إنعام كجه جي: كأنّ لعنة حلّت بالعراق

ترى أفق البلاد معتما

إنعام كجه جي

إنعام كجه جي: كأنّ لعنة حلّت بالعراق

باريس: يحضر اسم الكاتبة العراقية إنعام كجه جي بصورة لافتة في الرواية العربية بعدما صدرت لها أعمال حظيت باهتمام القراء وترجمت إلى عدد من اللغات وحازت جائزة الأدب العربي التي يمنحها معهد العالم العربي ومؤسسة لاجاغدير في باريس.

تستذكر إنعام كجه جي طفولتها وتتحدّث عن أصولها الكلدانية والثقافة العربية التي تربّت عليها وكيف ترى العراق اليوم، في حوار أجراه معها الكاتب علي المقري.

* تبدو طفولتك في العراق مؤثرة على مجمل رواياتك. هل يمكن أن نعود إلى تلك الفترة، خمسينات وستينات القرن الماضي، لجهة التعايش بين مختلف الثقافات حتى إننا لا نستطيع القول إنك عشت في بيئة مسيحية، وهي ديانة عائلتك؟

- عشت في بيئة عراقية. كان الدين شأنا خاصا وداخليا في كل عائلة. كل شخص يعرف دين جيرانه بحكم الأسماء لا أكثر ويحترم شعائره ويشاركه أعياده. ثيابنا واحدة ومأكولاتنا وعاداتنا متشابهة. فلا يخطر في بال أحد أن يسأل عن المذهب أو الطائفة. درست في مدرسة للراهبات وكان عدد الطالبات المسلمات فيها يفوق المسيحيات. تربّيت على الثقافة العربية وأحب أصولي الكلدانية.

* هل كان ما ذكرت سبب رفضك وصف إحدى رواياتك أثناء منحك جائزة بأنّها عن منفيي العراق المسيحيين؟

- كل إنسان في هذه الدنيا يتعلّق بوطنه وأهله. هذا ليس امتيازا ولا منّة. نعم. كانت رواية "طشّاري" عن تشتت ملايين العراقيين في دنيا الله الواسعة. وتصادف صدور ترجمتها الفرنسية مع دخول "داعش" إلى الموصل وتهجير سكانها المسيحيين منها. أراد الناشر الاستفادة من الحدث لأسباب تسويقية وأضاف على الغلاف شريطا أحمر يقول إنها رواية نفي المسيحيين العراقيين. ولما فازت الرواية بجائزة فرنسية كان من الطبيعي أن أنتهز المناسبة وأعترض وأصحّح الأمر في كلمتي أثناء تسلّم الجائزة.

 أكتب لتسجيل حياتنا التي كانت سويّة ولتوثيق قيم لم تعد موجودة. هي طريقتي في كشف الخراب

* في رواية "النبيذة" كما في "الحفيدة الأميركية" و"طشاري"، تعودين إلى هذا العراق، تاريخه وواقعه. أهو الحنين إلى الماضي، أم التعبير عن الفقد للعراق الذي كان؟

- هل ترى غرابة في عودتي إلى موضوع العراق؟ أليس هذا ما يفعله المصري حين يكتب عن بلده والمغربي عن المغرب والأفغاني عن أفغانستان؟ ألا تكتب بدورك عن اليمن وتاريخه وواقعه في رواياتك؟ أقول دائما إن الحنين مرض نفسيّ. وقد غادرت العراق منذ عقود طوال وتعافيت من الاشتياق إلى رائحة زهر "الرازقي" والنوم على السطح في الصيف وفطور "القيمر والكاهي". أكتب لتسجيل حياتنا التي كانت سويّة ولتوثيق قيم لم تعد موجودة. هي طريقتي في كشف الخراب.

