الرياض بوصلة نهضة الصين في العالم العربي

التنين يتقدم في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا "تفرك كفيها"

Shutterstock
Shutterstock

الرياض بوصلة نهضة الصين في العالم العربي

مع كل خطوة للتقارب بين الصين ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تشعر مجموعة الدول السبع الكبار (G7) باحتمال فقدان مواقع قدم اقتصادية وسياسية، في منطقة استراتيجية تقع وسط العالم، وتحتوي على اكبر احتياطات الطاقة والمعادن المطلوبة لصناعات المستقبل في العالم.

هل قيام تحالف جديد بين مبادرة طريق الحرير الصيني، ورؤى التنمية الاستراتيجية لعدد من الدول العربية منها "رؤية السعودية 2030"، هو مجرد مصادفة؟ وهل مصادفة أيضا أن يتطور الود الصيني العربي ايجابيات اقتصادية، في وقت تشهد العلاقات مع الشركاء التقليديين بعض النفور وكثيرا من البرودة، تنعكس سلبا على حظوظ الشركات الغربية في الاحتفاظ بأسبقية الافادة من المشاريع الاقتصادية بضغوط سياسية؟

من واشنطن إلى باريس مرورا بلندن وبرلين، هناك اقتناع بأن الشرق الأدنى يزداد كل يوم بُعدا، وبأن الحرب الروسية في أوكرانيا تُعجّل قيام نظام عالمي جديد، قد يكون على حساب القوى التقليدية ونفوذها العالمي لصالح التنين الأصفر. هل تحققت مقولة نابليون بونابرت الشهيرة: "عندما تستفيق الصين سيرتجف العالم"؟ المقصود العالم الأبيض.

طريق الحرير الجديد

اتفقت الصين والدول العربية في ختام الدورة العاشرة لـ "مؤتمر رجال الأعمال اﻟﻌﺮب والصينيين" الذي استضافته الرياض هذا الاسبوع، على "خدمة المصالح المشتركة للطرفين في إطار رؤى واستراتيجيات الدول العربية ومبادرة الحزام والطريق الصينية، بما يحقق النهضة الاقتصادية المطلوبة ويعالج صعوبات تحديات التنمية". يتبلور المعنى التنفيذي لهذا البلاغ في تكامل المصالح الاقتصادية والاستثمارية والمالية، بغطاء ديبلوماسي ناعم، وتشريعات وقوانين تُسهل عمل الفاعلين الاقتصاديين، بما يكفل تحقيق أهداف كل طرف.

وهناك رغبة من رجال الأعمال والحكومات على السواء بإعطاء الأولوية للقطاعات ذات الأهمية الراهنة مثل الطاقة المتجددة، والاقتصاد الرقمي، والصناعات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي والابتكار. وهي تقريبا القطاعات نفسها التي رصد لها الاتحاد الأوروبي 300 مليار يورو تحت اسم البوابة العالمية (Global Gateway) لمنافسة طريق الحزام الصيني في دول الجنوب ومنها الشرق الأوسط وأفريقيا. كما رصدت الولايات المتحدة 55 مليار دولار خلال القمة الأميركية الأفريقية نهاية العام المنصرم في واشنطن لتسريع التنمية والتجارة.

"المجلة"

في نظر المراقبين، منح مؤتمر الرياض بعض الأفضلية لمشروع طريق الحرير الصيني، الذي انضمت اليه غالبية الدول العربية. وتشمل المبادرة ضخ استثمارات ضخمة لتطوير البنى التحتية والمواصلات والاتصالات والتكنولوجيا والصناعةفي أكثر من 70 دولة، بتكلفة إجمالية تصل الى تريليون دولار.

هذا لا يعني التخلي عن البرامج المنافسة، أوروبية أكانت أم أميركية، لكن الجديد هو قيام تنسيق مؤسساتي بين مبادرات الرؤى العربية ومبادرة الطريق الصينية، مما سيُضفي زخما جديدا على التعاون الاقتصادي والاستثماري بين الصين والمنطقة العربية، خاصة دول الخليج ذات القدرات الاستثمارية الكبيرة.

