قراءة في جوائز الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي

السفر والترحال ثيمة رئيسة

مشهد من فيلم "اللي باقي منك"

قراءة في جوائز الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي

يصعب اخنزال أفلام الدورة الخامسة من "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي" في حدث واحد أو مسار منفصل، فهي قابلة للقراءة كمنظومة دلالية متجاورة، أو كخيط منسوج على مستوى القضايا المطروحة والموضوعات المتناولة، وأيضا على مستوى الإيقاع والزمن ونوع الأسئلة المفتوحة.

وفي هذا السياق، بدت نتائج مسابقة البحر الأحمر للأفلام الروائية الطويلة، التي ترأس لجنة التحكيم فيها المخرج الأميركي شون بيكر، أكثر تركيزا على تجربة المخرجين الذاتية، ذلك أن تشابه التجارب وتقاطعاتها يسمحان بقراءة مزاج عام يسبق العرض نفسه، ويتجاوز حدود برنامج واحد أو مسابقة بعينها.

ولعل ثيمة السفر والعبور هي الثيمة الأوضح في أفلام الدورة الخامسة، سواء تلك التي حصدت جوائز أو بقيت خارج منصات التتويج. ثيمة السفر وما تحمله من انتقالات ومن اسئلة، تفتح نافذة جديدة بين الفرد والمكان والذاكرة.

"أرض ضائعة": مشقة البقاء

يحضر " أرض ضائعة" الفيلم الياباني-الماليزي للمخرج أكيو فوجيموتووالحاصل على جائزة اليسر الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل، ضمن مجموعة من الأفلام التي تنشغل بالتنقلات التي يمكن إدراجها داخل مظلة السفر.

نرى من خلال رحلة الطفلين الوحيدين كيف يتبدل معنى الخوف، وكيف تتقلص اللغة، وكيف تصبح العلاقة بينهما هي سفينة النجاة الوحيدة

وهو يروي حكاية شقيقين صغيرين يغادران مكانا لم يعد قابلا للعيش، ويمضيان في رحلة طويلة عبر البر والبحر بحثا عن عمهما في ماليزيا، تمتد رحلتهما في زمن مفتوح، بين محطات مؤقتة، دون استعجال أو تصعيد، لتغدو إقامة طويلة مع المجهول، ونرى من خلال رحلة الطفلين الوحيدين كيف يتبدل معنى الخوف، وكيف تتقلص اللغة، وكيف تصبح العلاقة بينهما هي سفينة النجاة الوحيدة.

ملصق فيلم "أرض ضائعة"

"اللي باقي منك": سفر عبر الأجيال

فيلم الافتتاح في المهرجان، للمخرجة الفلسطينية-الأميركية شيرين دعيبس، والفائز بجائزة اليسر الفضية لأفضل فيلم روائي طويل (ساهم في إنتاجه كل من النجمين مارك روفالو وخافيير بارديم، وبمساهمات إنتاجية مشتركة من ألمانيا واليونان والأردن وفلسطين) يأتي نتاجا بديهيا للواقع الفلسطيني، فالمشاهد يعلم مسبقا أنه سوف يرى طريقا نحو اللا استقرار.

ملصق فيلم " اللي باقي منك"

تحاول دعيبس في فيلمها الثالث بعد "أمريكا" (2009) و"مي في الصيف" (2013)، نسج كل خيوط الماضي معا في مدة عرض طويلة نسبيا امتدت قرابة ساعتين ونصف الساعة، من سفر إلى آخر عبر ثلاثة أجيال من عائلة فلسطينية، من النكبة إلى مرحلة الإبادة الأخيرة في غزة، وإن كان التنقل بينهما غير حاد بل يحدث بمنتهى الانسيابية، فالأمكنة تتبدل، والأشكال تهرم، لكن المأساة مستمرة، والحفاظ على صلات الماضي جزء أساسي من الشتات الفلسطيني، فكل جيل ينشأ في بقعة جديدة، يستدعي من العائلة طبقة أعمق من الذاكرة.

"يونان": سفر الخيال

لا أرض صلبة في فيلم"يونان" للمخرج السوري الأصل أمير فخر الدين، والفائز بجائزة أفضل إخراج في هذه الدورة، فهو يبدأ بشعر المتنبي (أغالب فيك الشوق...) للتعبير عن الحنين إلى الماضي، في استمرارية لفيلمه الأول "الغريب"، لكن المخرج سقط تجربته الثانية على الشخصية التي أداها الممثل اللبناني جورج خباز الحاصل على جائزة أفضل ممثل عن الفيلم نفسه. يدور الفيلم حول تحول السفر إلى عزلة داخلية تؤدي إلى الانتحار، وتعمق معنى المنفى و رسمه بأسلوب شعري، كانسحاب العيش البطيء ومعاناة الفطام من المعنى الأوسع للوطن.

ملصق فيلم "يونان"

في المقابل، هناك سفر البطل الخيالي نحو شخوص روايته غير المكتملة عن راع وزوجته، محاولا تحريك مصائرهما دون فائدة. البطل يسافر في الخيال بين روايته هذه، وبين الأم الماثلة في الذاكرة، وفي الواقع يسافر بين المدينة والجزيرة التي نفى ذاته إليها،  فتصبح نتيجة كل هذه الأسفار فقدان القدرة على التعرف إلى الذات داخل أي سياق جديد.

