"مدينة الكويكب": شخصيات تبحث عن مشاعرها

جديد ويس أندرسون

Asteroid City 2023
Asteroid City 2023

"مدينة الكويكب": شخصيات تبحث عن مشاعرها

يتخذ فيلم "مدينة الكويكب Asteroid City"، أحدث أفلام المخرج الأميركي ويس أندرسون، من وقائع مسرحية متخيّلة تجري أحداثها في خمسينات القرن الماضي في نيويورك، ذريعة سردية له، كأنه من خلال هذه اللعبة، أي السرد داخل السرد، أو المسرحية داخل الفيلم، يكسر الجدار الثالث، فنرى الممثلين وهم يتنقلون بين عالميين سرديين، عالم المسرحية وعالم الفيلم، بل نرى الشخصية الرئيسة في الفيلم تنتقل حرفيا من رأس الكاتب المسرحي، إلى حيّز الواقع، وتقدّم نفسها بنفسها إلى المؤلف الذي يراها شخصية "كاملة" على حدّ وصفه.

الفيلم الذي يحتشد بالنجوم، ومنهم جيسون شوارتزمان وسكارليت جوهانسون وتوم هانكس وبرايان كرانستون وستيف كاريل وإدوارد نورتن، يبدو مسكونا بالهاجس الجمالي، في الوقت الذي لا يجد فيه أندرسون حرجا في أن يخبرنا طوال الوقت، بصورة غير مباشرة، بأن جميع هذه الشخصيات، هي مجرد أفكار وتصوّرات وروافع حكائية لهذا الحسّ الجمالي الذي يتبدّى من خلال تكامل مختلف العناصر المكوّنة له.

تتوالى أحداث فيلم أندرسون الشهير بأسلوبه السردي والجمالي الخاص، على خلفية موقع صحراوي غرائبي، يشهد تنفيذ تجارب نووية في مكان قريب منه، وفي الوقت نفسه هو موقع احتفال سنويّ يمنح فيه الجيش جوائز سنوية للمراهقين العباقرة الذين ينجزون اختراعات لا تقلّ غرائبية عن المكان نفسه. مع ظهور الشخصيات تباعا، تتكشّف عدسة أندرسون الغنية بالتفاصيل والمرتبة بدقّة بالغة، ومعها في طبيعة الحال الحوارات السريعة التي يلقيها الممثلون بطريقة متشابهة، تؤكّد، كما في أفلامه الأخرى، أن هذه الشخصيات الواقعة على حافة الواقع والمتخيّل، أو الحقيقي والمخترع، تقطن في الكون السينمائي نفسه.

لعلّ إحدى أهمّ مميزات ويس أندرسون هي قدرته على صناعة عوالم جذابة وفريدة من نوعها، تتمدد وتسترخي بحسب رؤيته وتوجهاته. هذه العوالم، كما نجد على سبيل المثل، في فيلم The Grand Budapest Hotelتبدو آتية من كون آخر، وكل كادر سينمائي يحكي جانبا من القصة ويدفعها قدما بحرفية عالية، حتى تبدو تلك العوالم مقولبة بأكملها داخل عدسته السينمائية. ولكن في أفلام أخرى يبدو هذا التطرّف في صنع العوالم أقل حدّة، والعوالم نفسها تتمدّد بصورة أكبر وتبدو أكثر شمولية، ولعلّ أحد أفضل أعمال ويس اندرسون على هذه الشاكلة هو فيلم The Royal Tenenbaums.

     تتكشّف عدسة أندرسون الغنية بالتفاصيل والمرتبة بدقّة بالغة، لتؤكّد، كما في أفلامه الأخرى، أن شخصياته الواقعة على حافة الواقع والمتخيّل، أو الحقيقي والمخترع، تقطن في الكون السينمائي نفسه


يناقش اندرسون في أفلامه أفكارا لا يني يكرّرها، مثل الموت وما يحصل بعده، الحب المحرم الذي يقف المجتمع ضدّه، الروابط الأسرية ووقع الظروف عليها. في ظل الصراع مع هذه الأفكار، تخوض الشخصيات رحلة جسدية أو نفسية في سبيل الوصول إلى إجابة أو خاتمة مناسبة. في جديده هذا، لا تختلف أفكار أندرسون كثيرا، فبطل القصة المسرحية يقطع طريق سفرٍ طويلا وهو يفكر كيف يخبر أطفاله بنبأ وفاة والدتهم، جزئيا بسبب عدم إيجاده الفرصة المناسبة لإخبارهم، ولأنه لا يزال يواجه فكرة فقدان زوجته، الآن، ولم يستطع استيعاب كمّ الحزن الهائل المرافق لهذا الفقدان.

