نزار قباني... مئة عام من الحبّ

زمن الشعر الذي كان ينتمي إليه قباني وكان أحد صنّاعه الأساسيين... لم يعد موجودا

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

نزار قباني... مئة عام من الحبّ

في مئوية الشاعر نزار قباني وبعد مرور ربع قرن على رحيله، لم يعد نزار قباني شاعرا جدليا بين أهل الثقافة والأدب، مثلما كان في حياته. لم يعد هناك فريقان، أحدهما يرى فيه قيمة شعرية واختراقا كبيرا، والثاني يرى أنه أسهم في تسطيح الشعر وتسليع المرأة.

هذا الجدال انتهى. وسوف تجد بين معظم محبي الشعر وممارسي كتابته، اعترافا صريحا بقيمة قباني وأهميته الشعرية، وما كان يعتبر هدما للغة وللأسس والقواعد الشعرية سابقا، ارتقى اليوم مرتبة الكلاسيكية. وحاله حال جميع الشعراء التأسيسيين في الحداثة الشعرية العربية، فإن حياة نزار قباني الثانية، كشاعر وصانع للمعنى وصاحب رؤية للحياة، بدأت بعد رحيله، وصار استقباله شاعرا اليوم، بين الشعراء والأدباء على الأقل، مختلفا عن استقباله نجما جماهيريا في زمن مضى.

والمفارقة، أنه في حين بات يمكن النظر إلى تجربته الشعرية بتجرّد، بعيدا من كل التأثيرات التي حفّت بهذه التجربة خلال حياته المشحونة بالأحداث والتحولات، أي بقدر أعلى من الموضوعية وإمكانية خلق الصلات الجمالية بين محطاته الشعرية، فإنّ زمن الشعر نفسه الذي كان ينتمي إليه قباني، وكان أحد صناعه الأساسيين، لم يعد موجودا، على الأقل ليس بالطريقة السابقة نفسها.

لا يبدو أن صانع الشعر الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس لا يزال محتفظا بحضوره. كما في مجالات أخرى كثيرة متصلة بالمعرفة في العالم العربي، فإن الأرقام تكاد تكون معدومة. لا نعرف كم يطبع ولا كم يقرأ من الشعر بقديمه وحديثه. بيد أن ثمة نوعا من الإجماع على أن الشعر لم يعد يحتل المكانة التي كان يحتلها قبل عقود قليلة. لا نقول إن الشعر مات، مثلما يردّد بعضهم، فممارسو الشعر ما زالوا كثرا وما زال له قراؤه، إلا أن الهالة التي كانت تحيط به، باتت تنتسب إلى فضاءات أخرى.

ربما هو مخاض جديد للشعر يعود بعده إلى واجهة الحضور والتأثير، لكنّ المؤكد أن العالم الذي كان نزار قباني يرسمه بالكلمات ذوى وصار آيلا للاختفاء. حلت سلطات جديدة مكان سلطة الشعر، ودخلت أدوات مختلفة إلى الساحة بشكل عنيف فكك أولوية اللغة كوسيلة تعبير، وصارت المشاعر جزءا من صناعة سوق عالمية لا تنتسب في الغالب إلى الشعراء بل إلى الشركات الكبرى، بما فيها شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي.

 غاب دور الشاعر كمعلم كبير للحياة ليحل مكانه "اللايف كوتش" الذي يقدم وصفات سريعة وجاهزة، ويبيع السعادة والسطوة والسيطرة والتحكم وكل شيء


المرأة، التي شكّلت عالم قباني وصنعت صورته بقدر ما صنع صورتها، لم تعد منتجة لحضورها. وغاب حضور الشاعر بصفته "معلّم الحياة" وصانع معانيها، كما يتمثّل في حالة نزار قباني على الأقلّ، لصالح "اللايف كوتش"، وغاب حضور الصورة الشعرية لصالح صور المنتجات التي يسوّق لها "الإنفلونسرز" أو المؤّثرون عبر شبكات التواصل الاجتماعي. نطلّ على العناوين العريضة التي شكلت تجربة نزار قباني ونرصد ملامح العالم الذي كان يبنيه ويدافع عنه والذي يبدو اليوم نائيا، إن لم يكن مستحيلا.

