"البحر الأحمر السينمائي" في دورته الخامسة... أفلام الشفاء الداخلي والعائلة البديلة

في حب السينما بوصفها سبيلا للتواصل الإنساني

AFP / Ammar Abd Rabbo / Factstory / RSFF
AFP / Ammar Abd Rabbo / Factstory / RSFF
الممثل الأميركي فين ديزل (يمين) والبريطاني مايكل كين يتحدثان على المسرح خلال حفل افتتاح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة، 4 ديسمبر 2025

"البحر الأحمر السينمائي" في دورته الخامسة... أفلام الشفاء الداخلي والعائلة البديلة

يبدو شعار "في حب السينما" الذي يرفعه مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الخامسة إطارا معرفيا أكثر منه مجرد شعار براق. خمس سنوات على تأسيس مهرجان سينمائي دولي على أرض المملكة وفي قلب مدينة جدة الساحلية، نجح خلالها في ترسيخ منطق الاحتفاء بالسينما عبر بناء تقاليدها وشبكات تأثيرها. هذا العام استمرت المنهجية ذاتها من خلال قائمة تكريمات لنجوم عالميين، بدءا من تقديم النجم فان ديزل لتكريم النجم السير مايكل كين الذي امتدت تجربته الثرية إلى أجيال عدة، مرورا برشيد بوشارب وسيغورني ويفر وستانلي تونغ، وصولا إلى النجمة الفرنسية صاحبة الحضور الآسر والبصمة اللافتة جولييت بينوش، بالإضافة إلى حضور باقة من الأسماء العالمية التي تشارك يوميا في جلسات "ماستر" عبر سوق المهرجان، بما يعزز فكرة الحوار بين تجارب أيقونية صنعت اختلافها وتميزها. وهذا ما أكده وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وجمانا الراشد الرئيس التنفيذي لـ "المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام" (SRMG) رئيسة مجلس أمناء مؤسسة البحر الأحمر السينمائي، في ملخص كلمتيهما عن أهمية السينما في موقع الرؤية، وقدرة المهرجان على إرساء دعائم متينة أخرى في البناء الثقافي الوطني.

أما فيصل بالطيور، الرئيس التنفيذي للمهرجان، فأكد في كلمته أن اختيار فيلم "العملاق" من كتابة وإخراج المخرج روان أثال، جاء كمدخل إلى قضية تناقش صورة العربي في المشهد العالمي، وأزمة الهوية والموهبة وثمن التجربة، من خلال قصة الملاكم اليمني الأصل، نجم التسعينات الأسطوري نسيم حميد، الذي يؤدي دوره الممثل أمير المصري ويشاركه البطولة النجم بروس بروسنان، وقد تضاعف أثر الاختيار بحضور صاحب الحكاية نسيم حميد بين الضيوف. تتشابك هذه اللحظات الافتتاحية من تكريمات وكلمات وحضور دولي، لتعكس مزاجا ثقافيا عنوانه "حب السينما"، كما يعلن شعار المهرجان.

هنا قراءة في أربعة من الأفلام التي عرضت في الأيام الأولى من المهرجان، على أن تليها قراءة تالية.

"العملاق"

يبدو هذا اللقب بالخط العريض عنوانا تمجيديا أو وصفا جسديا، لكنه في العمق توصيف دقيق لرجل يجد نفسه داخل مفارقة قاسية، فكلما تضخمت صورته في الخارج، تقلصت معرفته بذاته في الداخل.

يبدأ الفيلم بخط سردي مهندس عن بداية نشأة علاقة إنسانية معقدة، بين مدرب وتلميذ في لحظة تاريخية صنعت لدى كثيرين صورة لبطولة عربية قاومت الصور النمطية. غير أن الفيلم لا ينشغل بالأسطورة، بل يختار الدخول إلى عمق العلاقة. شخصية المدرب بريندان إينغل التي يؤديها بروس بروسنان أشبه بملامح الأب الروحي الذي يستجيب لمناشدة والدة نسيم له في حمايته من التعرض للأذى في المدرسة، فيجد المدرب نفسه منخرطا في حماية هذا الفتى بما يتجاوز مهنته. تتسع حلبة التدريب، إلى مساحة وجدانية تجمع بين الاثنين.

