مطلوب مستشار سياسي للشركات

أول الحروب حظر فحصار... ثمة أساطيل وراء البحار

مطلوب مستشار سياسي للشركات

"العالم قرية صغيرة"، المصطلح الأشهر مذ أخبرنا توماس فريدمان حكاية "السيارة ليكزس وشجرة الزيتون" وتنظيراته في كتابه الذائع الصيت، لكن العولمة فشلت في تحقيق أهدافها "السامية"، فلا قنوات الترابط بين الدول عملت، ولا الأسواق فتحت في الاتجاهين، ولا الرخاء الاقتصادي والثقافي والعلمي الموعود عمّ الشعوب، بل صبت كل المنافع في النصف الشمالي من الكرة الارضية، ولدى شركاتها تحديدا.

انتشر الجشع والتشرذم، وشنت الحروب التجارية والعسكرية، التي تنقلت في معظمها في الشطر الجنوبي من الكوكب، وجرجرت معها الدمار والنازحين والخسائر الاقتصادية الهائلة، ناهيك بملايين الضحايا والجرحى والمفقودين والمعذبين في الأرض. ازدهرت فحسب الشركات العملاقة العابرة القارات، وهي في معظمها أميركية وأوروبية، أو كندية وأوسترالية ويابانية، قبل أن يستفيق المارد الصيني، وتجاوزت بأحجامها المالية وأثرها الاقتصادي والاجتماعي (Social Impact) مستوى الدول، ونافست في عائداتها وأرباحها الناتج المحلي لمعظم دول المعمورة.

انتشرت العولمة بكل معانيها وأبعادها السلبية في كل شبر من الكرة الأرضية، وأمعنت في القتل إما بالبارود أو بالاقتصاد، وعاثت إفقاراً للشعوب المعدمة أصلا، لا ملجأ من نفوذها، ولا مهرب من تغلغلها حتى في قهوتنا الصباحية، وغذائنا، وأسلوب حياتنا، والهواتف الذكية التي ننام ونستيقظ على شاشاتها، وهي تتجسس علينا ليل نهار، وستتحول قريبا مع "هستيريا الذكاء الاصطناعي" الى روبوتات صديقة وذكية، تزيدنا عزلة وكآبة... وتدفع بعشرات الملايين من الموظفين والشباب الى المجهول! كما ستزيد الجيوش أسلحة ذكية وتكنولوجيا تتفوق على الذكاء البشري، وربما تتصرف وحدها ذات يوم فتقضي على الكوكب في غفلة عين.

تشتعل أزمة في دولة ما، فتتسلل مفاعيلها إلى كل أرجاء المعمورة، بما يبدل الخطط والتوقعات الاقتصادية والمالية، وصار التخبط في الأرقام خبزا يوميا، بين حروب مستعرة، وسلاسل إمداد مشلولة، وعملات منهارة وأخرى متصارعة، ومجموعات متنافسة واقتصادات متصدعة ينخرها التضخم والفوائد المرتفعة 

وعلى الرغم من أن جائحة كوفيد -19 كانت فرصة تاريخية لتعاضد البشرية، إلا أننا لم نتعلم منها شيئا، على ما يبدو، ونسينا بسرعة تلك الليالي التي كانت الناس تقف على شرفات منازلها ليلا وتصدح في كورال جماعي بأناشيد بيلا تشاو بيلا تشاو (Bella Ciao)، ومثيلاتها من الأناشيد الوطنية الحماسية مع الاحساس باقتراب الموت الجماعي... مترافقةً مع فضائح جشع شركات الأدوية واللقاحات الأشهر المخيبة للآمال فعلا. 

مع حفلة الانهيارات المصرفية التي شهدناها منذ مطلع السنة الجارية، ولا سيما منها الانهيار الدراماتيكي التاريخي لمصرف "كريدي سويس" وقبله "سيليكون فالي بنك"، تبين أن مدخرات الناس في أي مصرف في العالم ليست في مأمن، لا في لبنان فقط، ما دامت وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على مدار الساعة، وتكفي "تأكيسة" (تغريدة) واحدة لتشعل هلعا في الطلب على الودائع من مصرف عملاق ما (Bank Run)، ليسقط ويجر معه سلسلة من الحرائق لا نعلم في أي دولة تشتعل، ونجهل في أي بقعة من العالم يمكن أن تنطفئ.

للمزيد عن الموضوع إقرأ في "المجلة": "ساعة" القطاع المصرفي العالمي لم تعد سويسرية!  و  SVB الدروس والعبر

في ضوء حروب العقدين الأخيرين وتحولاتها، ولا سيما منذ فاجعة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، التي تحلّ ذكراها الـ 22 بعد أسبوعين، وغزو العراق، واليوم حرب أوكرانيا، إضافة الى الأوبئة والجفاف وحرائق الغابات والنقص في الغذاء، وتغير المناخ والنزوح والتهجير، حيث باتت سلاسل الامداد للغذاء خصوصا في خطر جدي، وهذا ما تلمسه دول كثيرة في السنين الأخيرة. وبعدما شنت روسيا الحرب على أوكرانيا، أحس الأوروبيون "بالسخن"، في إمدادات الطاقة والنقص في المواد الغذائية الأساسية وتضخم أسعارها كما لم تشهده منذ عقود، وهي تصارع منذ 16 شهرا التضخم وارتفاع الفوائد، وتراكم الديون، وتراجع الخدمات والتقديمات الاجتماعية والصحية. 