استطاعت شهد أمين في مشروع "هجرة" أن تلامس الواقع من خلال قضايا عدة متشابكة، وأن تحقق المعادلة بين الاستحقاق النقدي والإعجاب الجماهيري

يتقاطع مع هذا الفيلم في السياق نفسه الفيلم اللبناني الفائز بجائزة أفضل سيناريو "نجوم الأمل والألم" لمخرجه وكاتبه اللبناني سيريل عريس، إذ تظهر فكرة السفر وتختفي على مراحل خلال الفيلم. كونها معلقة في الوعي الجمعي للشخصيات، إثر ويلات الحروب المتتالية في لبنان، ووعد بالخروج من واقع ضاغط، لتتحول فكرة الفرار لاحقا إلى مساحة من الخيبة، عندما يعجز أبطالها عن النجاة خارج الحدود، ويشعرون باليأس من شح الفرص. لا مشاهد خارجية لكن فكرة السفر حاضرة تذهب وتجيء، حتى في المشاهد الصامتة، وحتى في مشاهد الحب، السفر عبر النظر إلى النجوم والحلم بالأمان.

"هجرة": السفر الروحي

يأتي "هجرة"للمخرجة السعودية شهد أمين، الحاصل على جائزة لجنة التحكيم وجائزة الجمهور لأفضل فيلم سعودي، مثل سفر روحي في موسم الحج، تنطلق الرحلة ببطلاتها النسائية، الجدة "ستي" تقوم بدورها الممثلة خيرية نظمي وحفيدتها "جنى" التي تبلغ من العمر 12 عاما وتقوم بدورها الممثلة لامار فادن، لكن مع وجود الكثير من العقبات، لتصور تفاصيل العبور القلق، والحركة الاضطرارية، والاحتكاك القاسي بالحدود الجغرافية، و بالأشخاص الغرباء، وفي مشاهد أخرى معضلة عدم الوصول من مكان لآخر، وعدم الاكتمال أيضا بين قانونين أو أكثر.

ملصق فيلم "هجرة"

بعد تجربة أمين الأولى في فيلم "سيدة البحر" الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي الدولي ضمن "أسبوع النقاد" عام 2019 عن عالم الغموض والأساطير والدراما الرمزية، استطاعت اليوم في مشروع "هجرة" بزخم شراكته الإنتاجية من السعودية والعراق ومصر وبريطانيا، أن تلامس الواقع من خلال قضايا عدة متشابكة، وأن تحقق المعادلة بين الاستحقاق النقدي و الإعجاب الجماهيري.

"القصص": سفر عائلي

نشاهد ثيمة السفر حتى في الأعمال التي شاركت في المسابقة ولم تنل التتويج، مثل فيلم "القصص" للمخرج المصري أبو بكر شوقي. فبعد تجربتين ناجحتين هما "يوم الدين" (2018) عن مرض الجثام وفيلم "هجان" (2023) عن سباقات الهجن وعلاقة طفل مع حيوانه في بيئة صحراوية، يذهب شوقي  في تجربته الروائية الثالثة "القصص" إلى سيرة صافية عن قصة حياة والديه، وينطلق من تاريخ عائلة والده بنسيج سردي يتقاطع فيه الخاص والعام .

مشهد من فيلم "القصص"

 تظهر في هذه العائلة الحيوية شخصيتا التوأم "حسن" والملقب بـ "حسنوف"، لشغفه باللغة الروسية، والذي يطلب للتجنيد، و"أحمد" الذي يسعى للسفر إلى النمسا لمقابلة حبيبته التي تعرف عليها عبر المراسلات، ولكي يكمل دراسته في الموسيقى. نحن هنا أمام نوعين من السفر، الأول يسافر لأن عليه فعل ذلك والثاني يسافر لأنه يرغب في ذلك، تستمر الحكاية عبر تحولات زمنية مفصلية في مصر مثل حربي 1967و 1973، مظاهرات 1977، وصولا إلى اغتيال أنور السادات.

في هذا السفر الزمني الكثير من العاطفة والشجن والكوميديا بإيقاع متسارع وحبكة متينة، في سياق رومانسي واجتماعي وسياسي مكثف.

هذه الأفلام لا تقاس بحجم الضجيج المحيط بها، ولا بدرجة تداولها اللحظي، بل بحضورها الهاديء داخل خريطة النتائج

بعد هذا المسار، يلفت الانتباه أن نتائج بعض الجوائز لم تحصر نفسها حول الأفلام الأكثر حضورا والأكثر إثارة للصخب. فبعض الأعمال مر في البرنامج بهدوء، دون أن يتحول إلى حديث يومي أو مادة سجال، ومنها

على سبيل المثال "كولونيا" للمخرج محمد صيام والحائز على جائزة الجمهور من فيلم العلا لأفضل فيلم دولي، و"أصوات الليل" للمخرج الصيني تشانغ تشونغتشن، الحاصل على جائزة أفضل مساهمة سينمائية.

مثل هذه الأفلام لا تقاس بحجم الضجيج المحيط بها، ولا بدرجة تداولها اللحظي، بل بحضورها الهاديء داخل خريطة النتائج.

في المحصلة، ما أتاحته الدورة الخامسة من المهرجان هو إمكانية قراءة أكثر من طبقة في الوقت نفسه، خاصة مع اتساع الرؤى وتنوع الجغرافيات في زخم تعاون الإنتاج المشترك، ويبدو أن مهرجان البحر الأحمر يسعى إلى ترك المسارات تتجاور، فهو لم يعد يبحث عن إجماع، ولا يراهن على لحظة جامعة سوى بالمعنى الأسمى الذي كرس هذا العام تحت شعار "في حب السينما". 

font change