تعليم "التركية" شمالي سوريا... "تتريك" أم فرصة؟

دلالات كثيرة تشير إلى مواصلة تركيا نشر ثقافتها ولغتها في المدن الخاضعة لنفوذها

North Press
North Press
مدرسة الحمام التركماني الإبتدائية في محافظة تل أبيض قرب الحدود السورية - التركية

تعليم "التركية" شمالي سوريا... "تتريك" أم فرصة؟

في 26 أغسطس/آب، افتتح معهد "يونس إمره" الثقافي التركي، فرعا له لتعليم اللغة التركية في مدينة الباب السورية شمالي حلب، بعد أن كان قد افتتح فرعه الأول، في أعزاز بريف حلب عام 2020. يأتي ذلك، بحسب المعهد، في إطار حملة لتعليم 300 ألف طفل اللغة التركية، ودمجهم في الثقافة التركية، في مناطق تسيطر عليها أنقرة، وفصائل "الجيش الوطني السوري" الموالية لها شمالي سوريا. ويدل هذا الأمر، بحسب كثيرين، على مواصلة تركيا سياساتها الهادفة إلى تتريك تلك المناطق، من خلال فرض لغتها كلغة أساسية في المدارس والجامعات، وكلغة متداولة بين سوريي تلك المناطق، وبين الموظفين ومسؤوليهم الأتراك الذين يديرون العمل في قطاعات الصحة والتعليم وخدمات البريد والصرافة والكهرباء والمياه والهاتف.

وكان رئيس المعهد شرف أتيش، قال خلال افتتاح الفرع الجديد في الباب، بحضور منسق "المنطقة الآمنة" في شمال سوريا، فكرت تشيتاك: "هدفنا الرئيس تعليم اللغة التركية لـ300 ألف طفل في منطقة ريف حلب".

وأضاف: "استمرارا لنشر ثقافة تركيا وتعليم لغتها، سيتم افتتاح فرعين جديدين للمعهد في جرابلس وعفرين. بدأنا حملة تعبئة في جميع أنحاء المنطقة، (في إشارة إلى المناطق الممتدة من جرابلس، مرورا بالباب وأعزاز، وصولا إلى عفرين)، ومراكزنا تعج بالأطفال والشباب".

وتابع: "تركيا تزرع شتلات نقية في جغرافيا تهيمن عليها الحرب والدماء، ونحن هنا لجعل هذه المنطقة خضراء وإبقائها حية. ونقوم، بتوجيهات من الرئيس رجب طيب أردوغان، بتدريس اللغة التركية لأكثر من 2000 شخص في مدينة الباب، وهدفنا الرئيس هو تعليم اللغة التركية لـ300 ألف طفل في المنطقة".

تزامن الإعلان عن افتتاح فروع جديدة لمعهد "يونس إمره"، مع الذكرى السنوية السابعة للعملية العسكرية التركية الأولى في سوريا، تحت اسم "درع الفرات"

وتزامن الإعلان عن هذه الحملة التعليمية، وافتتاح فروع جديدة لمعهد "يونس إمره"، (الذي يعد الأداة الرئيسة لتركيا لنشر لغتها في الخارج)، في مدن الباب وجرابلس وعفرين في شمال حلب، مع الذكرى السنوية السابعة للعملية العسكرية التركية الأولى في سوريا، تحت اسم "درع الفرات"، والتي نفذتها القوات التركية بمشاركة فصائل سورية معارضة مدعومة من أنقرة، في 24 أغسطس/آب 2016. وكانت هذه القوات والفصائل سيطرت خلال تلك العملية، على مناطق في شمال وشمال شرقي حلب، أبرزها مدن الباب وأعزاز وجرابلس غرب الفرات، وذلك بعد دحر تنظيم داعش منها؛ كما مَنعت، في الوقت عينه، الفصائل الكردية، وبالتحديد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، من ربط شرق الفرات بغربه، للحيلولة دون إنشائها شريطا أمنيا بموازاة الحدود التركية- السورية.

بين جرابلس وعفرين

ويدور في أوساط السوريين في شمال سوريا، سؤال عن ماهية الاستراتيجية التركية، لتعزيز الوجود العسكري والثقافي والإداري لأنقرة في المنطقة ذات الغالبية الكردية والممتدة، من جرابلس غرب نهر الفرات إلى مدينة عفرين وأريافها، في شمال غربي البلاد.
 
دلالات كثيرة تشير إلى مواصلة تركيا نشر ثقافتها ولغتها في المدن السورية التي تخضع لنفوذها العسكري، منها اللافتات باللغة التركية المعلقة على أبواب الدوائر الرسمية، والتي يحيط بكل منها علم تركيا والعلم السوري الأخضر؛ كما تنتشر عبارات مثل: "العرب والأتراك أخوة"، باللغتين العربية والتركية، على جدران المدارس، وعند مداخل المدن شمالي سوريا، وهذا عدا عن وجود موظفي استعلامات وإداريين أتراك في مستشفيات مارع والراعي وأعزاز والباب، وداخل الدوائر الرسمية، وفي الأقسام الأمنية. وكل ذلك فرض على السوريين، وإن بصورة غير مباشرة، تعلم اللغة التركية، لتسهيل التعامل مع الموظفين والمسؤولين الأتراك، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين.
 
