رحيل ليلى نصير... رسّامة الوجوه المتعبة

رائدة الفنّ التشكيلي السوري

الفنانة السورية ليلى نصير

رحيل ليلى نصير... رسّامة الوجوه المتعبة

ولدت ليلى نصير (1941- 2023) التي فارقت عالمنا أمس الأربعاء، في ريف اللاذقية، وهي تحمل اسما مكرّرا في عائلتها، حيث حملت اسم شقيقتها التي توفيت بسبب المرض، فكانت ليلى ثانية. في نهاية الأربعينات من القرن الماضي وصلت إلى مدينة اللاذقية، بعد رحلة من الريف نحو المدينة جرّاء انتقال عمل أبيها، لكنها لم تنزع من سلوكها وذاكرتها رحابة الريف والعلاقات الحميمة فيه. فتحت أبواب المدينة، وعرفت وجوهها وتفاصيلها ومعاناة سكانها. لامست قدماها ويداها كل شيء إلى أن بدأت ترسم. طفولتها كانت بديلا لأخت متوفية، وانعكاسا لتربية أم مثقفة تعلمت القراءة والكتابة في الأديرة. روحٌ سكنت الأخت جنبا إلى جنب ثقافة الأم، واصطدمت بثقافة ذكورية واجهتها بعنف.

رسمت ليلى نصير منذ نشأتها وجوها متعبة ونساء مقهورات وحزينات، وفلاحين لا يتوقفون عن مواجهة الشمس والتعب، وصوّرت لحظات اجتماعية كانت تُلهمها، من جلسات الرجال في الحارات والمقاهي، إلى الأطفال المهمّشين والنساء العاملات. نتاج أقلام الرصاص الأولى، أهّلها للحصول على منحة حكومية للذهاب إلى مصر لدراسة الفنون، في رحاب سوريا نهاية الخمسينات، التي كانت داعمة للمواهب وباحثة عنها. أُرسلت ليلى لتحصيل شهادة جامعية فدرست في كلية الفنون في القاهرة، وتخرجت عام 1963. في مصر، تتلمذت على أساتذة يُعتبرون من أساتذة الجيل في كلية الفنون منهم عز الدين حمودة أحد أهم أساتذة البورتريه في العالم العربي. وحينما تخرجت كان مشروع تخرّجها باسم "البلهاء".

رسمت ليلى نصير منذ نشأتها وجوها متعبة ونساء مقهورات وحزينات، وفلاحين لا يتوقفون عن مواجهة الشمس والتعب، وصوّرت لحظات اجتماعية كانت تُلهمها

 لا يمكن حصر المؤثّرات التي ألهمت ليلى، لكن تجربتها دوما حملت نزعة تشاؤمية وتمرّدية في آن واحد، دراسة الفن المصري القديم أثناء تخصصها، وحوّرت تأثرها بالنماذج المصرية الفرعونية، مستلهمة منه الخطوط ودقّتها وتقاسيم الوجه، ونقلته إلى تجربة تعبيرية مختلفة، فبدت الأجساد أكثر تعبيرية وقربا من الواقع الحي،. والوجوه دوما في حالة تعبيرية نشطة، وتشكّل اللوحة يتم عبر محاكاة عين المتلقي بالإلحاح، فكل شيء في اللوحة يحاكي انطباعا داخليا، تنقله الفنانة بأمانة، وتنزع منه ما قد يُشير إلى محاكاة حسّية مركّبة، فتحافظ على سياق الصورة بأبسط تجلياتها دون الدفع بالألوان والتشكيلات المكثفة فتظهر اللوحة بكل قوتها وتعبيرها بألوان قليلة.

 

ذاكرة اللوحة

احتفظت نصير بالشكل الأيقوني الكلاسيكي من خلال جعل الخطوط تشكيلا للكتل الواسعة للبياض والألوان الفاتحة، حيث المضمر والمخفي سيكون دوما غيابا لشيء ما يمكن رصده بإحساس داخلي من الصور التي يتذكرها المرء، فذاكرتنا تقترب من لوحات ليلى، فنستحضر الشخوص دون الدقة اللونية، أي ما يبقى في ذاكرتنا هو الملامح الأساسية وكأنها مرسومة لتصنع الكتلة والشكل. الحس الإنساني العميق هو الملمح الأكثر وضوحا في تجربتها، حتى رقاب الشخصيات في اللوحات تكون في الغالب قصيرة، لأنها ضحايا الولادة لا التفكير، حيث الواقع لا يشي سوى بالضحية، التي لا تملك زمنا لفصل الجسد وأتعابه عن الرأس وتأملاته.

حملت ليلى تجربتها الفلسفية والاجتماعية إلى إطار جديد فيه الوقار الملحمي  والديني من جهة، وخصوصية تمثّل مواضيعها من جهة ثانية. فالمرأة الحامل، والسيدات المتعبات، وأطفال الشارع، سيحملون معها بُعدا أيقونيا أكثر من أيّ حامل للماضي.