وتعتزم السعودية استغلال موقعها الجغرافي وقدراتها المالية وريادتها النفطية والإقليمية، لربط البلدان العربية مع الصين بعلاقات اقتصادية أكثر متانة، بعد إطلاقها طريق حرير عصريا جديدا من شأنه تحقيق نهضة شاملة لدول المنطقة وشعوبها، وخلق فرص متنوعة وواعدة للشباب العربي، وزيادة حجم التبادل التجاري بعدما تجاوز نصف تريليون دولار.

غيرة غربية

قد لا يبدو هذا التعاون الصيني - العربي مرغوبا فيه من وجهة نظر بعض الأطراف الغربيين الذين يعتبرون كل تقارب بين بكين والمنطقة العربية إبعادا لهم من منطقة نفوذ تقليدية. وهو أمر قد لا يرضي الحلفاء التقليديين في مجموعة الدول السبع الكبار والاتحاد الأوروبي التي تسيطر على 40 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي. وتحرص الصين من جهتها على التأكيد أنها "مهتمة بالانخراط الاقتصادي في الشرق الأوسط، وغير مهتمة بالانخراط في صراعات المنطقة"، وتنفي رغبتها في ملء أي فراغ قد تتركه الولايات المتحدة، مؤكدةً أن بكين ستدعم دول المنطقة لحل قضايا الأمن الإقليمي، وستدعم الشعوب في استكشاف مسارات التنمية بشكل مستقل. وهو تطمين ضمني للغرب على كون أهدافها اقتصادية وليست سياسية أو ثقافية. في وقت تشهد العلاقات بين بعض الدول العربية وشركائها التاريخيين نوعا من الفتور والتباعد قد يفيد الجانب الصيني، الذي طور علاقاته التجارية مع الدول العربية فزادت قيمتها 200 مليار دولار في عامين وكانت تقدر بـ 300 مليار دولار خلال فترة كوفيد-19.

وكتبت صحيفة "لوموند" ان الصين "أصبحت خلال السنتين الأخيرتين الشريك التجاري الرئيس لدول مجلس التعاون الخليجي وغدت بكين اكبر المشترين للنفط الخام السعودي وهي تحصد الفوائد السياسية لاستثماراتها الاقتصادية. وتحولت الصين إلى لاعب سياسي جديد في الشرق الأوسط".

هذه فرصة للعمل على تعزيز الصداقة العربية - الصينية التاريخية وتكريسها، وبناء مستقبل مشترك نحو عصر جديد، يعود بالخير على الشعوب، ويحافظ على السلام والتنمية

وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان

ويعتقد محللون أن فرنسا تتخوف من أي تقهقر لوجودها في الشرق الأوسط (خصوصا في ملف لبنان) بعد  تراجع حضورها في شمال أفريقيا. وكانت باريس تدّعي دوما أن لها سياسة عربية تختلف عن مواقف الولايات المتحدة وروسيا حول نزاعات المنطقة. وتحرص باريس على التقارب مع العربية السعودية زعيمة العالم العربي والإسلامي بعدما نجحت في احتضان القمة 32 في جدة، وفي استعادة علاقتها مع إيران، بمبادرة صينية في مارس/آذار المنصرم.

فرص جديدة للنمو

وفي رأي وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ان "هذه فرصة للعمل على تعزيز الصداقة العربية - الصينية التاريخية وتكريسها، وبناء مستقبل مشترك نحو عصرٍ جديدٍ، يعود بالخير على الشعوب، ويحافظ على السلام والتنمية، من شأنها تحقيق الرخاء والتقدم والازدهار لشعوب المنطقة والعالم". وهي إشارة قوية إلى أهمية تحقيق تنمية إقليمية متوازنة تعزز فرص السلام والاستقرار، وتجذب الاستثمارات.

