المجتمع السوري... بين الثراء الفاحش والفقر المدقع

هوة طبقية هائلة في سوريا

AFP
AFP
حفل الافتتاح لمهرجان ليالي قلعة دمشق، 23 أغسطس 2023

المجتمع السوري... بين الثراء الفاحش والفقر المدقع

استُخدمت قلعة الحصن، والتي تعتبر أفضل القلاع الصليبية التي بقيت سليمة ومحافظا عليها في العالم، وهي موقع للتراث العالمي وفق اليونسكو، في بعض المعارك الشرسة التي دارت خلال الحرب الأهلية.

وحين استولت قوات المعارضة التي حاربت قوات الأسد على هذه القلعة، قصفتها الطائرات والمدافع، واستعادها الجيش السوري في نهاية المطاف في عام 2014.

اهتزت أسوار القلعة الواقعة في ريف حمص من جديد الأسبوع الماضي، ولكن بشكل مختلف هذه المرة، فقد اهتزت على وقع ألحان موسيقى الرقص الإلكترونية، التي ترافقت مع عروض ليزر، وأجاد منسقو أغانٍ مشهورون اختيار الأغاني الراقصة التي جعلت مئات من الشباب يهزون رؤوسهم منتشين بالإيقاع، وقد تداولت ذلك وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع.

وفي مكان آخر من سوريا، تزدحم الحانات، والنوادي، والمطاعم في حي باب شرقي الشهير في دمشق بالرواد الذين يقصدونه بهدف تناول العشاء أو حضور الحفلات. وتبلغ تكلفة الطعام في المطعم للشخص الواحد في المتوسط، حوالي 290,000 ليرة سورية (أي ما يعادل 20 دولارا أميركيا). فإذا كنت ممن يتناول بعض المشروبات الكحولية مع الطعام، فإن التكلفة ستزيد على ذلك.

هل هذه بمنزلة إشارات إلى العودة إلى الحياة الطبيعية في بلد قطّعت الحرب أوصاله لما يزيد على عقد من الزمن، أم إنها إشارات إلى القِلّة التي تتمتع بأفضل ما في الحياة في خضم الفقر والبؤس؟

أعتقد أن هذه الإشارات تشير إلى كلا الأمرين بطريقتها الخاصة، مع ميل أكبر إلى الأمر الثاني. وهذا الوضع ليس فريدا وخاصا بسوريا بطبيعة الحال، ذلك أن كل بلد يعاني من أزمة من هذا النوع تمر بتجارب مماثلة، أما الأمر الفريد من نوعه في سوريا فهو اختلاف النِسَب.

تقدر بيانات الأمم المتحدة عدد من يعيش من السكان في سوريا تحت خط الفقر بأكثر من 90 في المئة. إذ يبلغ متوسط أدنى راتب يتقاضاه الموظف الحكومي حوالي 200,000 ليرة سورية (أي ما يُعادل 14 دولارا أميركيا). ويتقاضى ضابط الجيش الذي يحمل رتبة جنرال ما يقرب من 700,000 ليرة سورية (حوالي 48 دولارا أميركيا) شهريا، ويقال إنهم يعوضون عن رواتبهم المنخفضة بوسائل أخرى.

AFP
أكوام من الأوراق النقدية بالليرة السورية في المصرف المركزي السوري بدمشق، في 10 نوفمبر 2022

وما عاد المواطن السوري العادي الذي يعيش في دمشق يتلقى دعما على المحروقات، وتتزايد معدلات التضخم إلى حد كبير، وقد انخفضت قيمة الليرة السورية بنسبٍ كبيرة. وهناك افتقار إلى البنية التحتية الأساسية. ويشكل الفساد واسع النطاق مآلا طبيعيا لكل ذلك.

عندما بدأت الأزمة في عام 2011، غادر العديد من السوريين الذين ينتمون إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى والنخبة التجارية السورية بلادهم إلى لبنان، ودول الجوار الأخرى، وأوروبا، وأماكن أخرى وأسسوا حياة جديدة. ومنذ ذلك الحين، لم يعد منهم سوى عدد قليل جدا كي يستقروا مجددا، بينما يقوم عدد قليل منهم برحلات عَرَضية لتفقد ممتلكاتهم أو لرعاية أقاربهم، لكن الأغلبية منهم لا تزال في الخارج.

وفي حين أن هذا صحيح بالمعنى العام، إلا أن آلية توليد الأموال الراسخة لدى النظام لا تزال تعمل من دون عوائق. والحق أنه منذ عهد حافظ الأسد، عملت سوريا في ظل نظام من الامتيازات والحوافز المصممة لضمان ولاء من هم في دوائرهم.

آلية توليد الأموال الراسخة لدى النظام لا تزال تعمل من دون عوائق. والحق أنه منذ عهد حافظ الأسد، عملت سوريا في ظل نظام من الامتيازات والحوافز المصممة لضمان ولاء من هم في دوائرهم

في قلب جهاز توليد المال المعاصر في سوريا يقف بشار الأسد، وزوجته أسماء، وشقيقه ماهر الأسد. وبينما تطورت المكونات المختلفة لهذه الآلية، فقد انتقلت الأموال تبعا لذلك. وباستثناء قلة قليلة من الوجوه المألوفة، فإن الأثرياء الجدد الذين يترددون على المطاعم وينفقون الأموال ببذخ لافت هم من أنصار الأسد الأقوياء الذين جمعوا ثرواتهم في الغالب من خلال مصائب الآخرين خلال الحرب.