في دمشق كان لها تجربة طويلة. وما يُستدعى عنها في ذاكرة أبناء جيلها يجعلها أسطورة سورية، من اختراقها مقاهي الرجال، إلى تمثلات جسدها السائر في دمشق. لقد حملت عبئا انطباعيا في ذاكرتها، جعلها تشاهد سوريا بطريقة أخرى. أكثر التصاقا بالجماليات البشرية، فبدلا من الطبيعة والأسطورة، كان البشر وتجاربهم دافع ليلى نصير للرسم والعمل والتشكيل، لكن تأثرها بالفنون القديمة لم يخرج من أي لوحة لها. ويمكن فهم تجاربها المتنوعة بناء على مراحل وعيها وتجربتها الخاصة، من ذاكرة الدراسة في مصر، وأوغاريت اللاذقية، كانت الأشكال الأسطورية تتداعى وتلف واقعيتها الكلاسيكية بالعوز، فانتقلت مع موجات الحداثة وما بعد الحداثة في التجربة، وبدا لمشروع كل لوحة خصوصية ليلى، بعيدا عن تمثلات المذاهب الفنية وقواعدها.

 

دفاع عن النساء

تنتمي ليلى نصير إلى المدرسة الانفعالية بأرقى مستوياتها وأشدّها حدة، فالسمو والخصوصية في تشكيل لوحاتها احتاجا دوما إلى دفعة انفعالية مضمرة وكامنة أحيانا، وحية ومعاصرة في أحيانٍ أخرى. مضمرة من حيث دفاعها عن دور النساء وتعليمهن للفنون جراء قمعٍ واستهجانٍ تعرضت له في طفولتها بسبب اهتمامها بالفن، وحية من خلال تجاربها مع الواقع والشارع والحرب أيضا. انتقلت إلى بيروت لتشاهد حروبها، شاهدت الحروب وبشرها من مقاتلين وقتلى ومشردين، كل هذا كان يحتاج جسدا قويا وانفعالا وجرأة قبل أن يتجسد في لوحة. كانت ليلى نصير من القلائل الذين أقحموا جسدهم وشخصهم في واقعهم ليغنوا فنونهم، تجربة السمو هذه تتأتى لها من تأثرها الهائل بأمها، وبشخصية الأم التي تلد وتلتصق وتعطي وتدفع، معنى الولادة والعطاء، الشفقة والحنو والتواضع في اللوحة هو ذاته تجربتها كشخص يعيش في الواقع. واقع الاقتراب من الضحية سواء كان محاربا قاتلا أم مقتولا،  بشر الحرب وفقراء الواقع سواء كانوا ضحايا أم سذجا، فعل الأمومة والإحاطة فيه التبسها دون أن تكون أُما أو صاحبة عائلة، كان الواقع طفلها وعائلتها، لقد تمثّلت أمها لتكون أما دون أي أنانية أو خوف على نفسها، كان كل شيء طفلا في نظرها يحتاج  إلى جسدها ثم سمو فنها.

لوحة للفنانة السورية ليلى نصير

تحسب لليلى النزعة الشخصية، والتي هي من مقوّمات الفن الرومانسي أيضا، فدورها الشخصي في تاريخ الفن السوري وآلياتها المفتوحة للتجريب، يجعلها رائدة على مستوى الشخصية، من الرسم بالرصاص إلى الألوان الزيتية إلى وضع الكرتون على جسد اللوحة ثم حفره وصقله، ومن تتابع لوحاتها منذ الستينات حتى توقفها عن الرسم، لا يمكن حصر تجربتها في اتجاه بعينه، لا على مستوى  التقانة ولا المذهب. لكن ما يعلق في ذاكرة الجميع وجوه ليلى نصير التي رسمتها، التكوين المذهل الخاص، المساحة التي تتاح لأعين شخصياتها لتتأملنا قبل أن نتأملها، ليس من كون العين مساحة لفهم الوجه، بل بجعل العين نتاجا لحوار مُسبق بين ليلى وبين شخصياتها، فالتأويل المتاح لنا هو ما تم بين ليلى وشخصيتها خلال فترة الرسم، وصولا لانتهاء زمن اللوحة تكون ليلى بتجربتها الخالصة قد استنطقت الشخصية وأتاحتها لنا.