ولأن تجاوز مخلفات الماضي يحتاج الى مرحلة إعادة اعمار اقليمية، تبدو المنطقة العربية اليوم في وضع  اقتصادي و سياسي أفضل مما كانت عليه قبل عقد من الزمن أيام "الربيع العربي". وارتفع الناتج الإجمالي لـ 22 دولة إلى أكثر من 3،5 تريليونات دولار، وهو ما يفوق حجم فرنسا والبرتغال واليونان معا. إضافة إلى ما تزخر به المنطقة من موارد طبيعية ومؤهلات بشرية وموقع جغرافي استراتيجي يضعها في وسط العالم، ويجعلها تتحكم في مداخل ومخارج أهم ممرات طريق الملاحة التجارية العالمية، من مضيق جبل طارق إلى قناة السويس إلى باب المندب وخليج عمان وشط العرب والخليج العربي شرقا.

رويترز
وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود يحادثه دان مورفي خلال مؤتمر رجال الأعمال العربي الصيني العاشر في الرياض في 11 يونيو/حزيران الجاري

وتعتبر الصين حاليا اكبر قوة تجارية بمجموع صادرات بلغت 3,3 تريليونات دولار، بعيدة عن الولايات المتحدة 1,75 تريليون دولار ثم ألمانيا 1,62 تريليون دولار، وقدرت صادرات فرنسا بـ585 مليار وهونغ كونغ بـ670 مليار دولار في العام الماضي، بحسب "ستاتيستا". وانتقلت المبادلات مع الدول العربية من 37 مليار دولار عام 2004 إلى 244 مليار دولار 2018 ثم إلى 300 دولار عام 2021 ووصل إلى 430 مليار دولار العام الماضي بحسب مصادر عربية.

وأفاد تقرير لوزارة الخارجية الصينية نشره منتدى التعاون الاقتصادي الصيني - العربي، في اعقاب القمة العربية - الصينية التي عقدت نهاية العام الماضي في السعودية، التي ترأسها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، بمشاركة الرئيس الصيني شي جين بينغ، أن حجم التبادل التجاري مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغ 507 مليارات دولار. وهو نمو سريع يفوق كل الأسواق العالمية الأخرى بزيادة 27 في المئة على أساس سنوي، في مقابل زيادة 15 في المئة مع دول رابطة آسيان، و5،6 في المئة مع الاتحاد الأوروبي، و3,7 في المئة مع الولايات المتحدة. ووصل التبادل التجاري مع المنطقة العربية إلى أربعة أضعاف ما كان عليه قبل 15 سنة. وتستورد الصين نصف حاجاتها من النفط والغاز من الدول العربية، وتمثل  السعودية اكبر مُصدّر للطاقة إلى الصين، وبلغت التجارة البينية مع الصين 106 مليار دولار العام الماضي. وبحسب صندوق النقد الدولي فإن الصين ستساهم بالثلث في معدل النمو الاقتصادي لعام 2023 بعد تراجع الأداء في الاقتصاد الاميركي وانكماش بعض اقتصاديات الاتحاد الأوروبي وفي مقدمها ألمانيا.

تعاون في الطاقة

وبحسب وزير الطاقة السعودي  الأمير عبد العزيز بن سلمان، تتجه الصين والسعودية إلى تقوية شراكتهما في مجال نقل الطاقة من خلال استثمارات مشتركة واعدة. وبلغ إجمالي واردات الصين من النفط الشهر الماضي أكثر من 12 مليون برميل يوميا. كما أن السعودية اكبر مصدّر نفطي للصين أيضا مهتمة بتصدير الكهرباء إلى الهند. 

واعتبر وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح من جهته ان "وطننا العربي يملِك من المقومات الحضارية والثقافية، والموارد البشرية والطبيعية، ما يؤهله لتبوأ مكانة متقدمة وقيادية، وتحقيق نهضة شاملة لدولنا وشعوبنا في جميع المجالات".