ليس هذا فحسب، إذ عمدت المجالس المحلية، التابعة لـ"الحكومة السورية المؤقتة" المدعومة من أنقرة، إلى استبدال الأسماء العربية لبعض الشوارع والأماكن العامة، كالحدائق، فضلا عن المستشفيات، بأسماء تركية.

وكانت تسمية المجلس المحلي في أعزاز، منتصف أغسطس/آب، إحدى حدائق المدينة باسم النائب الأول لوالي محافظة كلس التركية عمر يلماز، قد أثارت غضب أهالي المدينة، الذين وجهوا سيل انتقاداتهم ضد المسؤولين السوريين في المجالس المحلية هناك.

ولم تكن خطوة مجلس أعزاز الأولى من نوعها، إذ كان المجلس المحلي في مدينة الباب شرق حلب، وبالتعاون مع الشرطة التركية، قد استبدل اسم مدرسة "آمنة بنت وهب"، باسم ضابط تركي قُتل في سوريا ويدعى دوران كسكين. لكن مجهولين أزالوا الاسم الجديد للمدرسة، وأعادوا اسمها القديم؛ وعلى الأثر اعتُقل أحد الناشطين في المدينة، بعد أن شجع على محو اسم الضابط التركي ذاك، وإعادة اسم المدرسة الأصلي.
 
وفي حين يرى البعض، أن أنقرة تبذل قصارى جهدها لـ"تتريك" المناطق السورية الخاضعة لسيطرتها، وخلق حالة ثقافية تركية في أوساط السوريين، بعد بسط نفوذها العسكري على مساحات واسعة في شمال وشمال شرقي سوريا، يعتبر البعض الآخر أن تعلم اللغة التركية أمر إيجابي يفتح باب العمل أمام آلاف الشباب السوريين، سواء في المشاريع الاقتصادية التي تنشئها تركيا في المدن الصناعية بالباب والراعي وأعزاز، أو في منظماتها العاملة في المنطقة، ناهيك بقطاع التعليم؛ وهذا فضلا عن أن تعلم الطلاب اللغة التركية، منذ المرحلة التعليمية الأساسية، يُسهل عليهم الالتحاق لاحقا بالجامعات التركية، وذلك وفقا لعدد من الطلاب السوريين في مناطق الشمال السوري.

منهج إسطنبول 

يقول الناشط الحقوقي، أكرم جنيد، وهو محامٍ في مناطق النفوذ التركي شمال حلب، إن معظم السوريين، ومن أعمار وفئات اجتماعية مختلفة، يهتمون بتعلم اللغة التركية، سواء في المعاهد الخاصة والعامة أو في الجامعات، نظرا إلى تعاملهم وتواصلهم اليومي مع السلطات التركية، سواء الأمنية أو العسكرية أو الإدارية، في كثير من المؤسسات والشركات والدوائر الرسمية، كالجامعات والمدارس، فضلا عن أن المنطقة تخضع في الوقت الحالي للسلطات التركية على نحو شبه كامل.
 

عمدت المجالس المحلية، التابعة لـ"الحكومة السورية المؤقتة" المدعومة من أنقرة، إلى استبدال الأسماء العربية لبعض الشوارع والأماكن العامة، كالحدائق، فضلا عن المستشفيات، بأسماء تركية

إلى ذلك، يدرس الطلاب السوريون، ذكورا وإناثا، في جامعة حلب التابعة لـ"الحكومة السورية المؤقتة" شمالي سوريا، وفي المعاهد العامة والخاصة، يدرسون اللغة التركية قراءة وكتابة، فضلا عن الترجمة، واللهجات التركية، والأدب التركي. كما تُخصص حصص لتعليم اللغة التركية للطلاب في مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وذلك لتخويلهم دخول الجامعات التركية، بعد خضوعهم لاختبار اللغة المعياري في معهد مدينة الباب، وفقا لعمر، الطالب الثانوي في المدينة.

North Press
مدرسة لتعليم اللغة التركية في مدينة عفرين شمال سوريا


ويشير عمر إلى أن الطالب يدرس، في العام الدراسي الأول منهج "يونس إمرة"، وفي العام الثاني "منهج إسطنبول"، إضافة إلى مواد باللغة التركية كالقراءة، والكتابة، والاستماع، والمحادثة، والقواعد، والأدب التركي، ومواد طرائق التدريس والتربية العامة. ويلفت إلى أن عدد الطلاب الذين يدرسون اللغة التركية، في معهد حلب للإعداد المدرسي وإجراء مسابقات اللغة، التابع لـ"الحكومة السورية المؤقتة"، يبلغ نحو 240 تلميذا، بينما درس نحو 3000 طالب وطالبة اللغة التركية، خلال السنة الماضية، في جميع المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية.