 

سيرة في لوحة

لم تكتب ليلى نصير سيرتها الذاتية، لكن لوحاتها تُشير إلى الكثير من ذلك، كل زوار بيتها القديم كانوا يعلمون أن كل يوم لوحة، والكثير من التجارب التي تُدلي فيها للعالم يومياتها، اليوميات الوحيدة لسيدة لم تتزوج وتصنع عائلة، بل ما يكون في ذاكرتها سيصبح تجربتها ويحين الاستنطاق في وقتٍ تكون فيه وحيدة. لم تتخلّ عن الرصاص أبدا في كل تجاربها، طفولتها الأولى ظلت معها رغم كل ما جرّبته واختبرته في حياتها ، فمهما اعتلت تجربتها الشخصية مراحل أكثر صعوبة، فالنضج كان مكلفا وبائسا لليلى بلا شك مثل أي فنان حمل عبئا ساميا يحاول التخلص منه باسترجاع ذاكرته وأدواته الطفولية علها تنقذه. وعلى طريقة بروست كانت الحداثة كفكرة شكلا يوميا لحياة ليلى، فما تفعله بالفن فكرة، ترتبط بسلوكها الحرّ ثم بطريقة فنها، فتحويل كل ذاكرة وتجربة لفن كان شيئا يوميا وشخصيا كتحدٍ للمجتمع من خلال السلوك المقاوم لأي إبعاد للمرأة عن التأثير، ومن خلال السخط عليه في التقاط ضحاياه وقتلاه المُهملين.

تنتمي ليلى نصير إلى المدرسة الانفعالية بأرقى مستوياتها وأشدّها حدة، فالسمو والخصوصية في تشكيل لوحاتها احتاجا دوما إلى دفعة انفعالية مضمرة وكامنة أحيانا، وحية ومعاصرة في أحيانٍ أخرى

 منذ السبعينات كان تاريخ الفن التشكيلي السوري يُصنع، وكانت ليلى من روّاده ومؤسسيه، في كلّ  أحاديثها تُصرّ ليلى على دورها في تحرير المرأة عبر جسدها ولوحاتها، وتُبرز لشخصيتها بعدا أساسيا في ذلك. في جلساتها مع الفنانين الشبان أو النسوة المثقفات كانت تبحث عن تجاربهن وتدفعهن نحو الانفعال والتعبير. ما حملته في طفولتها من استهجان لموهبتها جعلها تشير دوما إلى أن تجربة نجاحها ارتبطت بالتمرد والمقاومة والاندفاع نحو تحقيق المبتغى الخاص. 

تجوالها في دمشق كان مع مؤسّسي الفنّ السوري الحديث وموازٍ للتجارب الأولى السورية في صناعة الفن. وحينما عادت اللاذقية عادت في أحايين كثيرة للرسم الأقرب للتشكيلات الأثرية، تنوع التجارب زمنيا يجعل ليلى ملتصقة بشخصها أكثر من التصاقها ببنية مشروع واضح للوحاتها، هذا الخليط في الأثر هو بحث عن شيء أو عن إجابة دائمة، خاصة عندما ترسم الوجوه الخائفة، الأوشحة التي تلفّ الرقبة كدلالة على عدم الشعور بالأمان وتجذّر الوحدة، أو المرأة الحامل البائسة كخوف من الحياة . بدأ فنها في المراحل الأخيرة يشي بالتشاؤم الشخصي ويكتفي فيه ويكون عنوانه.

 

عزلة

 تأمّل اللوحات الكثيرة والمنتشرة في أرجاء العالم يوحي بكثير من مخاوفها والتي تحقق جزء كبير منها، فالعيش وحيدة ثم في دار للعجزة، قلة الزوار وقلة التقدير اللذان شعرت بهما منذ بداية الألفية، حينما كان العائم الاجتماعي والفني السوري في أدنى مستوى له، كانت ليلى تروي دوما ذكرياتها وآلامها جراء إهمال الفنون في سوريا وقلة احترامها وفهم أثرها وتجربتها، ورغم بعض الجوائز التقديرية في سوريا، إلا أن إهمالها كان السمة الأبرز، انحدار الفنون وطبعها الشخصي الصعب جعلاها مدار إشكالية دائمة في مدينتها أو في سوريا عموما. لكن يصعب أن نجد شخصية توازي ليلى نصير رائدة وصانعة للفن التشكيلي السوري، بل تجربة شخصية يمكن تأويل مساراتها ويومياتها من خلال الأعمال وفهم انتقال الفكرة إلى الفن، وقد تكون ليلى نصير أهم فنانة نسوية ناضلت في اليومي من أجل قضية المرأة، بل أقحمت شخصها في كل ذلك. الحياة المديدة لم تكن مفرحة لها، ضخامة الأثر الفني لا تتوازى مع الاحتواء الاجتماعي في بلدان تترك أهم فنانيها يذوون دون دراسة جدية لأدوارهم وقدراتهم وأثرهم وعمق تجاربهم.تجربة تقمص الأخت ودور الأم، والتجارب التي لم تُدرس جيدا في الكتابة والنثر، كل هذا كان فنا لا يتوقّف عن بعث نفسه من خلالها، لا يمكن لأجيال تعاقبت على مشاهدة ليلى نصير في الطريق أو في المقاهي أو المعارض من نسيان سطوة وجودها وحدة صوتها، وهويتها البصرية ستكون مدار إشكالية دائمة جراء حيوية التجارب وتنوعها. أرث ليلى نصير سيعاد الكتابة عنه دوما، كنقيض لأي زمن يمكن من خلاله تأطيرها.

font change

مقالات ذات صلة