لا شك أن إطلاق طريق حرير عصري جديد بين الصين والعرب نقطة تحول مهمة على مستوى التغيرات الإقليمية والدولية. وكذلك فان حضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، حضور القمة العربية - الصينية الأولى في الرياض، مثلت علامة فارقة في علاقات البلدين، كما اعتبرت القمة الاقتصادية بمنزلة بداية عصر جديد للعلاقات العربية - الصينية، ووصفتها وزارة الخارجية الصينية  بأنها أكبر وأرفع حدث ديبلوماسي بين الصين والعالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية.

شهية الشركات الصينية

تنجز الشركات الصينية (أو تساهم في) مشاريع كبيرة  في عدد من الدول العربية تقدر بنحو 200 مشروع  منها بناء برج محمد السادس في الرباط على ارتفاع 250 متر بتكلفة نحو 400 مليون دولار ومعمل للطاقات المتجددة في مصر، وإطلاق أقمار اصطناعية في السعودية والجزائر، ومركز خارجي للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية في تونس، ولها تعاون مع المغرب في إنشاء مدينة للتكنولوجيا في طنجة، ومصنع للأدوية واللقاح جنوب الرباط، ووقّعت شركة "غوشن ماتيك" الصينية العاملة في تكنولوجيا النقل الكهربائي مذكرة تفاهم لإنشاء منظومة تصنيع بطاريات للسيارات الكهربائية بقيمة 6,5 مليارات دولار في الرباط. 

وتقول وسائل إعلام صينية إن 18 دولة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منخرطة في مبادرة التنمية العالمية، وإن القمة العربية – الصينية التي عقدت في السعودية ساهمت في تعزيز وضع بكين كقوة مؤثرة في العالم، وذلك من خلال توسيع نطاق حضورها في الشرق الأوسط، وتقوية وضعها كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة  على الساحة الدولية.
ويتجه التعاون الصيني - العربي حاليا إلى شراكة استثمارية جديدة، خصوصا على صعيد البنى التحتية للموانئ، والسكة الحديد وقطاع التكنولوجيا، لمواكبة التوجه العالمي نحو الاقتصاد الرقمي. وتتلاقى هذه الرؤى بشكل إيجابي مع أهداف مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي ترتكز بدورها على تطوير البنية التحتية والاتصال التكنولوجي بين الدول المنضمة إليها.

إطلاق طريق حرير عصري جديد بين الصين والعرب نقطة تحول مهمة في المتغيرات الإقليمية والدولية

نهضة التنين 

قبل خمسين سنة عندما كانت الحرب الباردة في أوجها بين الشرق والغرب، كانت جمهورية الصين الشعبية الشيوعية دولة فقيرة محسوبة على الجنوب لا تؤمّن غذاء شعبها الذي كان يواجه المجاعات والأوبئة والفيضانات. في ذلك الزمان خرجت إلى الوجود مجموعة السبع الكبار بعد أزمة الطاقة 1973 للدفاع عن مصالح "العالم الحر"، وحماية الاقتصاد الرأسمالي. في  ذلك التاريخ  كتب هنري كيسنجر في مجلة "ديالوغ" (Dialogue) "محذرا من أخطار نهوض الصين  وتأثيره على العالم الحر"، مستوحيا الفكرة من أقوال مأثورة عن التنين الأصفر.

بعد نصف قرن استطاعت الصين الفقيرة أن تصبح القوة  الثانية في العالم، ولا تخفي طموحها في أن تكون الأولى، وتزيح الولايات المتحدة عن عرشها الاقتصادي والمالي والصناعي. وربما تقضم الجزء الأكبر من  كعكة العالم  النامي والصاعد، بعد أفول قوة الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح الرجل المريض اقتصاديا بسبب حرب أوكرانيا، ومريضا سياسيا بمأساة الهجرة من الجنوب. 

font change

مقالات ذات صلة