الشاعر و"اللايف كوتش"

نظر نزار قباني إلى عالم المرأة ومشاغلها وما يحيط بها من عوالم ومشاعر، بدهشة العاشق المفتون، وربط استحضارها بحياة تتشكل من اللقاء بمفاهيم العذوبة والأنوثة السيالة التي تفيض على الوجود وتشكله. جمهور شعره كان مضطرا إلى التماهي معه والدخول في حالة قصوى من الانتباه إلى التفاصيل التي يزخر بها ذلك العالم الثري والخصب.

ذلك الانتباه كان يفترض التدرب على القراءة الجمالية والانفعالية والشعرية للمرأة والحب، وكان الشاعر يلعب دور المرشد الجمالي والحياتي.

لم تعد تلك الحياة ممكنة، وغاب دور الشاعر كمعلم كبير للحياة ليحل مكانه "اللايف كوتش" الذي يقدم وصفات سريعة وجاهزة، ويبيع السعادة والسطوة والسيطرة والتحكم وكل شيء انطلاقا من فكرة تعتبر الأشخاص متماثلين ومعرّفين، وتاليا فهم يحتاجون إلى وصفات محددة وثابتة ومباشرة.

النجومية التي كان يمثلها نزار قباني بحضوره الطاغي، والتي تجلت في مبيعات قياسية لكتبه ونشرها في طبعات عديدة، أخلت الساحة لنجوميات من نوع آخر تتكوّن من "المؤثرين الثقافيين" الذين باتت تحتل كتبهم معارض الكتب وتتصدر قوائم المبيعات.

وحده نزار قباني كان يمثل الشاعر النجم الذي يقارع بالكلمات والصور نجوم التمثيل والغناء. نظرة على الأرشيف ترينا قباني في مشاهد تجمعه مع نجم نجوم زمانه عبد الحليم حافظ وهو يتحدث معه في لقاء مصور ليسأله عن قصيدة "قارئة الفنجان" التي ختم بها حياته الغنائية وعن المشاكل التي أثارتها عملية تطويعها لمتطلبات الغناء.

Eduardo Ramon

بدا عبد الحليم تلميذا يتعلم من أستاذ كبير ولم يكن في تلك اللحظة النجم الذي يتضاءل حضور أي شخصية أمامه، بل كان في موقع المتلقي لحضور نزار الطاغي الذي يتحدث بثقة عارمة أقرب إلى التباهي والغرور ويجيب عن سؤال حول احتمال أن يكون بعض أبيات القصيدة مكسورا، قائلا إن ذلك عائد إلى "لعبكم بالقصيدة".

كان نزار يحتل بكلامه حناجر المغنين الذين يغنون قصائده ويسيطر على العمل ككل وكأنه يمتلكه بكل تفاصيله غناء وتلحينا وكلاما، فالعمل يكاد ينسب إليه بالكامل ويتخذ ملامح خصوصيته انطلاقا من كلماته.

صندوق الشوكولا

كل ذلك كان نتاج زمن كانت اللغة ما زالت تحتل فيه موقع السيادة في صناعة المجالين العام والخاص. التأثير العريض لنزار كان ينبع من اللغة التي كانت لا تزال تمتلك سلطة عريضة عمل على توظيفها في إطار جديد وحيوي منحها طزاجة لافتة ومرونة استثنائية. أما دواوين نزار فكانت تتداول خارج السياقات التي وسمت التعامل مع المنتج الثقافي عموما والتي تربطه بالتجهم والجدية، إذ كانت تتخذ صفة هدية بكل ملامحها من الحجم الصغير للدواوين إلى الأغلفة الجذابة التي دفعت بأدباء زمانه إلى انتقاده معتبرين أن كتبه تغلف وتباع مثل صناديق شوكولا.