تتشابك هذه اللحظات الافتتاحية من تكريمات وكلمات وحضور دولي، لتعكس مزاجا ثقافيا عنوانه "حب السينما"، كما يعلن شعار المهرجان

يظهر سلوك الفتى نسيم حميد، حاجته الملحة إلى الاعتراف. موهبته فطرية، اندفاعه طفولي، وذكاؤه يظهر عبر القدرة على تحويل الحلبة إلى استعراض راقص أمام الخصم وأمام الجمهور. مع مرور الوقت، يتحول هذا الاعتراف إلى مساحة تضغط على العلاقة. ما كان في البداية احتواء، يصبح لاحقا ثقلا. الفيلم لا يصنع صداما، بل يصنع تفاوتا. نسيم يبحث عن الاستقلالية، والمدرب يبحث عن الاستمرارية. براعة الكتابة هنا أنها صورت هذه الثنائية ضمن طرحين: أزمة أخلاقية ومسار نضج إنساني. لحظة مفصلية يمكن تشبيهها بانفصال منطقي بين مرحلتين مختلفتين من نمو الإنسان.

Vertical
مشهد من "عملاق"

يحمل المدرب ذاكرة من سيرة مهنية لم تكتمل، فيجد في نسيم مجالا للتعويض. لكنه لا يبدو تعويضا عاطفيا أو ماديا، بل تعويض معنوي: أن ينجح التلميذ على يديه حتى يشعر بأن سنوات عمره لم تضع هباء. أما نسيم فيتقدم ليجد نفسه محاطا بأضواء الشهرة الصاخبة، فيبدأ صراعه الداخلي مع تلك العلاقة الأبوية. يترك الفيلم من خلال الحوار والأداء كشف ما يجري تدريجيا، ويترك للمشاهد سبر عمق الشخصيتين دون توجيه.

 ترجم بروس بروسنان ذلك بطريقة دقيقة. جملة من إشارات الجسد المدروسة، من طريقة الالتفات، من التوقف قبل الكلام في لحظة إدراك دون انفعال. يشكل الرجل حالة شعورية متماسكة من الحب والخذلان. هذا التوازن الداخلي، حتى بعد تحوله من الأب الروحي إلى المستثمر النفعي، بحسب وجهة نظر نسيم، لا يعطي الشخصية تفوقا ولا هزيمة، بل يعطيها عمقا يتجاوز تصنيفات مؤطرة مثل عاطفة قسرية أو سلطة اجتماعية.

بالتالي، ليس هناك ضحية وجلاد، فالعلاقة تتفكك لأن طبيعتها تغيرت. لكن كيف يستطيع الفيلم أن يحيد عن هذا كله؟ كيف يمكن أن يوظف الحالة بتراتبيتها ويترجم أن المصلحة ليست مالية فقط، أو أن الأبوة لم تكن مجرد إحساس صاف؟

هنا يستفيد الفيلم من بطلتين ثانويتين: الزوجة والصحافية. الزوجة تؤدي دورها الممثلة البريطانية كاثرين دو، ترى الشقاق بين زوجها المدرب وبين نسيم، تقرأ ملامح هذا الشقاق بهدوء، وتتعامل معه بتنبه وحكمة. بينما الصحافية التي شهدت على تطور نسيم منذ أن شاهدته في صالة التدريب في عمر العشر سنوات، تمثل منظورا إضافيا، إذ تواجه حقيقة الأسطورة وخلفيتها بلومها الحاد للمدرب بعد أن عاتبها لتكريسها اسم نسيم بعد نجاحه الساحق، وهذا ما يفاقم نرجسيته، فكان ردها الحازم: "أنت من ضخمت الأنا لديه، وأنت من كررت باستمرار ستكون أفضل من علي كلاي، أحصد ما زرعت!".

