ في العام 328 ميلادي، ومكتوب بلغة عربية ولكن بحروف نبطية معيارية.

وذهبت الدراسات منذ عقد السبعينات للقول إن المرحلة الانتقالية من الخط النبطي إلى خط الجزم العربي تمت في جنوبي بلاد الشام، وتحديدا في منطقة العقبة، وذلك بعد الكشف عن نقوش تخص ملوكا من الغساسنة أشهرهم عدي بن ثعلبة، وهو ملك معروف في المصادر العربية. لكن نقطة الضعف في نقوش العقبة أنها غير مؤرّخة، الأمر الذي يقلل من قيمتها التوثيقية، رغم أنها تحمل الخصائص المتوسطة بين الكتابتين النبطية وكتابة الجزم العربية.

مفاجأة نقش المابيات

وجاءت المفاجأة البحثية ذات العيار الثقيل من منطقة المابيات قرب العلا في شمالي غربي المملكة العربية السعودية، لتضع هذه المنطقة في قلب حركة تطور الكتابة العربية، ولتؤكد أن فجوة "المرحلة الانتقالية" رُدمت مع اكتشاف نقش مؤرّخ يرجع للعام 280 ميلادي هذا نصه: "(..) سلام على قبر رمنة انثته (أي امرأته) بنت يوسف بن عرار الذي من قريا، والتي ماتت يوم عشرين وست بأيار سنة مائة وسبعين وخمس" بتاريخ بصرى.

وكما قلب نقش ثوبان تاريخ نشوء خط الجزم العربي، قلب نقش المابيات تاريخ المرحلة الانتقالية، فقد أكد الباحثون أنه يمثل هذه المرحلة خير تمثيل، ويعيد كتابة تاريح الأبيغرافيا العربية، فهو يصور تحولات الحروف النبطية وكيف تطورت إلى مرحلة وسطى بين عربية الحزم والنبطية المتأخرة. والأهم أيضا أنه يعود للقرن الثالث الميلادي، أي أنه أقدم دليل على بدء تطور الكتابة العربية.

وبعد هذه الاكتشافات ينتظر الباحثون الكشف عن مزيد من نقوش عربية الجزم، خصوصا أن بعض مواقع الهواة نشرت عددا منها، أحدها نقش ملكي مؤرّخ في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، ينتظر في حال تأكيده أن يميط اللثام عن تاريخ مهم من فترة ما قبل الإسلام، المعروفة في المصادر التراثية باسم الجاهلية.

font change

مقالات ذات صلة