على الأرجح، لم يكن نزار ينزعج من مثل هذا الوصف، ولكن وفي دلالة على حجم اختراقه للمألوف أن نعته بالـ"أزعر" وهو تعبير شعبي يعني المنحل والمتفلت أخلاقيا، لم يصدر عن ثقافة رسمية متجهمة ولا عن مؤسسات متعصبة ولكن عن شعراء وأدباء معروفين لطالما نادوا في كتابتهم بالحرية وتفجير الحدود وما إلى ذلك من شعارات، ولكنهم كانوا يرتدّون أمام ما نجح في بنائه من عمارة لغوية أحلت مفردات المرأة وخطابها في المجال العام، إلى أصوليين ورجعيين.

تناول نزار لجسد المرأة جعله عالما مكتمل الأركان يحيل إلى شكل حياة مشتهاة ويفرض استقبالا جماليا وشخصيا جديدا. فالمرأة التي حدثنا عنها ووصفها وجعل لها صوتا في كثير من القصائد، كانت تمتلك جسدها وقد بث تلك الرغبة في التعبير عن تلك الملكية في المجال العام وجعلها تحتل موقعها من التفكير والإحساس.

إنطاق المرأة

لم تكن تفاصيل المرأة التي أشبعها نزار قباني وصفا مجرد مجال دلالي وجمالي عريض ارتبط بالجغرافيا والروائح والرغبة وشكل مرجعا نهل منه الجيل الجديد من الشعراء، ولكن تلك التفاصيل باتت معه شخصيات مكتملة الأركان تمتلك سيرة مكتملة المعالم وتبحث بدأب عن كلامها وخطابها. لازم هذا المشروع نزار منذ ديوانه الأول "قالت لي السمراء" الصادر عام 1944 وديوانه الثاني "طفولة نهد" الصادر عام 1947 الذي فجر أزمات كثيرة ونشر بعد تهذيب العنوان واستبدال مفردة نهد بنهر، وقد استمر حتى آخر دواوينه.

   نظر نزار قباني إلى عالم المرأة ومشاغلها وما يحيط بها من أدوات ومشاعر، بدهشة العاشق المفتون، وربط استحضارها بحياة تتشكل من اللقاء بمفاهيم العذوبة والأنوثة السيالة التي تفيض على الوجود وتشكله


إنطاق المرأة وجسدها كان اختراقا كبيرا قائما على الرصد والانتباه والتأمل والدفع في اتجاه شحن المألوف من العبارات والتراكيب اللغوية بطاقة مختلفة من المعاني. لم تقف الكلاسيكية والشكل الشعري العمودي والموزون حائلا دون تنفيذ مشروعه، فالشاعر المسكون بثقافة القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والمتخم بالكلاسيكية، شاء في البداية خلق ترددات وتموجات جديدة في النهر نفسه، فكان أن كتب شعرا موزونا مغرقا في الكلاسيكية لناحية الشكل ولكنه يمثل نوعا من القطيعة مع أنماط توظيف المفردات وتوليد الصور التي كانت سائدة في عصره.

في قصيدة من ديوانه الأول بعنون "سيمفونية على الرصيف" يصور الموسيقى وكأنها بعض ما يفرزه حضور الجسد الأنثوي:

"سيري.. ففي ساقيك نهرا أغاني

أطرى من الحجاز والأصفهاني

بكاء سيمفونية           

حلوة

يغزلها هناك قوسا كمان

أنا هنا متابع نغمة

قادمة من غابة البيلسان

أنا هنا وفي يدي ثروة

عيناك والليل وصوت البيان".

الدبلوماسي الجوّال

نزار قباني المولود في 21 مارس/آذار 1923 في حي "مئذنة الشحم" الدمشقي درس الحقوق في الجامعة السورية ونال شهادة فيها عام 1945 مكنته من الالتحاق بالسلك الدبلوماسي حيث جاب مشارق الأرض ومغاربها متنقلا بين مصر وتركيا والمملكة المتحدة والصين وإسبانيا. ترك كل بلد بصمة خاصة في شعره وتجربته وقد ترك الدبلوماسية عام 1966 وانتقل للعيش في لبنان وأسس دار نشر حملت اسمه.