القيمة السينمائية الأعمق تأتي من  نضج السيناريو في فهم هذه العلاقة الشائكة،  فلا ينشغل العمل بكيفية تصعيدها على طريقة الفوز والخسارة، بل إن كل طرف يأخذ شيئا من الآخر، ويترك شيئا فيه. ربما في معالجة أخرى قد تصور النتائج مغلفة بمأساة أو وقوع في هاوية، لكن في هذه العلاقة الإشكالية، نسجت ببراعة وبحذر من الوقوع في ميلودراما فاقعة.

"العملاق" قراءة سينمائية تمسك بالمحور الأكثر هشاشة في العلاقة الإنسانية، وهي علاقة لا تتشكل من نبرة تمجيد، ولا تنهار بنبرة كراهية، بل تخضع لقانون النمو الداخلي

في هذا المعنى، فإن "العملاق" قراءة سينمائية تمسك بالمحور الأكثر هشاشة في العلاقة الإنسانية، وهي علاقة لا تتشكل من نبرة تمجيد، ولا تنهار بنبرة كراهية، بل تخضع لقانون النمو الداخلي. وعندما يخرج المشاهد من الفيلم، يشعر بأنه شاهد قصة حياة.

AFP / Ammar Abd Rabbo / Factstory / RSFF
من اليسار، كيرستن دانست، جيسيكا ألبا، جمانا الراشد الرئيس التنفيذي لـ "المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام"، جولييت بينوش، وداكوتا جونسون خلال حفل افتتاح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة، 4 ديسمبر 2025

"عالم الحب"

يخلو ملصق هذا العمل الآتي من كوريا الجنوبية من جاذبية الفرادة، خاصة أننا نقرأ عنوانا مستهلكا "عالم الحب" في  أعلى الملصق بالألوان والورود الزاهية وتتصدره في الوسط فتاة مراهقة ترتدي ملابسها المدرسية، دون أي تفاصيل زائدة أو تكوينات أخرى، وكأننا أمام عمل يشبه طابع المسلسلات الآسيوية. لكن مشاهدة الفيلم تقنعنا بأنه أبعد وأعمق من ذلك.

تبدأ الحكاية التي كتبتها وأخرجتها يون جو_إن مع شخصية جو -إن، فتاة في سنوات المراهقة، تبدو أمام الجميع طالبة مرحة مجتهدة، حيوية، ذات حضور اجتماعي لافت. تعيش مع والدتها مديرة الحضانة وشقيقها الأصغر، تسترسل جو-إن مع صديقاتها في سرد مغامراتها العاطفية بلا خجل، وبطابع مغلف بالكثير من السخرية، تستطرد مع الصديقات في مشاكل التغيرات الهرمونية وآثارها بطابع تهكمي، الصورة الخارجية لهذا العالم متماسكة، لكن تحت هذا الانسجام مع الذات سر دفين من الصعب النبش في دواخله عند بداية الحبكة.

تتنقل جو-إن من زميل إلى آخر في مداعبات جنسية عابرة، لاستكشاف رغباتها، لكنها تقف في المنتصف  وتضع حدودا بينها وبين الطرف الآخر بعنف مفاجئ. يتبين أن جو-إن ترغب في الحب لكنها لا تريد عيشه. قد يبدو الأمر رقابة ذاتية أو تخوفا من عواقب لاحقة، إذ نرى في مشهد آخر، محاولتها  لإنشاء حديث عبر تطبيق "واتساب" مع والدها الغائب، لكن الحديث هنا أحادي، لا نخرج منه بأي معلومة : "أبي، لدي حبيب جديد".

تنتقل الأحداث عند نقطة بسيطة: المدرسة تجمع توقيعات على عريضة ضد خروج رجل من السجن متهم بجريمة اعتداء جنسي على تلميذة في الصف الثالث ابتدائي. الجميع يوقع دون تفكير، بينما جو- إن ترفض بحجة أن الصياغة التي كتبت بها العريضة درامية تصف الضحية بدمار حياتها الى الأبد. هذا الرفض الصغير يتحول إلى هزة داخل الفضاء المدرسي، وتتحول الفتاة إلى موضع  تشكيك وأحكام مبطنة. المجتمع الطالبي الذي كان محايدا تجاهها يكتشف شيئا "غير مفهوم" فيها، وهي تتعامل مع هذه النظرات بتوتر داخلي عميق، ولامبالاة ظاهرية كاذبة.