ومن بين الصناعات الجديدة التي ظهرت في سوريا، يحتل الكبتاغون مركز الصدارة. وقد أدت مرافق الإنتاج المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط والحدود الأردنية إلى ازدهار تجارة هذا العقار الممنوع دوليا بقيمة ستة مليارات دولار، شارك فيها آلاف السوريين وأفراد من جنسيات متنوعة. ومن بين أكبر المتورطين كمنسقين ومستفيدين من مشروع الكبتاغون هذا ماهر الأسد والفرقة الرابعة التي يقودها، وكذلك حزب الله. إنهم متورطون باعتبارهم العقول المدبرة والمستفيدة.

لقد نفد صبر السوريين وبدأ بعضهم يعبر عن استيائه في احتجاجات على غرار الاحتجاجات التي جرت عام 2011. وقد ظلّت السويداء، معقل الدروز في سوريا، في وضع سلمي أو محايد طوال الأزمة، لكنها أصبحت الآن مركزا للاحتجاجات. إذ خرج الناس إلى الشوارع يهتفون بـ "إسقاط النظام". وأُبلغ عن احتجاجات مماثلة في مناطق أخرى، بما في ذلك اللاذقية، والتي تشكل قاعدة دعم النظام.

AFP
سوريون يتظاهرون وهم يلوحون بالأعلام الدرزية في مدينة السويداء جنوب سوريا في احتجاجات ضد الحكومة

 في هذه الأثناء، وفي الوقتِ الذي يعيش فيه السوريون في ظل هذه المحنة، تتحكم وحدات حماية الشعب في شمال شرق وشرق الفرات في الثروة النفطية في سوريا. ويُقال إن إنتاج النفط الذي كان يصل إلى ما يقرب من 380,000 برميل يوميا في عام 2011، قد انخفض الآن إلى 80,000 برميل يوميا. وتستخدم وحدات حماية الشعب تلك الثروة النفطية لتمويل أنشطتها، والتجارة مع كثير من الأطراف المختلفة، بما في ذلك النظام، إذ تشكل المنفعة الخاصة نسبة أعلى بكثير من المنفعة العامة.

عندما بدأت الأزمة، أعلنت الشخصيات الرئيسة في نظام الأسد جهارا أن الحريق في البلاد سيصل إلى الآخرين، واستهانت بهلاك بضعة ملايين من السوريين في هذه العملية. وبالفعل، كان هذا هو واقع الحال.

ولا تزال الدول المجاورة، وخاصة تركيا ولبنان، تعاني من ردود فعل سلبية. فقد أصبح السوريون الذين يبلغ عددهم 3.5 ملايين في تركيا وحوالي 1.5 مليون (850 ألفا بحسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) في لبنان من القضايا الساخنة راهنا. إن الاقتصاد اللبناني بالكاد يقف على رجليه، وثمة من يزعم أن الدعم المالي للسوريين على مدى عدةِ سنوات هو أحد أهم الأسباب.

في مرحلة ما، كان الأسد يقول بأن عودة السوريين الموجودين في الخارج محل ترحيب من الحكومة. أما الآن، فقد تغيرت لهجته. إذ قال الأسد إن الإرهابيين دمروا البنية التحتية في سوريا بدعم من دول مجاورة، وبعض الدول العربية، وما لم تتم إعادة بناء هذه البنية التحتية، فلن يعود السوريون الموجودون في الخارج

وتشهد تركيا، على الرغم من كونها واحدة من أكبر الاقتصادات العالمية، انهيارا اقتصاديا أيضا، ويُشار إلى الأزمة في سوريا ولجوء السوريين في تركيا على أنهما من بين الأسباب الكامنة خلف ذلك الانهيار.

في مرحلة ما، كان الأسد يقول إن عودة السوريين الموجودين في الخارج محل ترحيب من الحكومة. أما الآن، فقد تغيرت لهجته. إذ قال الأسد إن الإرهابيين دمروا البنية التحتية في سوريا بدعم من دول مجاورة، وبعض الدول العربية، وما لم تتم إعادة بناء هذه البنية التحتية، فلن يعود السوريون الموجودون في الخارج.

لقد أدى قبول سوريا مرة أخرى في جامعة الدول العربية إلى زيادة التكهنات، لكن الأمور لم تسر بالشكل المطلوب. إذ إنه قال في مقابلات أجريت معه مؤخرا إن سوريا فعلت ما كان من المفترض منها أن تفعله، وإنها تنتظر الآن أن تفعل دول الجامعة العربية ما يتوجب عليها فعله. ليس من الواضح تماما ما يعنيه الأسد بكلامه، ولكن أيّا كان الأمر، فلا يوجد تقدم.

 لا تزال أوضاع الاقتصاد والظروف المعيشية في سوريا بعيدة كل البعد عن أن تكون قريبة من المثالية، وطالما استمرت الأمور على هذا النحو، فمن غير المرجح عودتها إلى طبيعتها في المدى القريب.

إن الأسد الذي يعتقد أن الوقت يلعب دائما في مصلحته، والراضي عن آلية كسب ماله، لا يبدو مكترثا بذلك على الإطلاق.

font change

مقالات ذات صلة