 تجربته القاهرية التي امتدت ثلاث سنوات (1948-1945) أدخلته في عالم الأربعينات القاهري الثري والغني والذي كان يشهد حركة ثقافية تحررية عريضة احتضنت أولى تجاربه الشعرية المتمثلة في ديوانه الثاني المثير للجدل "طفولة نهد"، كما تعرف على الناقد أنور المعداوي الذي دافع عن كتابته ووصفها قائلا: "هذا الكلام لم نسمعه من قبل". يتحدث الشاعر الدمشقي عن التجربة القاهرية في كتابه "قصتي مع الشعر" المنشور عام 1970: "للقاهرة عليّ فضل الربيع على الشجر، وبصمات يديها ترى واضحة على مجموعتي الثانية "طفولة نهد" المنشورة في القاهرة عام 1948".

يضيف: "فلقد صقلت القاهرة أحاسيسي وعيني ولغتي الشعرية، وحررتني من الغبار الصحراوي المتراكم فوق جلدي. كانت القاهرة في الأربعينات زهرة المدائن وعاصمة العواصم العربية وكانت بستانا للفكر والفن عزّ نظيره".

في هذا المناخ المستعد لاستقبال الجديد كتب نزار في قصيدة "لولاك" المنشورة في ديوانه القاهري:

"ترى يا جميلة... لولاك

هل ضج بالورد درب؟

ولولا اخضرار بعينيك، ثر المواعيد، رحب

أيسبح بالضوء شرق

أيُغمر باللون غرب؟

أكانت تذر البريق الرمادي- لولاك- شهب؟

أكانت ألوف الفراشات

في الحقل طيبا تعب؟

لو أني لست أحبك أنت..

فماذا أحب؟".

تمثل هذه القصيدة بأسلوبها وإيقاعها ومفرداتها ومنطق تركيب المعاني فيها الذي يضع المرأة في مركز بث اللون، والحياة والضوء، الروح الجديدة التي بثها الشاعر الشاب آنذاك في قلب المشهد الشعري العربي. بعد القاهرة تبرز تجربتان جوهريتان كان لهما الأثر الأكبر على نتاج نزار هما التجربة الإنكليزية والتجربة الإسبانية.

انتقل قباني إلى لندن وعاش فيها ثلاث سنوات (1955-1952) انطبع خلالها أثر منطق اللغة الإنكليزية على نتاجه الشعري الذي خرج في هيئة استفادات من البنى التقنية السائدة في الإنكليزية لناحية التعبير المباشر والصريح والبناء التقني المتوازن والسياقات الواضحة.

 النجومية التي كان يمثلها نزار قباني بحضوره الطاغي، والتي تجلت في مبيعات قياسية لكتبه ونشرها في طبعات عديدة، أخلت الساعة لنجوميات من نوع آخر تتكوّن من "المؤثرين الثقافيين" الذين باتت تحتل كتبهم معارض الكتب وتتصدر قوائم المبيعات


 يعرض تفاصيل تجربته الإنكليزية: "وضعتني في إطار حضاري وإنساني كنت بأمس الحاجة إليه"، مشيرا إلى أنه "في مدرسة الحرية هذه، كتبت أفضل أعمالي الشعرية وأكثرها ارتباطا بالإنسان وهو كتاب 'قصائد' ". في هذا الديوان انتقل نزار إلى القصيدة المشهدية كما في قصيدة "مع جريدة" التي غنتها ماجدة الرومي ولحنها جمال سلامة وضمتها إلى ألبومها "ابحث عني" الصادر عام 1994.

