المواجهة المحتملة في نيامي

AFP
AFP
جنود فرنسيون ومواطنون من دول اوروبية خارج مطار نيامي الدولي الذي يشهد عمليات إجلاء للرعايا الاجانب في 2 اغسطس

المواجهة المحتملة في نيامي

شهدت النيجر، عبر تاريخها الممتد لـ63 عاما، عدة انقلابات ناجحة وأخرى فاشلة. وعلى الرغم من أنها أقل اضطرابا من جارتيها مالي وتشاد، فقد واجهت مجموعة كاملة من الاضطرابات السياسية التي شهدتها دول أخرى في جنوب العالم، من قبيل: حُكم الحزب الواحد، والتمرد القبلي والعرقي، والانقلابات العسكرية ضد الديكتاتوريين، والانقلابات العسكرية ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطيا، ورغبة الحكام المنتخبين ديمقراطيا في التحول إلى ديكتاتوريين، وجنرالات فاسدين، وديمقراطيين فاسدين.

ولكن الانقلاب العسكري الذي وقع في 26 يوليو/تموز 2023 والذي أطاح– على الأقل في الوقت الحالي– بالرئيس محمد بازوم المنتخب ديمقراطيا، يبدو مختلفا جدا؛ فقد أعلن الجنرال عبد الرحمن تياني، قائد الحرس الرئاسي، نفسه قائدا للمجلس العسكري الحاكم، والمجلس الوطني لحماية الوطن. وقد أدانت كل من فرنسا، الدولة الاستعمارية السابقة للنيجر، والولايات المتحدة (التي تمتلك قاعدة طائرات من دون طيار بقيمة 100 مليون دولار شمالي البلاد)، والعملاق الإقليمي نيجيريا، أدانوا الانقلابَ بشدة. كما أدانته الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس-(ECOWAS، ودعت إلى إعادة الرئيس المخلوع بازوم، وهددت باتخاذ إجراءات ضد الانقلابيين، بما في ذلك إمكانية القيام بعمل عسكري ضد المجلس العسكري في نيامي.

Reuters
متظاهرون مؤيدون للانقلاب قرب السفارة الفرنسية في نيامي في 30 يوليو

وقد واجهت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا تحديات متعددة مؤخرا، حيث كان عليها أن تعلق عضوية غينيا (عام 2021)، ومالي (عام 2022)، وبوركينا فاسو (عام 2022) في أعقاب الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها. وثمة الآن تكهنات باحتمال التدخل العسكري لإعادة رئيس النيجر، ربما بقيادة كلٍّ من نيجيريا وتشاد (والأخيرة ليست عضوا في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ولكنها تملك جيشا قادرا)، وذلك بدعم من الأميركيين والفرنسيين. وفي المقابل، لن يكون غريبا أن نرى قادة الأنظمة العسكرية في دول "الإيكواس" الثلاث التي عُلّقت عضويتها يتعهدون بدعم جنرالات النيجر الانقلابيين. ومهما يكن من أمر، فستكون الحرب الفعلية في النيجر بين الكتل المتنافسة المكونة من الدول الإقليمية بمنزلة كارثة.

ثمة تكهنات باحتمال التدخل العسكري لإعادة رئيس النيجر، ربما بقيادة كلٍّ من نيجيريا وتشاد (والأخيرة ليست عضوا في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ولكنها تملك جيشا قادرا)، وذلك بدعم من الأميركيين والفرنسيين

وعلى النقيض من الانقلابات العسكرية التي لا تعد ولا تحصى في القارة، فقد حظي انقلاب النيجر الأخير باهتمام شديد لأنه يحدث وسط أحداث دولية أكثر دراماتيكية. فقد أعادت الحرب الأوكرانية الروسية والجهود الغربية لمعاقبة روسيا إشعال المنافسة الاستراتيجية العالمية بين الغرب و"اللاغرب"، وهو الذي يعني روسيا والصين وحلفاءهما.

وتجد الدول الأفريقية نفسها عالقة في المنتصف؛ فهي لا تثق في الغرب، ولا سيما فرنسا، بعد عقود من حكمها الاستعماري الجديد، كما تجد هذه الدول مضايقةَ الأميركيين والأوروبيين المتعصبين أمرا مرهقا. وهي كذلك لا تثق بالروس والصينيين تمام الثقة، فهي تعرف أنّ تلك الدول ستحاول خداعها واستغلالها أيضا. فما تريده الدول الأفريقية أن تكون قادرة على انتقاء واختيار السلع والخدمات والتحالفات من أي مكان يناسب احتياجاتها على أفضل وجه. يعتقد الغرب في كثير من الأحيان، وبالتأكيد يريد من الآخرين أن يعتقدوا، أن الغرب هو اللاعب الوحيد في المنطقة. وأن واشنطن وباريس، والمنظمات الدولية التي تهيمن عليها، تعرف ما هو الأفضل بالنسبة لأفريقيا. وقد ضخمت الدعاية الروسية هذا الموقف المتكبر. وهي دعاية رخيصة وفعالة على وسائل التواصل الاجتماعي، تستغل التناقضات الخاصة بالغرب والقومية الجريحة للجماهير المحلية.

