رؤوس تتدحرج في المتحف البريطاني

سرقة آلاف القطع الأثرية تثير أزمة

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese

رؤوس تتدحرج في المتحف البريطاني

لندن: يُعتقد أن نحو 2000 قطعة أثرية اختفت من المتحف البريطاني في لندن، وهو ما يجعله أحدث مؤسسة وطنية تتعرّض مكانتها لضربة كبيرة.

في وقت سابق من العام، طُرد أحد كبار القيّمين ويدعى بيتر هيغز. كان يعمل في المتحف منذ ثلاثين عاما. ووفقا لصحيفة "آرت نيوزبيبر"، كان هيغ "مشتبها فيه بأنه عمل سنوات من دون أن يكتشف أمره وبأنه هرّب قطعا غير مصنّفة من مقتنيات المتحف قبل أن يبيعها [...] على موقع إيباي".

تواصل المقالة سرد أنواع القطع التي ربما اختفت: "... قطع صغيرة من المجوهرات الذهبية، بالإضافة إلى أحجار كريمة، من المجموعة، بعضها يعود إلى روما القديمة. ويُعتقد أن قيمة القطع المعنية تبلغ عشرات الملايين من الجنيهات" (17 أغسطس/آب 2023).

ثمة قطعة رومانية واحدة، تصل قيمتها إلى 50 ألف جنيه إسترليني عُرضت مقابل 40 جنيها فحسب. لكن في الفترة الزمنية القصيرة التي مرت بعد ظهور القصة للمرّة الأولى، أصبحت قيمة القطع المفقودة موضع شك كما هي طبيعتها. من أسباب ذلك أنها لم تُعرض البتة، بل ربما لم يسجّلها المتحف بأنها تنتمي إلى مجموعته الواسعة. لقد كانت غير مرئية من الناحية البيروقراطية. ومن الممكن ألا تكون قد اختفت أصلا، بعيدا من الأسئلة المحيطة بقيمتها واحتمال رؤيتها. وقد أبلغ غريغ، ابن هيغز، صحيفة "ديلي تلغراف" أن والده "لم يفعل شيئا"، مضيفا: "إنه ليس سعيدا بذلك على الإطلاق. لقد فقد وظيفته وسمعته، ولا أعتقد أن ذلك كان عادلا. لا يمكن أن يكون هو [المسؤول]. وعلى حدّ علمي، لا أعتقد أن هناك أي شيء مفقود".

ربما يكون ذلك رأي الأقلية. ووفقا لعالم الآثار الشرعي كريستوس تسيروغيانيس، الذي يعمل مع منظمة "ترافِكِنغ كَلتشر"، فإن حجم القطع المفقودة "ضخم".

أما كريستوفر مارينيلو، الرئيس التنفيذي لشركة "آرت رِكفري إنترناشونال"، المتخصّصة في استرداد الأعمال الفنية المسروقة، فقد دُهش مما كشف عنه: "تتلقّى منظمتنا يوميا تقارير عن سرقات من مختلف المتاحف والمؤسسات الثقافية والكنائس حول العالم. لكن ما أدهشنا أن المعني هو المتحف البريطاني، أحد أهم المتاحف في العالم ومعيار مرجعي في مجال الأمن" (الغارديان، 26 أغسطس/آب).

من المؤكد أن التهديد المحتمل لهذه القطع وسواها من القطع الثمينة في المتحف لن يتبدّد، حتى بعد توقّف تدحرج الرؤساء الإداريين في النهاية وإراقة قدر كافٍ من الدماء البيروقراطية

يترأس جورج أوزبورن، وهو وزير مالية سابق في المملكة المتحدة، مجلس أمناء المتحف. وقد لجأ إلى كل الدماثة التي تعلّمها من منصبه السابق، وسارع إلى تقليل شأن فكرة التستّر في المتحف، مضيفا أن تسرّب القطع الأثرية من طريق موظفين غير شرفاء ليس مشكلة فريدة تقتصر على المؤسسة.

مع ذلك، تدخّلت شرطة العاصمة الآن. وبما أنها لم توقف أحدا، فقد يتبيّن أن طرد هيغز ربما يكون محاولة يائسة لإبقاء المسألة داخل المتحف وإغلاقها.

REUTERS
نماذج من المنحوتات المعروضة في المتحف البريطاني في لندن، بريطانيا، 25 يناير/كانون الثاني 2023.

إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أن الخطة حقّقت نتائج عكسية. فقد أعلن أن المدير هارتويغ فيشر سيستقيل على الفور. وكان نائبه جوناثان ويليامز تخلّى عن منصبه موقّتا أيضا.