تقول كلمات هذه القصيدة:

"أخرج من معطفه

الجريدة

وعلبة الثقاب

ودون أن يلاحظ اضطرابي

ودونما اهتمام

تناول السكر من أمامي

ذوب في الفنجان قطعتين

ذوبني  ذوب قطعتين".

الشكل المسرحي الطاغي في هذه القصيدة يشير إلى التأثير الذي طبع تلك المرحلة ويعبر عنه. فكرتها تتبع سياقا يتألف من تتابع مشهدي متصل والحركة فيها منسوجة من تفاصيل مباشرة ومرئية. يضم الديوان كذلك قصيدة "خبز وحشيش وقمر" الشهيرة التي تسببت في مشاكل كبيرة اخترقت أسوار البرلمان السوري الذي ارتفعت أصوات من داخله تطالب بطرد نزار من عمله في وزارة الخارجية، كما شنت حملات تندد بالقصيدة وتدينها. يقول أحد مقاطع القصيدة:

"أي ضعف وانحلال

يتولانا إذا الضوء تدفق

فالسجاجيد وآلاف السلال

وقداح الشاي والأطفال تحتل التلال

في بلادي

حيث يبكي الساذجون

ويعيشون على الضوء الذي لا يبصرون".

 

 

 

Eduardo Ramon

الخطاب النقدي شديد الوضوح في هذه القصيدة، ولكن بنيتها التركيبية تدل على انتسابها إلى المرحلة الإنكليزية لناحية المباشرة والإيجاز.

أما المرحلة الإسبانية فامتدت ثلاث سنوات (1964-1962) ويصفها قباني بأنها كانت مرحلة "الانفعال القومي والتاريخي".

وجد الشاعر نفسه أمام تاريخه المبعثر وفي مواجهة الحكايات التي تروي سيرة أهله وأجداده وكذلك أمام المزاج المتطرف في العيش وفي التعبير. أهم ما تعلمه في إسبانيا كما يحدده يتجلى في "التطرف في تذوق الأشياء والتطرف في التعبير عن الأشياء، فكل شيء في إسبانيا حار وحارق كالبهارات الهندية، فالحب الإسباني نزيف، والنبيذ نزيف، والغناء نزيف، والشعر نزيف، والرقص نزيف، والورود الحمراء المزروعة في شعر الإسبانيات نزيف. إسبانيا هي أرض الانفعال والتوتر، ولا يمكن لأي إنسان أن يمر بها أو يسكنها أن يبقى محايدا".

خلاصة هذه المرحلة تجلت في ديوان "الرسم بالكلمات" الذي يجمع بين أنواع شتى من التطرفات العاطفية والقومية. نقرأ في مقطع من قصيدة "أوراق إسبانية":

"فلامنكو

فلامنكو

وتستيقظ الحانة الغافية

على قهقهات صنوج الخشب

وبحة صوت حزين

يسيل كنافورة من ذهب

وأجلس في زاوية

ألم دموعي

ألم بقايا العرب".

بينما يتجلى التطرف العاطفي والغرور المفتوح في القصيدة التي تحمل عنوان "الديوان":

"لا تطلبي مني حساب حياتي

إنّ الحديث يطول يا مولاتي

كل العصور أنا بها فكأنما

عمري ملايين من السنوات

تعبت من السفر الطويل حقائبي

وتعبتُ من خيلي ومن غزواتي".

الهجاء السياسي

قد يكون الخطأ الكبير الذي وقع فيه نزار قباني هو جنوحه إلى كتابة ما اصطلح على تسميته بالشعر السياسي بعد نكسة عام 1967 وفيه ركب نزار موجة الصدمة والذهول والغضب التي عمت وانتشرت وعبر عنها بشعر هجائي انتقادي حاد كان في تركيبه ومنطقه وأسلوبه منسجما ومتماهيا مع جملة الكتابات الشعرية التي عمت وانتشرت في تلك الفترة واستمرت طويلا بعدها.

عرفت قصائده شهرة واسعة قياسا بحجم نجوميته العريضة وخصوصا ديوان "هوامش على دفتر النكسة"، إلا أنه بدا أنه فقد بريق الخصوصية الذي كان يميز شعره عن المرأة والحب.