AFP / Patrick Baz / Factstory / RSFF
الممثلتان الأميركية داكوتا جونسون (يمين) والكندية نينا دوبريف تلتقطان صورة مع أحد المعجبين لدى وصولهما إلى حفل افتتاح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة، 4 ديسمبر 2025

منحت الكتابة المساحة لشخصية جو- إن لتستعرض من خلالها معنى الإنكار ومعنى الانكشاف. ولم تعر المخرجة اهتماما في الخط الدرامي حول هوية المعتدي على جو -إن، قد يكون أباها الغائب، وقد يكون عمها. إنها مجرد تكهنات، لكن ما هو واضح أمام المشاهد أن رفضها المستمر أمام موقف أخلاقي (توقيع  عريضة)، كان صدى لجرح لم يبرأ. في هذه اللحظات تبدأ الفتاة في الدخول إلى مساحة من التساؤل: هل ما عاشته في الطفولة يفسر خوفها؟ وهل رفض التوقيع محاولة لاستعادة حق لم تحصل عليه؟ رغم أن هذه الأسئلة لم تترجم على الشاشة بشكل صريح ولم تقدم المخرجة لقطة واحدة من "الفلاش باك" لنعرف حيثيات الحادثة، لكننا نتماهى مع ما تعانيه الفتاة من خلال جسدها وعينيها، وفي توترها عند ذكر توقيع العريضة .

هذا هو محور الفيلم: أن عالم الحب هو عالم التقبل والاعتراف والانتصار لهما وصولا الى الشفاء العاطفي

جو إن لا تسعى إلى إقناع أحد بجرحها العاطفي العميق، خاصة بعد أن واجهها صديقها: "أتفهم ما حدث لك، لكنك معقدة أكثر مما أحتمل"، هنا تقف بطلة الحكاية أمام ذاتها في لحظة غير متوقعة، وتجد أن العالم الصغير الذي ظنت أنها تعرفه لا يشبه الحقيقة التي تحملها في داخلها، ولم تعد أزمتها الوجودية في جرح الماضي بل في تقبل الآخرين لها بعد الاعتراف به، وهذا هو محور الفيلم: أن عالم الحب هو عالم التقبل والاعتراف والانتصار لهما وصولا الى الشفاء العاطفي.

AFP / Patrick Baz / Factstory / RSFF
الممثلة الأميركية داكوتا جونسون (يسار) والرئيس التنفيذي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي فيصل بلطيور خلال فعاليات الدورة الخامسة في جدة، 5 ديسمبر 2025

"الله ليس ملزما"

يدخل فيلم التحريك الفرنسي (إنتاج مشترك بين فرنسا ولوكسمبورع وبلجيكا وكندا والسعودية) "الله ليس ملزما" في الأرضية ذاتها: الإنسان حين يتحرك خارج التصور الذي اعتقد أنه يعرف نفسه من خلاله. هذا المسار لا ينشأ من قرار أو رغبة، بل من حدث أكبر من طاقة الفرد، يستوجب إعادة تشكيل داخلي.