 

مغادرات غامضة

إن الظروف الدقيقة لكل هذه المغادرات غامضة – إذا استخدمنا الكلمة المفضلة لدى خبراء الأرصاد الجوية هذا الصيف. وأي محاولة لإعادة بناء الجدول الزمني للأحداث تتطلب صبر عالم آثار يتمتّع بموهبة نادرة. يكفي القول إن القطع الأثرية - التي يحيط بطبيعتها عدم اليقين في الغالب، ويلفّ الغموض كميتها على نحو مماثل ــ قد اختفت على نحو شبه مؤكّد.

في سنة 2019، كتبت مقالا لهذه المجلة بعنوان "الفن الذي يحن إلى الوطن"، حاولت فيه التعامل مع القضية المعقّدة لإعادة الأعمال الفنية إلى أوطانها. من بين الأمثلة الأكثر شهرة التي ذكرتها، تماثيل بنين البرونزية (التي نهبها البريطانيون من نيجيريا) والتماثيل المعروفة باسم رخاميات إلغِن. ولم تُحَل أيٌّ من تلك القضايا بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات.

كان اللورد إلغن هو بطل الرواية في قصته الغامضة. بمبادرة منه، وصلت الأعمال الفنية التي يعود تاريخها إلى العصر الذهبي الأثيني إلى لندن الممطرة.

في زمن الاحتلال العثماني لليونان الحديثة، كان إلغن سفيرا في القسطنطينية. وكان الجيش التركي مسؤولا عن تدمير جزء كبير مما تبقى من المعبد العظيم، لأنه خزّن متفجّراته في الأكروبوليس. بعدما علم إلغن بالأضرار التي وقعت عندما انفجرت المتفجرات، أغرى المحتلّين بالسماح له بشحن قسم كبير من التماثيل المتبقية إلى بريطانيا. وتطالب اليونان بإعادتها منذ عشرات السنين.

لذا ليس مفاجئا ألا يضيع المراقبون هناك الوقت للإشارة إلى مقدار الإساءة التي ألحقها ذلك بالمتحف البريطاني. وربما من غير المفيد أن هيغز عمل في منصب قيّم رفيع المستوى بوصفه رئيسا لقسم اليونان وروما في المتحف. من المعروف أنه أحد المسؤولين عن حماية القطع الأثرية في المتحف، وكان القيّم الرئيسي لمعرض "اليونانيون القدماء: الرياضيون والمحاربون والأبطال"، الذي أقيم للمرة الأولى في سنة 2021 وهو في جولة حاليا.

EPA
المتحف البريطاني في لندن، بريطانيا، 23 أغسطس 2023.

الحجّة الرئيسة لإعادة رخام البارثينون إلى أثينا هي فرصة إعادة توحيد جميع الأجزاء المتبقية من المعبد. ثمة في أثينا متحف جديد يضمّ مساحات شاغرة في انتظار عودة التماثيل المفقودة.

وقالت ديسبينا كوتسومبا، رئيسة رابطة علماء الآثار اليونانيين، إن المتحف البريطاني لم يعد قادرا على التأكيد بأنه أفضل من اليونان في حماية تراثها الثقافي.

 

صدقية المتحف على المحكّ

أيّدت هذا الرأي لينا ميندوني، وزيرة الثقافة اليونانية، التي قالت إن الجدال الدائر حول القطع المسروقة يعني أن هناك تساؤلات حول "صدقية المتحف"، وإن الضجة المستمرة "تعزز المطالبة الدائمة والعادلة لبلدنا بإعادة توحيد رخام البارثينون في متحف الأكروبوليس في أثينا".

رد تيم لوتون، عضو البرلمان المحافظ ورئيس المجموعة البرلمانية التي تضمّ جميع الأحزاب في المتحف البريطاني، بعنف ملحوظ على هذه الضوضاء، متهما اليونانيين بـ"الانتهازية الصارخة" – ومن المصادفة أن اللورد إلغن نفسه يمكن اتهامه بهذا الأمر.

لا أحد يستطيع أن يعرف هل كان بقاء التماثيل في الأكروبوليس سيعجّل في تلفها. ولا أحد يمكنه أن يكون واثقا من جحم الضرر الذي أحدثته في ما تبقى منها عملية الترميم غير المتقنة في الثلاثينات، باستخدام فراشٍ نحاسية. لكن من المؤكد أن التهديد المحتمل لهذه القطع وسواها من القطع الثمينة في المتحف لن يتبدّد، حتى بعد توقّف تدحرج الرؤساء الإداريين في النهاية وإراقة قدر كافٍ من الدماء البيروقراطية.

هل يستطيع جورج أوزبورن نفسه أن يفلت من التداعيات؟

font change

مقالات ذات صلة