بعد ذلك وفي المراحل الأخيرة من حياته بدا راكنا إلى نفسه ومنجزه فنزع إلى استنساخ ذاته بشكل متكرر. ظهر الجديد، الذي طالما كان واجهته وميدانه، باليا من كثرة الاستعمال.

اجتياح الإنفلونسرز

عالم نزار المسكون بالمرأة واللغة والمدن والتجربة الفردية والخصوصية، لم يعد اليوم ممكنا. الإغواء الذي تنشغل به المرأة التي كرس لها معظم نتاجه الشعري كان يخلق دائرة وفق مفهوم الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز للرغبة التي ينظر إليها على أنها دائرة متعددة ومتكاملة. المرء حين يرغب في امرأة فهو يرغب عمليا في حياة كاملة تتحقق من خلال جملة المعاني التي ترتبط بها وتنبع منها وتبثها.

ما انكسر بالنسبة إلى الشاعر كان الصوت والمكان والزمن الدمشقي الذي يراه قد تفتت بين يديه، وبات مثقلا بجثة ابنه التي يحملها على ظهره كأنها عالمه الذي فقده إلى الأبد

الإغراء اليوم صار وظيفة الصورة الفائقة الكمال التي يروج لها نجوم الميديا الجديدة الذين يسمون "إنفلونسرز" والذين باتوا صناع التأثير الجمالي والثقافي والحياتي الجدد. الأثر المخيف الذي ولدته تلك الظاهرة يكمن في أنها تحرص على خلق امرأة تحيا حالة قطيعة مع نفسها ومع جمالها وتنظر إلى فكرة الإغراء كأثر تحصل عليه عبر المنتجات التي تشتريها وليس كصفة موجودة فيها لا يقوم المنتج سوى بتظهيرها وإبرازها.

ظهر خطاب يتوجه إلى الرجال والنساء بصفتهم مستهلكين فحسب، وتاليا صارت العلاقات كذلك تقوم على هذا المنطق، فلم تعد هناك دائرة من تبادل الإغواء والنظرة والرغبة في العيش ضمن ذلك العالم الذي يتشكل من لقاء الإغراء بالنظرة الراغبة المتمعنة القارئة والقادرة على تأويل ما تراه وترجمته.

تاريخ الفقد الممتد

بعد مغادرته السلك الدبلوماسي وانتقاله إلى لبنان توالت المصائب الشخصية والعامة، وبدأ الفقد يحاصر الشاعر ويشكل مسارا تصاعديا يمكن رؤية ملامحه في حاضر وطنه. في العام 1973 فقد الشاعر ابنه توفيق الذي توفي في 10 أغسطس/آب 1973 وهو لم يتجاوز عامه الثالث والعشرين، وبعد ذلك وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 1981 فجع بفقدان زوجته بلقيس في تفجير السفارة العراقية في بيروت.

توالى تلاشي عالم المدن الذي شكل روافد شعره مع توالي الأزمات والحروب التي نشرت حالة من الترييف العميق وأحلّت العسكرة خطابا وثقافة وسلوكا في كل شيء. ولعل الشاعر في مراثيه لفقده الشخصي وللمدن كان قارئا  لأحوال حاضرنا اليوم، وقد يكون كذلك  قد حدس بمصيره الشخصي بعد أن صار منفيا من بلده وممنوعا من دخول معظم البلاد العربية، لذا اختار الركون إلى غربته اللندنية حيث عاش حتى وفاته في العام 1998.

في مرثيته الحساسة لابنه توفيق والتي حملت عنوان "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني" (1949-1973) والتي ضمنها في ديوان "أحبك أحبك والبقية تأتي" نسمعه يصرخ:

كمئذنة كسرت قطعتين

وشعرك حقل من القمح تحت المطر

ورأسك في راحتي وردة دمشقية.. وبقايا قمر.

