"باربي" وموسم الهجرة إلى صالات السينما السعودية

الجهة الرقابية اعتمدت على وعي المتلقي وثقافته

REUTERS
REUTERS
إعلانات لفيلم "باربي" تظهر خلال العرض الأول للفيلم في VOX Cinemas.

"باربي" وموسم الهجرة إلى صالات السينما السعودية

عُرض فيلم "باربي" في صالات السينما السعودية، متجاوزا المخاوف الوهميّة التهويليّة عند بعض من نصّبوا أنفسهم أوصياء على المجتمع؛ ذلك المجتمع الذي يتمتّع بثقافة صلبة تعي مضمون ما تتلقاه وما تريده، وما تودّ رؤيته ومتابعته في فضاءات توعوية مفتوحة الآفاق. وكانت قبل ذلك قد خرجت آراء متشنّجة حول إمكانية عرض الفيلم من عدمها، ليحسم الجدل بقرار من الجهة المختصّة، أي الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع، التي أعلنت أن "فيلم باربي لم يُمنع، وسيعرض في موعده، وأنها طلبت بعض التعديلات على نسخة الفيلم التي ستعرض محليّا".

إننا إذن أمام وجهة نظر رسمية تعي جيّدا ما يتطابق مع طبيعة المكان والإنسان، ولسوف يحسب للهيئة قرارها الإيجابي هذا حول إجراء التعديلات الجزئية هذه لتتماهى مع الثقافة العمومية، تلك التي لا تؤثر على مدة الفيلم الممتدة لقرابة 114 دقيقة، ولا على مجريات الحكاية التخيُّلية في عوالم المرأة الوردية، وعوالمها الحياتية والواقعية.

ولطالما مررنا خلال العقود الماضية بمثل هذه الانفعالات الخَفِيّة التي تبني الأجزاءَ على الكليّات، بيد أنّ التلقّي السعودي الواعي -اليوم- قادر على استقراء ما يتوفق مع هويته وهواياته، وليس أدلّ على ذلك من أنّ النتيجة النهائية التي شاهدناها جميعا متجلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حول ردود الفعل بعد العرض الأول لفيلم "باربي" وطوال أيام عرضه، حتى تاريخ هذه المقالة، حيث وجدنا تعليقات طريفة من كوميديين سعوديين مزجوها بشخصيات الفيلم والمواقف التي يتضمّنها. وهذا مؤشّر إيجابي على أنّ المجتمع باحث عن المرح، باحث عما يجاوز الأمس ومثقلاته واعتلالاته.

إننا إذن أمام وجهة نظر رسمية تعي جيّدا ما يتطابق مع طبيعة المكان والإنسان، ولسوف يحسب للهيئة قرارها الإيجابي هذا حول إجراء التعديلات الجزئية هذه لتتماهى مع الثقافة العمومية

 ومع ما تناقلته بعض الآراء السلبية حول هوية الفيلم وأجنداته حول: النسوية، والعاطفية المُخلّة، والرومانسية العابثة. فما هي إلّا وقفات لا تقلل من أهمية عرض الفيلم بالسعودية، إذ أنّها هي القضايا الاجتماعية نفسها التي تقدمها المسلسلات السعودية والخليجية والعربية عبر عدة قنوات، أو عبر المنصّات التفاعلية، ولا يختلف الأمر إلا في أن "باربي" يطرح قضية تخيّلية في عوالم خيالية، في حين أن القضايا التي تطرحها المسلسلات العربية واقعية أو مقاربة للواقعية.

ويمكن القول إن الفيلم سعى إلى الإضاءة على مفاهيم معينة تخدم حكايته والحبكة التي قام عليها، لكنه في نهاية المطاف ما هو إلا حياة رمزية لتلك العوالم النسائية الخفية. ومهما كانت ردّات الفعل حول عروض الفيلم المستمرة بصالات السينما في جميع أنحاء المملكة، إلا أنه يمكن التأكيد أننا استطعنا صناعة أرضية وعي شعبي صلبة للتلقّي، تؤكدها ثوابت كثيرة كالتقرير الذي نشرته القناة الإخبارية السعودية بأن الفيلم "نال إعجاب الجمهور في المملكة؛ بسبب رسالته القوية، وأسلوبه المشوِّق في تقديم فكرته. ورغم مخاوف البعض من أن يكون الفيلم مستفزّا، أو يتعارض مع تقاليد المجتمع، إلّا أنه لاقى تفاعلا إيجابيا وقدّرت الجهود المبذولة في صناعته".

REUTERS
إعلانات لفيلم "باربي" تظهر خلال العرض الأول للفيلم في VOX Cinemas.

وما يزيد هذا التأكيد هو أنه ومنذ إعلان الهيئة عن عرض الفيلم وعمليات البحث عن مواعيد العرض بلغت "الترند" حتى الدقائق الأخيرة التي سبقت عرضه الأول.