تدور الحكاية حول طفل يدعى بيراهيما وهو صوت الراوي في مطلع الفيلم، إذ يعرف عن نفسه وعن عمره -اثني عشر عاما وعن حياته الخالية من الدراسة واللعب. يعيش بيراهيما في ساحل العاج، يفقد والديه، فتسقط أول ركيزة كانت تمنحه شعور الانتماء.  ينتقل في رحلة بحث عن عمته في ليبيريا، برفقة ساحر محتال يدعى ياكوبا، يستخدم تمائم الشعوذة ليحمي نفسه من قطاع الطرق. هنا أيضا، يرسم السيناريو رحلة المرافقة ويكرسها بوظيفة الحماية وسند أبوي بديل. أثناء ذلك، يأخذ مسار الرحلة إلى طريق بعيد عن الحماية المتوقعة، ويضعه أمام الحرب الأهلية. يجد بيراهيما نفسه في عالم ليس معدا للأطفال، ومع ذلك يصبح جزءا من مشهد عسكري يتعامل معه بصفته عنصرا وظيفيا، لا فردا يحمل هشاشة الطفولة والبراءة. تشمل معنى حياة ابراهيما داخل التجربة القاسية، ويتحول نمط حياته الوحشي إلى حالة نضج مبكرة وغير مخطط لها.

تتصل دوافع المخرج زافين نجار مباشرة بهذه الحكاية. فخلفيته كلبناني-سوري من أصل أرمني، هي بطاقة تعريف لذاكرة عميقة محفورة بتاريخ جماعي مر بويلات حرب ونزوح وتهديد وجودي. وحين ولدت الفكرة  لم تأت من إعادة إنتاج حرب أفريقية بمعزل عن تاريخ أجداده، وأيضا تحول الأطفال إلى شهود على صراعات تتجاوزهم. ولأن المخرج  يحمل في تكوينه تعدد الانتماءات وذاكرة عائلته بملامح نزوحها، فإن بيراهيما ليس نموذجا بعيدا عن وجدانه، ويراه بمعنى من المعاني الشخص الذي يجبره الزمن على التعرف إلى نفسه داخل بيئة قاسية.

Annecy
مشهد من "الله ليس مُلزَما"

عدا كونه فنانا يحب أن يعبر عن نفسه من خلال الرسوم المتحركة، فبالنسبة إلى زافين فإن تجربة الحرب هي أثر طويل على النفس. والتحريك يسمح بإيصال الأثر دون إيذاء عين المتلقي، خاصة أن العنف يأتي متدفقا في لقطات صادمة متتالية. وما يجعله أخف وطأة، هو أسلوب التكوين البصري الذي يحمل مساحات لونية دافئة مع خلفية اللون الأخضر بجميع درجاته، كما يستعين بحركة في الخلفية تتقلص وتتمدد، بحيث يصل إحساس الحرب إلى الوجدان قبل تجسيدها في تفاصيل درامية مباشرة. ابراهيما يعبر الطرق بأسلحته التي يتجاوز حجمها ضآلة جسده الصغير النحيل، والفيلم يتعامل مع هذا المرور بطريقة تتسيد فيها الكوميديا السوداء والسخرية بعيدا من الدراما الثقيلة.

هذه الوسيلة لا تقلل قسوة المادة، إنما تعيد توزيعها بألوان متعددة بحيث لا يعود الرعب هو مركز المشاهدة، وإنما الأثر الذي يتركه على الطفل

وبهذا التكوين يتشكل فيلم "الله ليس ملزما" داخل صورة إنسانية بعيدة عن الفرض العاطفي والحالة الاستجدائية، ويتحول التحريك إلى مساحة تتعامل مع الرعب دون صناعته بصريا على أنه مادة استعراضية. فالقتل والدماء والتعذيب، كلها موجودة في سياق الرحلة التي يعيشها إبراهيما، لكن هذا الوجود لا يأخذ شكل الصدمة المباشرة. التحريك يمنح المشاهد قدرة على إدراك الفاجعة بتفعيل الخيال. لدى المخرج طريقة في رسم العنف تجعله يمر بسلاسة على الشاشة على عكس ما تفعله الصورة الواقعية، هذه الوسيلة لا تقلل قسوة المادة، إنما تعيد توزيعها بألوان متعددة بحيث لا يعود الرعب هو مركز المشاهدة، وإنما الأثر الذي يتركه على الطفل. بهذه الطريقة يستبدل الفيلم الإيلام الحسي بإدراك فكري.