ما انكسر بالنسبة إلى الشاعر كان الصوت والمكان والزمن الدمشقي الذي يراه قد تفتت بين يديه، وبات مثقلا بجثة ابنه التي يحملها على ظهره كأنها عالمه الذي فقده إلى الأبد.

تلك الحساسية الشفافة تحولت إلى حزن غاضب عارم ومفتوح مع اغتيال زوجته بلقيس والتي رثاها في قصيدة مطولة تحمل اسمها وتعتبر أبرز المراثي الهجائية في الشعر العربي الحديث. يفتتحها بمقطع يحمل شحنة عالية من السخرية المتفجعة:

"شكرا لكم

شكرا لكم

فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم

أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة

وقصيدتي اغتيلت

وهل من أمة في الأرض

- إلا نحن- نغتال القصيدة؟".

 يرصد في مقطع آخر موت الكلام:

"بلقيس

 يا عطرا بذاكرتي

ويا قبرا يسافر في الغمام

قتلوك في بيروت، مثل أي غزالة

من بعدما قتلوا الكلام".

ويصل إلى ذروة الغضب العارف الذي بات قادرا على كشف كل شيء، قائلا:

"سأقول في التحقيق

إني أعرف الأسماء والأشياء والسجناء

والشهداء والفقراء والمستضعفين

وأقول إني عرفت السياف قاتل زوجتي

أهمية هذه القصيدة في تاريخ نزار الشعري أنها ليست مجرد انعكاس لمصيبة شخصية تلقاها الشاعر وترجمها، ولكنها تؤرخ لمرحلة فقد المعاني والكلام. العوالم التي نهل منها في كتابته عن المرأة تشظت مع جسد حبيبته المتطاير في قلب المدينة التي طالما كانت تصنع الحياة ومفرداتها. انفجر الألم وكأنه الخطاب الأخير، فبلقيس بالنسبة إليه لم تكن مجرد زوجة وحبيبة بل كانت عالم المرأة والكلام الموصول بفكرة الرحابة المدينية وتجلياتها.

 

في تلك اللحظة وكما يرصد في القصيدة كان الموت شاملا وحاسما وقد أخذ معه بلقيس ومعناها وكذلك بيروت التي كان قد رثاها في ديوان "إلى بيروت الأنثى مع حبي" الصادر عام 1978 والذي يضم قصيدة "يا ست الدنيا يا بيروت" التي غنتها ماجدة الرومي ولحنها الموسيقار جمال سلامة، وقصيدة "إلى بيروت الأنثى" التي غنتها نانسي عجرم بعد تفجير مرفأ بيروت عام 2020.

كل هذه القصائد كانت بمثابة توقع لكارثة تجلت في قصيدة بلقيس التي يمكن عدها نوعا من الخاتمة الشعرية المبكرة ورثاء شاملا لعالم المرأة وللمدينة العربية التي كان قباني شاهدا أمينا على ذوبان معانيها واحتراق مفرداتها.

مستودعات التعابير

ينتمي شعر نزار إلى عالم كانت العلاقات فيه تتأتى من المعرفة. الإغراء كان دعوة إلى القراءة في حين يقوم عالم "الإنفلونسرز" المعاصر على التصفح الذي لا يسمح بأي تراكم، ما يعني أنه يبني حضوره على استحالة المعرفة. المتصفح أو المستهلك لا يعرف شيئا ولن يستطيع الإحاطة بالتدفق الهائل للسلع التي تضعه في حالة نقص دائمة لا يمكن إشباعها.

حين يصبح هذا المجال صانعا للعلاقات بين الرجل والمرأة لا يمكن لعالم نزار قباني، واستطرادا لعالم الشعر، الاستمرار، ليس بالطريقة السابقة على الأقل. الجمال كان قيمة أصلية موصولة بذات المرأة ويفيض منها على العالم عبر الشالات والعطور والأقمشة. كل تلك الأشياء كانت تنبع من تلك القيمة الأصلية وتتماهى معها ولكنها لم تكن خالقتها.