على السطح، يبدو هذا الفيلم كأي عمل آخر لاندرسون. فهو كوميديا سوداء عن رحلة أرمل مع أطفاله في مدينة صحراوية لإيجاد مكان مناسب لدفن رماد أمهم. حتى العناصر البصرية تبدو متوافقة مع توقيع اندرسون السردي والجمالي تماما، إذ مكّنته مهارته في صناعة العوالم، من تكوين مدينة في عمق الصحراء بألوانها الخاصة وجعل الحياة تدبّ فيها بعد رمي الشخصيات فيها، على الرغم من أن المدينة ليست مدينة حقا، بل هي أقرب إلى استراحة داخل الصحراء، ولا توجد لها حدود إلا أنك تشعر بمحدوديتها من خلال وجود الشخصيات فيها وتحرّكهم في نطاقها الضيق.

شخصيات

اعتدنا أن تكون أفلام ويس أندرسون مهيكلة بشكل حرفي ودقيق، بمعنى أن كل المشاعر التي يعيشها المشاهدون قد خُطّط لها بكل عناية. فحينما تقع شخصية في الحب، توظّف كلّ أدوات الفيلم من زوايا تصوير وموسيقى لإيصال درجة الحب التي تشعر بها الشخصية المعنية. وعند الإعداد لمشهد حزين، يجهّز المشهد بالكامل لإغراق المشاهدين بمشاعر الحزن الي تعيشها الشخصيات.

Asteroid City 2023

ولكن في فيلم "مدينة الكويكب" نرى اختلافا جليا، إذ لا يبدو ممنهجا ومهيكلا كما هي أفلامه السابقة، لكنه يترك المشاهد أمام المشاعر العارية للشخصيات بالكامل. بالطبع لا يخلو الفيلم من القوالب البصرية المعتادة لأندرسون، ولا من الشخصيات المكتوبة بطرافة، لكن حينما يطرح الفيلم أهم ثيماته، ونقف مع شخصية مصور الحروب الأرمل، أوغي، لا يعطي الفيلم أي إشارة أو تنبيه إلى أننا أمام كوميديا سوداء أو قصة تراجيدية، لا يحثّنا الفيلم على الشعور بأيّ مشاعر تجاه أيّ شخصية من الشخصيات، بل يترك الأمر بأيدينا كليا، لنقرّر اتجاه الفيلم، وكيف نتفاعل مع حكايات تلك الشخصيات.

تحت المظلة العريضة لثيمة التعامل مع خسارة شريك الحياة ومواجهة الأبناء، يطرح الفيلم تساؤلات عدة عن معنى الفن وأسرار الكون وما يحصل بعد الموت. ولأن أندرسون يطرح عن نفسه في هذا الفيلم عباءة مهندس المشاعر، تظهر كل هذه التساؤلات واقعية وغامضة وغير متأثرة بهزلية الطرح والتصوير. الأهم من ذلك، تظهر فكرة الموت والتعامل مع الفقد رمادية خالية من الألوان والنبرة التلطيفية المرافقة لها في أغلب أفلامه.

  في أغلب أفلام ويس أندرسون هناك وجهة تصل إليها الشخصيات في نهاية القصة، أما في هذا الفيلم فتصل الشخصيات إلى الوجهة بشكل مبكر، لكنها وجهة موقتة ومن دون معنى، مجرد بوابة عبور إلى ما ينتظرها في الطرف الآخر


هناك مجازفة قام بها أندرسون في هذا التغيير في أسلوب الطرح، وهي أن يخيّب آمال معجبيه. لأن الفيلم ليس بسرعة سرد أفلامه المعتادة، والعناصر المساعدة مثل الحوارات والتصوير ليست بالحدّة نفسها. بالتالي من الممكن جدا أن لا يكون للفيلم أي وقع درامي محسوس مع فئة كبيرة من الناس. بالنسبة إليّ، شعرت بكل الغمّ الذي يثقل كاهل أوغي، والذي أدّى دوره جيسون شوارتزمان باقتدار. ليس من الدقة وصف حالة أوغي، بأنه حزين، لأن من الواضح أنه لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، بل إنه رجل تائه إلى درجة أنه انتظر ثلاثة أسابيع حتى يخبر ابنه وبناته بوفاة والدتهم.

لا يستقر هذا الشعور بالضياع إلا بعد رحيل كل الشخصيات عن "مدينة الكويكب"، بعد إقامة جبرية فرضها الجيش في أعقاب هبوط كائن فضائي في الموقع الصحراوي، وسرقته "الكويكب" ثم إعادته له، تاركين أوغي وعائلته وحيدين. الملاذ الموقت في هذه المدينة وسكانها الموقتون، أفضل تشتيت له عن ماهية واقعه الجديد. والآن، بعد أن ينقشع كل ذلك دفعة واحدة، يرتطم أوغي بهذا الواقع القاسي. في أغلب أفلام ويس أندرسون هناك وجهة تصل إليها الشخصيات في نهاية القصة، أما في هذا الفيلم فتصل الشخصيات إلى الوجهة بشكل مبكر، لكنها وجهة موقتة ومن دون معنى، مجرد بوابة عبور إلى ما ينتظرها في الطرف الآخر.

font change

مقالات ذات صلة