أميلي نوتومب تعيد سرد أسطورة الطفولة في "حسنا إذن"

الرعب في التفاصيل الصغيرة

Reuters
Reuters
أميلي نوتومب تشارك في فعالية مدرسية لدعم جمعية ELA لأمراض الأعصاب الوراثية في باريس، 12 أكتوبر 2015

أميلي نوتومب تعيد سرد أسطورة الطفولة في "حسنا إذن"

في روايتها "حسنا إذن"، الصادرة أخيرا عن دار "ألبان ميشال" الفرنسية، تعود أميلي نوتومب إلى حقل خبرتها الذي صنع اسمها في سماء الأدب، عبر تناولها موضوعي الطفولة كجرح، والعائلة كمسرح للانكسار، موظفة اللغة كوسيلة للبقاء. غير أن الجديد في هذا العمل هو أنه يذهب أبعد من مجرد استعادة لطفولة ما أو تذكر قسوة الأم، حين يجعل من عبارة صغيرة جدا "حسنا إذن" أو "لا بأس" مركز عمل سردي متميز.

العبارة السحرية

جملة واحدة تتكرر حتى تتحول إلى ما يشبه سلاحا أو درعا لغوية تعمل على حماية طفلة هشة من الانهيار، كما في اللحظة التي تكتشف فيها أدريان هذه العبارة لأول مرة "حدث انزلاق في عقلها، فقد الكون توازنه تحتها وأصيبت بصاعقة اكتشاف معجزي يتلخص في كلمتين: حسنا إذن... بما أنني الآن مسلمة للجلادة، سأنظر إليها مباشرة في عينيها وسأخفي حسنا إذن الذي ستنقذني".

ابتداء من هنا، تجعلنا الروائية نتأمل هذه الجملة، البسيطة في ظاهرها، كأنها فلسفة حياة كاملة: القدرة على تحويل السقوط إلى فرصة للوقوف، والهزيمة إلى صيغة بقاء، إذ يتعدى نص "حسنا إذن" البراءة الضائعة أو الرسم المتقن لملامح طفولة وردية، ليشكل نصا صادما، مرعبا أحيانا، يتمتع بجمالياته وإيقاعه، فقد جعلت منه الروائية مسرحا لمواجهة مكشوفة بين براءة الطفولة وشراسة الكبار، بين الحاجة إلى الحب وحضور القسوة كقانون أساس في البيت.

تضعنا الكاتبة منذ الصفحات الأولى من العمل أمام صدمة لا تنسى: جدة ترغم حفيدتها على التهام طعام لا تطيقه حتى تتقيأ، ثم تجبرها على ابتلاع قيئها: "أيتها الفتاة القذرة! (صاحت الجدة) لحسن الحظ أنك تقيأت في الطبق! سيكون أسهل لتعيدي أكله... نهضت أدريان ونظرت بهدوء إلى الصحن، ثم التهمت القيء دون أن توسخ وجهها".

هذه القدرة على تكثيف الرعب في أبسط التفاصيل هي ما يجعل أسلوب نوتومب متفردا. فهي لا تكتب مشاهد دموية أو غرائبية كبرى، بل تجعل الرعب ينبثق من قلب المألوف

هذا المشهد البسيط في شكله، البشع في مضمونه، ليس حادثة معزولة، بل مفتاح لمناخ الرواية كله. إنه يعلن أن القسوة ليست استثناء، بل قاعدة، وأن الشر يسكن تفاصيل الحياة اليومية. الطفلة، في مواجهة ذلك، لا تجد سوى ملاذها اللغوي: "حسنا إذن"، العبارة التي تقال عادة بلامبالاة، تتحول إلى طقس نجاة، إلى صيغة نفسية لتسكين الألم، كما في اللحظة التي تردد فيها أدريان هذه العبارة بعد اكتشاف جرائم أمها: "ركزت ونطقت العبارة بكل حماستها: "حسنا إذن". "'حسنا إذن. أمي، بعد أن قتلت عشرين قطا في الحي، قتلت بيشوب، صديقي القط الأفضل، أفضل صديق لي... هذا "حسنا إذن" لم يعن شيئا. لا يهمني، أستخدمها على أي حال، لأنني أريد الاستمرار في حب أمي. حسنا إذن: هي تصرفت نيابة عن قوى مظلمة لا أستطيع فهمها".

AFP
أميلي نوتومب بعد فوزها بجائزة "رونو" الأدبية عن روايتها "الدم الأول" في باريس، 3 نوفمبر 2021

تكثيف الرعب

هذه القدرة على تكثيف الرعب في أبسط التفاصيل هي ما يجعل أسلوب نوتومب متفردا. فهي لا تكتب مشاهد دموية أو غرائبية كبرى، بل تجعل الرعب ينبثق من قلب المألوف: من مائدة إفطار، من كلمة جارحة، من قطة مقتولة، من ابتسامة أم ساحرة تخفي وحشا. من هنا نفهم الإشادة النقدية التي حظيت بها هذه الرواية منذ صدورها، واتفاق المراجعين على اعتبارها حكاية "حقيقية ـ زائفة"، تضمنها نص يمزج السيرة بالتخييل ليعيد رسم أسطورة الأم في عمقها المظلم، ليس كشخصية قاسية، بل ترسمها الرواية في صورة تجمع بين الجمال والوحشية، فهي تبدو في الظاهر فاتنة، مدهشة في حضورها وأناقتها: "في الخامسة والأربعين، كانت أستريد في قمة روعتها"، أما في الخفاء فنجدها تمارس عنفا باردا ضد ابنتها وضد القطط التي تحبها الطفلة. التناقض الصارخ بين الوجهين هو ما يفجر الرواية أخلاقيا: كيف يمكن طفلة أن تستوعب أن أمها الجميلة، التي تبهر الآخرين، هي نفسها اليد التي تقتل القط الذي تعشقه؟: "ما اكتشفته الطفلة عن أمها كان يحمل اسما لم تعرفه: الازدواجية. كانت الأم مزدوجة، جزء منها يفلت منها... في الخامسة والأربعين، كانت أستريد في قمة روعتها. كان في إمكانها الامتناع عن حسد ابنتها الخاصة، لكن ذلك كان أقوى منها". هنا يقع الانكسار الأسطوري: انهيار الثقة الأولى، انهدام صورة الأم كمأمن، وصعودها كرمز للرعب.