علّمتنا العولمة 

تشتعل أزمة في دولة ما، فتتسلل مفاعيلها إلى كل أرجاء المعمورة، بما يبدل الخطط والتوقعات الاقتصادية والمالية، وصار التخبط في الأرقام خبزا يوميا، بين حروب مستعرة، وسلاسل إمداد مشلولة أو مشوشة، وعملات منهارة وأخرى متصارعة، ومجموعات متنافسة، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، واقتصادات متصدعة ينخرها التضخم والفوائد المرتفعة وسقوف ديون بلا سقوف، ومجتمعات متنازعة، وثقافات مضطربة، حيث بتنا نهتم بالانتخابات والانقلابات في مشارق الأرض ومغاربها، ونبحر في خلفيات أطرافها، واستراتيجياتهم لنقرأ مؤشرات الاقتصاد، في محاولة لتوقع مستقبل بلادنا وأولادنا. 

الشركات الأجنبية العملاقة، التي تذوقت مرارات متتالية، تدفع الى إيلاء الشأن السياسي والأمني نصيبه من اهتماماتها، وهي تجد نفسها اليوم مدعوة أكثر فأكثر الى الانخراط سياسيا محليا ودوليا، لحماية أعمالها أولا، وللتحوط من الأخطار المرتقبة، ومنها التشريعات والتنظيمات والعقوبات، ناهيك بالاتفاقات الأممية المتعلقة بتغير المناخ والانقلابات

هذا الواقع الذي تتعايش معه الشركات الأجنبية العملاقة، بل تتذوق مرارت خساراته المتتالية، دفعها الى إيلاء الشأن السياسي-الأمني نصيبه من اهتماماتها، وهي وإن كانت لم تهمل علاقاتها العامة الاخطبوتية الديبلوماسية والسياسية يوما، فإنها تجد نفسها اليوم أسيرة "عدم اليقين" (Uncertainty)، ومدعوة أكثر فأكثر الى الانخراط سياسيا محليا ودوليا، لحماية أعمالها أولا، وللتحوط من الأخطار المرتقبة، ومنها التشريعات والتنظيمات والعقوبات السياسية والأمنية والضريبية، ناهيك بالاتفاقات الأممية المتعلقة بتغير المناخ، والتحولات التي تطرأ على الأنظمة والقطاعات الزراعية والصناعية والتجارية، وتلك المقبلة في خصوص الذكاء الاصطناعي، الذي ستعقد من أجله أول قمة سياسية متخصصة على مستوى رؤساء الدول في لندن الخريف المقبل، بعد الدعوة التي وجهتها "مجموعة السبع" من هيروشيما أخيرا. 

من هنا باتت الشركات مدعوة الى ضم فئة جديدة الى فريق مديريها التنفيذيين، وهي فئة مستشار أو مدير الشؤون السياسية (Chief Political Officer - CPO) مع مساعديه في الشركة، على غرار مدير التسويق (CMO) ومدير العمليات (COO) ومدير شوؤن التكنولوجيا (CTO) مثلا. وإذ يبدو ذلك اتجاها متصاعدا (Trend) في أوروبا مثلا، فمن باب أولى أن تضم الشركات العربية الكبرى هذه الفئة إلى فريقها التنفيذي، بل ومجالس إداراتها أيضا. فما يعصف بمنطقتنا سياسيا وأمنيا، سلبيا أكان أم ايجابيا، يقتضي أن تحمي شركاتنا استراتيجياتها الطويلة الأجل برؤية ثاقبة، على الصعيدين العربي والدولي. فأي تحولات قد تحدث مثلا ما بين الولايات المتحدة والصين، وأين ستميل الرياح ما بين روسيا وأوكرانيا، وعلام سينتهي الصراع الدامي في السودان، وماذا عن مآلات التضخم في تركيا ومصر، أو الى أين ستقود الاتفاقات بين الدول العربية وإيران واسرائيل، أو كيف تترجم مفاعيل انضمام دول عربية بارزة إلى تكتلات سياسية واقتصادية عالمية مثل "بريكس"،  كل هذا سيكون له أبلغ الأثر على أداء الشركات وبرامجها الاستثمارية وعائداتها.

وإذ يتقدم الخطر المستجد للذكاء الاصطناعي، وحروب المضائق والممرات البحرية والرقاقات المكروية، وأول الحروب حظر فحصار... ولا ندري ما قد تحمل الأساطيل وراء البحار الى الاقتصادات والأسواق والشركات من ازدهار أو دمار... الاحتياط واجب.

font change