لقد ازدرى الغرب ضعف روسيا على مدى سنوات. وفي عام 2014، وصفها السيناتور الراحل جون ماكين بأنها "محطة وقود عملاقة تتظاهر بأنها دولة حقيقية". ووصفها سياسيون آخرون في أميركا بأنها "محطة وقود تمتلك قنابل نووية". الآن تستحضر هذه السلسلة من الانقلابات العسكرية عبر منطقة السهل الأفريقي جنوب الصحراء شبحَ شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة كنوع من العقل المكيافيلي المدبر والحرس البريتوري، وهو ما تسبب في دق أجراس الإنذار في جميع أنحاء العواصم الغربية؛ إذ لا يوجد دليل على أنَّ روسيا أو شركة "فاغنر" كانتا وراء أي من هذه الانقلابات العسكرية، لكن ثمة دولا في أفريقيا فضلت الأنظمة الحاكمة فيها روسيا، في حين طردت فرنسا، وأكبر مَثَلَيْنِ على ذلك هما مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. ولم تتبع غينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، حتى الآن، مثل هذا المنهج في التقرب من شركة "فاغنر".
 

ازدرى الغرب ضعف روسيا على مدى سنوات. وفي عام 2014، وصفها السيناتور الراحل جون ماكين بأنها "محطة وقود عملاقة تتظاهر بأنها دولة حقيقية"

وفي الوقت نفسه، تتجلى المفارقة بكون روسيا ضعيفة بالفعل مقارنة بالغرب، وذلك من نواحٍ كثيرة، لكنها في المقابل ليست بحاجة إلى أن تكون قوية، ما يمكن أن تقدمه هو، بمعنى ما، مرتزقة أجانب، وهو ما استخدمته الدول الأفريقية من قبل، وكذلك الدعم في بعض المجالات الضيقة، وكنها مهمة، كمبيعات الأسلحة بأسعار تنافسية، واستيراد الحبوب والأسمدة، والتغطية الدبلوماسية، والصفقات الفاسدة مع النخب الحاكمة؛ فهذه كلها أشياء قدمها الغرب على مدى عقود لتلك النخب الأفريقية الحاكمة. 

إنَّ وجود روسيا الضعيفة، ولكنْ التي لا تزال "مفيدة" جنبا إلى جنب مع الصين الهشة والقوية اقتصاديا في آن معا، يوفر بديلا مغريا للأنظمة الأفريقية التي تبحث عن بديل للتأثير الغربي المرهق في بعض الأحيان؛ إذ تدفع فرنسا لتحديد نسل الأفارقة، في حين يعطي الأميركيون الأولوية لحقوق المثليين في القارة. وقد أجاب الزعيم الأوغندي يوري موسيفيني مؤخرا بمصطلحات وطنية، عندما سئل عما إذا كان مؤيدا للغرب أو المشرق بقوله: "مؤيد لنفسي. وأتعامل مع الآخرين وفقا لكيفية تعاملهم مع مصالحي".

وتشهد منطقة السهول جنوب الصحراء الكبرى حاليا حالة من التوتر بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية، بالإضافة إلى الحرب الدائرة في السودان بين الجيش السوداني المتأثر بالتيار الإسلامي وجيش المرتزقة الذي يضم عدداً من القبائل والمقاتلين الذين ليسوا من المنتمين إلى إقليم دارفور في السودان وحسب، بل إنهم كذلك من جميع أنحاء السهل جنوب الصحراء، بما في ذلك تشاد والنيجر. وليس من المستغرب أن كلا الجانبين في حرب السودان على علاقات ودية مع روسيا، وذلك على الرغم من أنَّ "فاغنر" تربطها علاقات وثيقة مع قوات الدعم السريع. 

لا تعد النيجر قضية دولية رئيسة، على الرغم من وجود مناجم اليورانيوم في البلاد، والقاعدة الأميركية الخاصة بالطائرات دون طيار. ويصبح الأمر مهما هذه المرة حيث يُنظر إليه باعتباره جزءا من اتجاه إقليمي أكبر مقلق للغاية، إذ يتمثل في ظهور نظم عسكرية جديدة في السهل جنوب الصحراء تشترك في بعض الصفات من قبيل: النزعة الوطنية، وقيادتها من قبل ضباط يتسمون نسبيا بالشباب، منفتحة على روسيا، وربما معادية للغرب، وذلك في وقت تتصاعد فيه التوترات الدولية التي تشتمل حربَ أوكرانيا، ويتصاعد أيضا كل من: التنافس بين القوى العظمى في جميع أنحاء العالم، والمخاوفَ من الهجرة غير الشرعية غير المسيطر عليها، والسعيَ وراء الموارد الطبيعية الثمينة. 

يتمثل التحدي بالنسبة للغرب في إيجاد نموذجٍ جديد أقل غطرسة وأكثر فاعلية في التعامل مع الدول الأفريقية. وهذا أمر صعب لكنه ليس مستحيلا. ويأتي المثال الحالي الساطع من الرياض. إذ بدا أن العلاقات الغربية مع المملكة العربية السعودية قد تدهورت في السنوات الأخيرة، حتى أن المرشح جو بايدن قد وعد بجعل المملكة العربية السعودية "منبوذة". لكن التهديدات القديمة والعقلية القديمة لم تُحقق مأربها، وكان على الغرب، وليس على السعوديين، تغيير لهجته ونهجه بشكل جوهري من أجل إيجاد طرق مشاركة أكثر تعاونا واحتراما. لا تتمتع النيجر وحدها بهذا النفوذ، ولكن القارة الأفريقية بأسرها تتمتع بمثل هذا الوزن الكبير.

بمعنى ما، ربما تكون المخاوف الغربية المبالغ فيها بشأن "فاغنر" قد خدمت الأوروبيين والأميركيين بإيقاظهم من حلم طويل بالرضا السياسي عن أنفسهم. وكائنا ما كان مسار الأحداث في النيجر في الأيام المقبلة، فإن المنافسة في أفريقيا مفتوحة على مصراعيها، وثمة كثير لتخسره النيجر، وفي المقابل ثمة ما هو أكثر للفوز به.
 

font change

مقالات ذات صلة