لضبط هذه الصورة المزدوجة للأم، استعانت إميلي نوتومب بشخصية ديكورية هي "القط بيشوب" الذي تملكه الطفلة، بحيث جعلته يحتل موقعا مركزيا في النص، يجعل القارئ يخرجه من النطاق النمطي للحيوانات الأليفة، لينظر إليه كرمز من رموز الحياة والبراءة والحب غير المشروط: "كان لمارغريت قط فاخر، حيوان رائع ومتكبر يدعى بيشوب... أستريد تغرق بيشوب في المراحيض، أستريد تخنق بيشوب وترميه من النافذة... "حسنا إذن. أمي، بعد قتل عشرين قطا في الحي، قتلت بيشوب، صديقي القط الأفضل".

يتحول النص من مجرد سيرة شخصية إلى تأمل فلسفي في الذاكرة نفسها، فنحن لا نقرأ فقط عن الطفلة وهي تعيش الصدمة، بل نقرأ الكاتبة وهي تعيد تأويلها

اختفاء بيشوب ومقتله المحتمل يفتح بابا مظلما أمام الطفلة: الشر ليس فقط في الجدة القاسية، بل في الأم نفسها. ومع انكشاف أن الأم ربما قتلت عشرين قطا على امتداد سنوات، يصبح الرمز أكثر وضوحا: القسوة وراثة، والشر يتناسل داخل العائلة، وكأن البيت نفسه يتغذى على قتل البراءة: "غالبا، طفل رأى والديه يتصرفان بعنف يصاب بإحساس رهيب بالذنب. أمي، صغيرة، رأت أباها يضرب أمها، رأت أمها تقتل قطط الحي بحقد". ما بين الجدة التي تمارس ساديتها على الإفطار، والأم التي تقتل القطط بدم بارد، تنغرس الطفلة في تربة مسمومة. ومع ذلك تواصل الحياة عبر الجملة السحرية: "حسنا إذن".

الأسلوب السردي والتأمل الفلسفي

يلاحظ في النص أيضا أن إميلي نوتومب لم تحصر السرد في صوت الطفلة وحده، بل سمحت ببناء طبقة سردية ثانية، تتمثل في "الراوية البالغة" التي تعود إلى ماضيها وتعلق عليه، وبهذا الازدواج يتحول النص من مجرد سيرة شخصية إلى تأمل فلسفي في الذاكرة نفسها، فنحن لا نقرأ فقط عن الطفلة وهي تعيش الصدمة، بل نقرأ الكاتبة وهي تعيد تأويلها بعد عقود، وهنا يظهر دور لغة الروائية وقدرتها على تأدية دورين في آن واحد: حماية الطفلة من الانهيار، وتمكين الكاتبة من تحويل الجرح إلى نص. هذا ما يجعل الرواية تأملا فلسفيا ونفسيا عميقا للغاية، زادت في عمقه لغة الكاتبة المتميزة بقصر الجمل والاقتضاب إلى أقصى حد، بالإضافة إلى كثافتها التي جعلتها محملة بطاقة نفسية هائلة، جعلت القارئ يجد نفسه أمام فراغ مفزع، لا مناص له في مواجهته إلا أن يملأه بخياله.

AFP
أميلي نوتومب بعد فوزها بجائزة "رونو" الأدبية عن روايتها "الدم الأول" في باريس، 3 نوفمبر 2021

الاقتصاد اللغوي الذي اعتمدته الروائية قد يزعج من يبحث عن تحليل نفسي طويل للشخصيات أو عن حبكة بوليسية معقدة، لكنه كما يبدو خدم استراتيجيا نوتومب المعتمدة على التعرية بدل الشرح، وعلى السؤال بدل الحلول الجاهزة، فهي في تناولها للشر لم تحاول تفسيره قط، مفضلة تعريته بجرأة وقوة، فهي ترى أن الشر يحدث وفقط، هكذا بكل بساطة، في البيت، في العلاقة مع الأم، في قتل قطة صغيرة، وكأنها تقول لنا إن الشر لا يحتاج لأزمات كبرى أو لحروب فظيعة ليتجلى، بل يمكن أن نراه في أكثر تفاصيلنا الحياتية تفاهة وبساطة.

تأثير الرواية إذن مزدوج: من جهة هي ممتعة بجمالياتها، بلعبة اللغة والاقتصاد السردي، ومن جهة أخرى هي موجعة لأنها تضعنا أمام قسوة لا مبرر لها، فعلى الرغم من صغر النص حجما إلا أنه ثقيل الأثر. طفلة تردد "حسنا إذن" وكأنها تلعب، بينما هي في الواقع تؤسس فلسفة بقاء. قطة مقتولة تتحول إلى رمز للبراءة المهدورة، وجدة تفرض على حفيدتها ابتلاع قيئها تتحول إلى استعارة عن الشر الموروث. الأم التي تبهر محيطها بجمالها تتحول إلى وجه مزدوج: ساحرة ومرعبة. وفي النهاية، اللغة نفسها، بكلماتها القصيرة المتكررة، تغدو ملاذا، جدارا أخيرا في مواجهة الانهيار.

font change