في الزمن الراهن، صار الجمال والإغراء مجرد منتجات، وتاليا لم تعد المرأة تملك جمالها بل صارت تشتريه.

تفككت عوالم الإغواء واللقاء الممكنة. الرجل والمرأة الآن لا ينظران إلى بعضهما البعض ولا ينتجان علاقة بل يستهلكان بعضهما البعض. العلاقات تتشكل على الشاشات حيث لا مجال للانتباه والتمعن ولا للمشاعر.

يقول نزار على لسان امرأة في إحدى قصائده الشهيرة التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها نجاة الصغيرة:

"حتى فساتيني التي أهملتها

  فرحت به.. رقصت على قدمي"

 زمن الفساتين التي تفرح وترقص أصبح جزءا من عالم الأمس، وفساتين أيامنا بلا مشاعر على الإطلاق وباتت مجرد سلع، وهذا الوصف ينطبق على العلاقات التي باتت أقرب إلى مفهوم الصيد والافتراس. في مثل هذا العالم تتقلص الحاجة إلى اللغة كوسيلة تعبير، فما بالك بالاستعمال الجمالي والرمزي المكثف لها في الشعر. التواصل اللغوي يعاني من مشكلة كبيرة مع توسع الأيقونات الدالة على المشاعر "الإيموجي" وظهور تفريعات وتنويعات كثيرة عليها لتصبح أكثر تحديدا ودقة.

مشاعر الغضب والحزن والفرح صارت محددة ولم تعد تحتاج إلى قراءة شعرية وتمثل لغوي بل باتت شديدة الوضوح والإيجاز والعمومية ولا مجال فيها للخصوصية.

لقد بات الناس أمام مستودعات تعبيرات عن المشاعر يمكنهم استخدامها كبدائل عن اللغة. عالم نزار قباني يميل إلى الاختفاء أمام سطوة هذه الواحدية الشاملة في التعبير التي تصادر دور اللغة في المجالين العام والخاص، وتستبدلها بصور وأيقونات تزعم أنها قادرة على الإحاطة بشتى الانفعالات والمشاعر.

العالم حالة شعورية

الشاعر نحات المشاعر، ومفجر الانفعالات، والباحث في طبيعتها وأشكالها، وراصد حركتها ومساراتها، ومهندس الصور والتراكيب التي تعبر عنها، لم يعد اليوم يمثل حاجة جوهرية. المشاعر على غرار كل شيء صارت منتجا استهلاكيا مستقلا عن الناس.

"الوجود ليس سوى ما نشعر به"، هذه الخلاصة التي خرج بها نزار بعد أكثر من 40 ديوانا وكتابا. وكان قد كشف عن تصوره للعالم في مقطع من قصيدة تحمل عنوان "مخطط نزاري لتغيير العالم" منشورة في ديوان "هل تسمعين صهيل أحزاني" الصادر عام 1991 يقول فيه:

"أشيلك يا ولدي فوق ظهري" أريد أن أستلم السلطة يا سيدتي

ولو ليوم واحد

من أجل أن أقيم

 جمهورية الإحساس".

"جمهورية الإحساس" لم تعد ممكنة بقدر ما باتت ضرورة قصوى، عالم التسارع المتوحش جعل نتاج نزار يتقادم بسرعة كبيرة ويبدو عاجزا عن إنتاج الأثر، ولكن قد يمكن التفكير في أن تعبا كبيرا وشاملا سيصيبنا قريبا ويدفع بنا إلى العودة لمصادر السكينة والتمهل والنظرة اللغوية إلى الحواس والعيش والوجود.

 سيكون عالم نزار الشعري بانتظارنا حيث سنقرأه ونكتشفه من جديد وحينها سيكون الحكم على تجربته متاحا، أما الآن فقد يكون الحكم على أي تجربة شعرية عسيرا وممتنعا في عالم طارد للشعر والمشاعر.

font change

مقالات ذات صلة