AFP / Patrick Baz / Factstory / RSFF
الممثل الأميركي فين ديزل يصل إلى حفل افتتاح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة، 4 ديسمبر 2025

"يونان"

فيلم "يونان" (إنتاج مشترك ألماني سعودي كندي فلسطيني أردني) للمخرج السوري أمير فخر الدين، يذهب في هذه الثيمات إلى مساحة أكثر تجريدا وأعمق شاعرية. بطل الفيلم منير ( جورج خباز) روائي لبناني مهاجر قسرا في مدينة هامبورغ الألمانية، يعيش في بيئة بعيدة عن جذوره، لغة لا تؤنس، ومناخ رمادي طوال النهار تحمله السماء على نحو ثقيل. المدينة تتعامل معه كغريب، لكنه في الحقيقة غريب عن نفسه. يحمل الرجل مشروع رواية عالقة، رواية لا تتقدم ولا تتراجع، تشبه حالته النفسية. فكرتها عن راعي غنم (يقوم بدوره علي سليمان) بلا عينين وبلا فم، تجسيدا لوعي منقوص، ولصوت داخلي غير قادر على التعبير.

 تكشف القصة لاحقا أن شخصية الراعي تعود إلى حكاية سمعها كثيرا من والدته (نضال الأشقر) في طفولته. الحكاية لا تروى كاملة في الفيلم، لكننا نسمع العبارات ذاتها تتكرر على لسان منير: لا عين لا أنف لا فم. هذا التكرار يظهر كخيط داخلي ينسج علاقة بين ضياع البطل وضياع الحكاية نفسها.

Filmoption Internationa
"يونان"

المكان في الفيلم يشتغل كحالة شعرية غارقة في ظلال اللون وبعدها عن سطوعه. السماء غائمة، إضاءة خافتة محدودة، شوارع باردة، رياح قوية، وموج بحر يعلو فوق الحجر والبشر. الكاميرا تلتقط انعكاس الضوء على الماء، بخار الهواء على النافذة، الموج حين يندفع على الصخور، وملامح الوحدة في المدينة قبل انتقال الراوي إلى الجزيرة النائية. البحر يأخذ اللغة التي لا يستطيع البطل صوغها. الرياح تحمل إيقاعا يكمل شريط الصوت. الفضاء الطبيعي يؤدي وظيفة شعورية، يتكلم بما يعجز عنه الإنسان، لكن إلى أين تأخذه الجزيرة النائية؟

تمثل الرواية غير المكتملة مأزق الذات، إذ يشعر الراوي بشلل في الكتابة، وهذا الشلل يشبه توقف الحياة: لا حوار داخلي طويل، بل حضور ثقيل جدا يتسلل إلى الصورة.

هذا الشلل يشبه توقف الحياة: لا حوار داخلي طويل، بل حضور ثقيل جدا يتسلل إلى الصورة


تبدو الاقتباسات الشعرية من المتنبي ومحمود درويش في مطلع الفيلم ونهايته، مفاتيح الصندوق الأسود الذي يقبع داخل حنايا أمير، وعندما يزاح هذا الصندوق عن صدره يبدأ ينطق بالأسئلة الوجودية: "ليش مكتوب عليي النفي؟ اشتقتلك امي".

 يقرر المخرج أن يطلق لسان أمير بهذه الاسئلة الموجهة إلى والدته في حوار  ذهني. بعد ذلك ينطلق في الشوارع، يحلق شعره، يتحرر جزئيا من ظلمة نفسه، مكررا مونولوغ صوته الداخلي "تنسى كأنك لم تكن" مصحوبا بموسيقى المؤلفة الموسيقية الأردنية سعاد بشناق التي نجحت في التعبير عن هذا الانفصام العاطفي العميق، وكأنه جسد آخر يحضر في المشاهد ويتنفس بجانب البحر والريح والأغنام. تعاملت بشناق بحساسية عالية مع الصمت، فجاءت الجملة الموسيقية في الختام مثل موجة ترتفع ببطء ثم تتراجع وتعود لتتصاعد، تماما كما هي روح المنفي الحزين.

font change

مقالات ذات صلة