 

مظاهر إيجابية

ثم إن أكثر ما يبهج في المسألة هو توقّف مواسم الهجرة السينمائية التي كنا نشهدها قبل عقدٍ من الزمان، أو أقلّ، إلى دول الخليج الشقيقة، ولعل هذا الفيلم قد أحيا موسم الهجرة العكسية إلى صالات السينما السعودية، فقد شاهدنا الكثير من الأشقاء الخليجيين يتوافدون إلى المدن الحدودية المجاورة لدولهم لمشاهدة الفيلم، كما رأيناهم يتوافدون إلى المدن الكبرى كالرياض، والشرقية، وجدة.. وهذه مظاهر إيجابية تعكس حالة الزهو الفكري والزخم الذي تعيشه المملكة اليوم، قافزة على كلّ المُعطّلات، والممانعات السلبية التي تجيّش الأحداث وتجعلها حجر زاوية أو عثرة لإعاقة التقدم، وخلق إطار استيعابيٍّ ضيّقٍ يعزل الرؤى عن الوصول، ويمنع عنّا ما يشاهده العالم بعين أكبر وعيًا، وأكثر استيعابًا لمضامينه.

 إن السعادة العارمة التي يمكن رصدها في صالات السينما السعودية اليوم، هي حصول المواطن السعودي على الثقافة العالمية والعولمية التي كان يهاجر بحثًا عنها لظروف لم تعد قائمة، وصارت من مخلفات الماضي، وكان لابدّ أن تلفت هذه التحولات أنظار العالم، فتوقفت وسائل إعلام عربية وعالمية عند هذا التحوّل العكسي لجمهور السينما الخليجي، بل وللجمهور السعودي نفسه إلى المملكة، بما يعكس الأبعاد الإيجابية لقرار العرض.

ثم أنن فيلم "باربي" الذي شاهده المواطن السعودي كما يشاهده أي مواطن في العالم لا يعدو كونه فيلمًا خياليًّا كوميديًّا رومانسيًّا استطاع أبطاله اختراق الحياة الواقعية، وملأها بتفاصيل أكثر استيعابًا وإضاءةً على هذه العوالم التي لم نكن نستطيع الخوض فيها، أو مناقشتها علانية في السابق.

هذا الفيلم أحيا موسم الهجرة العكسية إلى صالات السينما السعودية، فقد شاهدنا الكثير من الأشقاء الخليجيين يتوافدون إلى المدن الحدودية المجاورة لدولهم لمشاهدة الفيلم

إن الجدل الأوسع الذي أثير حول طبيعة الشخصيات بالفيلم لا تعدو كونها قضية رأي عالمي تجاوز القارات، وليس الخليج العربي فحسب، فقد أوقفت فيتنام عرضه لأسباب سياسية، وكذلك ولاية البنجاب الباكستانية، كما مُنِعَ في الفلبين وغيرها.  

ثم بالعودة إلى الهجرة السينمائية للمواطن السعودي، فيمكننا استعادة زمن تحوَّلت فيه دور السينما الخليجية والعربية إلى وجهة للمواطن السعودي لتتبّع الأنشطة السينمائية العالمية، لتنقلب الآية اليوم وتتحول السعودية إلى القِبلة في الممنوع من وجهات نظر الآخرين، والمسموح من خلال وجهة نظر الوعي والتلقّي السعودي.

 

الحافز

ولنستوعب جيّدا أن الحافز الكبير لمتابعة فيلم "باربي"، والبحث الدؤوب عنه هو القفز على ذلك السور الوردي العالي الذي بناه هذا الفيلم في الشوارع العالمية لشخصية ليست في الأصل جديدة على عالمنا، وإنما هي ضمن موروث ترفيهي وتجاري عالمي ظهر للمرة الأولى في العام 1959، عندما اخترعته سيدة الأعمال الأميركية روث هاندلر على هيئة دمية، ومنذ ذلك التاريخ و"باربي"  تعدّ جزءا مهمّا من سوق دمى الأزياء العالمية. ولا بد من أن بيوتنا ظلت طوال الخمسة عقود الماضية عامرة بها. وما حدث اليوم، في الفيلم، هو أن "عروسة باربي" الفيلم عاشت أحداثا سعيدة جِدّا في عالمها الخاص كدمية، ثم لم تلبث أن نُفِيَتْ إلى الواقع لتتحول إلى حقيقة، وتخلع ثوب الدمية الجامد بعد أن اكتشفت أنها غير مثالية.

REUTERS
مشاهدة إعلانات فيلم "باربي" خلال العرض الأول للفيلم في فوكس سينما، في الرياض، المملكة العربية السعودية، 10 أغسطس/ آب 2023.

قد يحمل الفيلم في صورته النهائية الكثير من الرسائل السلبية في نظر البعض، وكذلك وجهات نظر إيجابية، وهذا شأن الأعمال الإبداعية دائما، والقول الفصل هو لمن يشاهد بحريّة وثقة ووعي، متحرّرا من المخاوف المجانية والأحكام المسبقة.

font change

مقالات ذات صلة