من جهته، يوضح أحمد، وهو طالب ثانوي في مدينة مارع شمالي حلب، أن معاهد التعليم الثانوي الخاصة في المدينة، تدرس "منهج إسطنبول" لطلابها، و"منهج يونس إمرة" للغة التركية. أما في مدينة الباب، فيدرس الطلاب في "مركز الأناضول" و"معهد يونس إمره" التابعين لوزارة التربية التركية، فضلا عن "مؤسسة التركماني".

ويضيف: "لا تُتاح لي فرصة الدخول إلى إحدى الجامعات التركية، إلا بتعلم اللغة التركية، واجتياز مراحل التدريب والاختبار عليها، ومن دون ذلك لن أستطيع إكمال تعليمي الجامعي، والحصول على شهادة جامعية تؤمن لي فرصة عمل مستقبلا".

لاجئون مدرسون

أما الناشط المدني في مدينة أعزاز بريف حلب، حميد بعاج، فيشير إلى أن خطة أنقرة لفرض اللغة التركية، كلغة ثالثة في المدارس الحكومية والخاصة، شمالي سوريا، إلى جانب اللغتين العربية والإنجليزية، كانت تفتقر، منذ البداية، إلى الأدوات لتنفيذها. ويقول: "عندما تصبح اللغة التركية لغة إلزامية، فهذا يوجب تأمين كادر تدريس كفء، ومنهج مناسب للتلاميذ".

ويضيف: "حتى اليوم لا تزال معظم المدارس في المناطق المحررة، (في إشارة إلى مناطق النفوذ التركي)، تعاني من نقص في كوادر تعليم اللغة التركية، وأحيانا تُسد الشواغر من طريق تعيين معلمين ومعلمات من السوريين الذين كانوا يقيمون في تركيا ويحملون شهادة ثانوية فحسب، من دون امتلاك أي مقومات علمية لتعليم اللغة، باعتبار أنهم تعلموا اللغة سماعيا، من خلال مخالطتهم للمجتمع التركي خلال سنوات اللجوء".
 

ألزمت الإدارة التركية لمناطق شمالي سوريا، المؤسسات التابعة لـ"الحكومة السورية المؤقتة"، بتوظيف من يتقنون اللغة التركية حصرا

هذه المشكلات جعلت الإقبال على تعلم اللغة التركية ضعيفا، خلال السنوات الثلاث الأولى لسيطرة تركيا
على مناطق شمالي سوريا. وحاولت الإدارة التركية لتلك المناطق تلافي هذه المشكلات، وإقناع السوريين بتعلم اللغة التركية من خلال افتتاح بعض المراكز التعليمية التي تديرها كوادر تركية مؤهلة. وبالفعل نظمت هذه المراكز نشاطات ثقافية وفنية، في محاولة لترغيب السوريين بالتعرف على اللغة والثقافة التركيتين. كما ألزمت الإدارة التركية لمناطق شمالي سوريا، المؤسسات التابعة لـ"الحكومة السورية المؤقتة"، بتوظيف من يتقنون اللغة التركية حصرا، وهو ما رفع نسبة الإقبال على تعلم هذه اللغة. هذا فضلا عن أن سيطرة الأتراك على كل مفاصل القرار في مناطق نفوذهم، وانتشار الشرطة التركية على بعض الحواجز في محيط المدن الكبرى، كالباب وعفرين وأعزاز وجرابلس، دفعا السوريين إلى تعلم اللغة التركية لتسهيل تعاملهم مع الجهات التركية في المنطقة.

ويعد هذا من إيجابيات تعلم اللغة التركية بالنسبة إلى سوريي الشمال، بحسب بعاج؛ لكن في المقابل فإن معظم السوريين الذين يتعلمون التركية للحصول على فرصة عمل، يتجاهلون اللغات الأخرى مثل الإنجليزية التي تعتبر لغة عالمية، بينما اللغة التركية هي لغة وطنية للدولة التركية، وبالتالي فإن انتشارها محدود جدا قياسا باللغة الإنجليزية. 

ويضيف: "حتى الآن لا يمكن اعتبار اللغة التركية لغة أساسية للسوريين، شمالا، باستثناء التركمان الموجودين في المنطقة. ولكي تكون اللغة التركية، لغة أساسية وشبه رسمية في مناطق النفوذ التركي شمالي سوريا، تُواصل المجالس المحلية تشجيع المواطنين على تعلمها، وتسهل افتتاح المعاهد الخاصة بها، إلى جانب المراكز الثقافية التعليمية التي افتتحها الأتراك في المنطقة، وخصوصا في أعزاز، حيث يوجد مركزان، "يونس إمرة"، و"الأناضول".


*حُجب اسم الكاتب لدواعي أمنية.

font change

مقالات ذات صلة