* خرجت باكرا من العراق (1979)، حيث كان السؤال المطروح هو لماذا تهاجر قبل أن يتحوّل السؤال إلى لماذا لا تهاجر. كيف تقرأين واقع الشتات العراقي بين زمنين، وقد وجدنا الطبيبة في روايتك "طشاري" تغادر العراق مع أن عمرها صار ثمانين سنة؟

- شعبنا لم يكن شعب هجرات. لم يخرج العراقي في الخمسينات والستينات سعيا وراء الرزق. كان الخير كثيرا والعيشة طيبة. لكنّ الهجرة بدأت أواخر السبعينات، ولنسمّها الهروب، لأسباب سياسية. ثم اشتعلت الحروب واشتد الحصار وضاق الأفق وبدأ النزوح الجماعي إلى أي بقعة في الأرض تقبل بك وتمنحك الأمان. كان هناك وجود كثيف للعراقيين في الولايات المتحدة وبريطانيا وهناك اليوم جاليات عراقية في كل بلاد أوروبا وفي تركيا وأستراليا ونيوزيلندا. تجد بين المهاجرين نساء ورجالا تجاوزوا الثمانين والتسعين ممن يحملون أعلى المؤهلات وساهموا في بناء نهضة العراق الصناعية والمالية والعمرانية والصحية والتربوية. كأن هناك لعنة أصابت العراق لسلب روحه.

 

فقاعات أدبية

* جاء على لسان إحدى شخصيات "الحفيدة الأميركية" قولها: "تذبحني السخرية السوداء التي تلازم العراقيين، كأنّهم عاشوا ما فيه الكفاية حتى ما عادوا يرون حياة وراء الخراب". كيف تنظرين الى الأفق العراقي؟

- لم أعد أنظر. يئست. لست من أهل التنظير ولا زرقاء اليمامة لكنني أرى الأفق معتما.

* معظم أدباء وكتّاب جيلك كانوا منتمين الى أحزاب يسارية وقومية، كيف ترين العلاقة وماذا عن تجربتك؟

- طبيعة شخصيتي لا تنسجم مع العمل الحزبي. الانضباط لا يناسبني. ولا التكتم. اقتربت في بداياتي من "البعث"، الحزب الحاكم، لأن ذلك كان شرط الاستمرار في العمل الصحافي. ثم أن أفكار الوحدة العربية والحرية والاشتراكية جميلة وليست شيطانية. لم أتقدّم وبقيت على العتبة. وإذا استعرنا لغة المناضلين فإنني "لم أنلْ شرف العضوية". لكنني بحكم معايشتي الطويلة لأوساط الثقافة والفن، أدرك أن الأحزاب خلقت فقاعات أدبية كثيرة. لمّعت أسماء لا تستند إلى مواهب حقيقية. وهذا ينطبق على اليساريين والقوميين.

 الأحزاب خلقت فقاعات أدبية كثيرة. لمّعت أسماء لا تستند إلى مواهب حقيقية. وهذا ينطبق على اليساريين والقوميين

* يبدو عمودك الصحافي الذي تكتبينه في "الشرق الأوسط" سردا قصصيا أو مشهدا أدبيا، هل هذا المنحى في الكتابة هو الذي دفعك إلى عالم الرواية وأنتِ التي جئت متأخرة إليها، بعد سنوات طويلة من العمل في الصحافة؟

- من فوائد الأقدمية في المهنة أنها تسمح لك بهامش من التفلّت من قيود الأنواع الصحافية المحدّدة. أي أن تكتب ما تحبّ. وهو ما يتيحه لي هذا العمود من حرية. عموما فإن الصحافي يكتب عن الواقع. والواقع هو قصص الناس. وحتى حين كنت أكتب تحقيقات وتقارير اخبارية فإنني كنت أنحو نحو الحكايات لكيلا يملّ القارئ من اللغة الخشب.

* تعيشين في باريس منذ أربعين عاما تقريبا، لكن هذه المدينة الصاخبة لا تبدو في سردك سوى منطلق لسرد العراق وبلدان أخرى كما حال "النبيذة". ألا يوجد ما يشدّك إلى سرد هذا المدينة؟

- باريس إبليسة كبيرة عجنتني بخميرتي الأصلية. مدينة تحتاج عمرا إضافيا لكي تسرد شذرات منها. وأنا ما زلت لم أوفّ بغداد حقّها في نفسي. لعلمك فإنني أكتب حاليا رواية تدور أحداثها في مدينة بازل السويسرية لكنها تهفو، أيضا، نحو العراق.

font change

مقالات ذات صلة