"مترو المدينة": فسحة بيروتيّة للذاكرة والنجاة

محترف للمواهب ومساحة للتجريب والإبداع

AFP
AFP
من عروض مسرح مترو المدينة

"مترو المدينة": فسحة بيروتيّة للذاكرة والنجاة

بيروت: تحمل تجربة "مترو المدينة" سمة لافتة، إذ أنها ولدت ونمت وازدهرت خلال ما اصطلح على تسميته بمرحلة الانهيار التي أفرزت الكثير منالمشاريع التي كانت جزءا منه وتنتمي إلى مرجعيته وثقافته. انطلق "المترو" من رؤية مختلفة وحرص على البحث عن البهجة الكامنة في أعماق التراث الغنائي العربي عموما. عمل على إعادة إنتاج مشهدية "الكباريه" التي لحقها الكثير من التبخيس وسوء الفهم، وتعريفها من جديد بوصفها مساحة تعود في أصل نشوئها إلى الجو المديني الباحث عن البهجة والخفة، الذي خلق مجموعة من التراكمات والمدارس والطقوس والمناهج الفنية. اكتشف فريق "المترو" كنوزا دفينة تصلح للاستعادة، وخصوصا إذا ما وصلت بمزاج حديث يقرأ الاجتماعي ويقارب السياسي من زاوية السخرية والنقد من دون أن يكون واجهة لأي مشروع محدّد ما خلا الانتماء إلى الناس ومزاجهم.

نشاط "المترو" متعدّد يجمع بين العروض المسرحية والغنائية و"الستاند آب كوميدي" والحفلات الغنائية وحفلات "الـ دي جاي" وقد بدأ في مسرح صغير في مبنى سينما سارولا في شارع الحمراء البيروتي، قبل أن ينتقل حديثا إلى مكان أرحب لاستقبال الأنشطة المسرحية في مبنى الأريسكو الواقع كذلك في منطقة الحمراء.

الممثل والكاتب المسرحي والمخرج ومطلق فكرة "المترو" هشام جابر يروي قصة هذه التجربة والمناخات التي رافقتها ويضيء على خصوصيتها وأثرها ويكشف طموحاتها.

يخضع العمل المسرحي في لبنان كما يروي جابر إلى شروط قاسية ذات طبيعة استنزافية ومرهقة، ويشترط مسارا شاقا وطويلا يبدأ من طلب التمويل ومخاطبة الجهات الممولة، أو طلب قرض بنكي وانتظار الموافقة وما إلى ذلك. إزاء تلك الشروط صار العمل المسرحي يجري في سياق بطيء وغير منتظم، ويتطلب وقتا طويلا حتى يرى النور. فكرة "مترو المدينة" ولدت من رحم هذه التجربة الشاقة وكذلك من الرغبة في الاحتجاج على الشروط التقليدية للمسرح التي تفترض ثنائية جمهور يجلس على الكراسي وممثلين يعرضون على المسرح، ومن الانفتاح على مساحة أكثر تجريبا ورحابة تحاول إعادة إحياء فكرة المسرح اليومي التي كان قد حققها الراحل شوشو بشروط جديدة تنسجم مع التطورات التي أصابت بيروت، وخلقت مناخا مختلفا عما كانت عليه في ستينات القرن الماضي وسبعيناته.

بدأ المشروع يتبلور انطلاقا من فكرة محطة "المترو" وديكوراتها وإيحاءاتها المقرونة بمشهدية الكباريه بوصفها مساحة للعروض المبهجة التي تتبنّى الخفة


قبل "المترو" قدّم جابر عروضا مسرحية يؤدّي فيها الممثلون أدوارهم من الصالة بينما يجلس الجمهور على المسرح، وكذلك مسرحية من ثلاثة أجزاء تعرض على امتداد ثلاثة أيام، وتتضمن إطارا تفاعليا مع الجمهور، وكان قد ابتكر كذلك شخصية روبرتو قبرصلي الهزلية التي قدمها في عروض عدة، "ستاند آب"، تفاعلية وطوّرها لاحقا في "المترو"، ليكتشف من خلالها أن الجمهور يتقبّل المزاح والنقد والسخرية طالما تصدر من شخصية مختلقة بينما قد لا يتقبلها في الواقع.

روبرتو قبرصلي كان يمكنه المزح والنقد والتجريب وأن يقول ما يشاء. من هنا انطلقت فكرة "المترو" التي تهدف إلى خلق مساحة رحبة تعددية يمكن من خلالها توسيع مساحة القول، وكذلك تكوين إطار مهني واضح الملامح يعتاش منه أهل المهنة بينما يقدمون أفكارهم بحرية ومباشرة، ومع خلو المسرح الصغير في السارولا واستئجاره بدأت هذه الفكرة تتحول إلى مشروع عملي.

 

بهجة مدفونة وتراث نسوي

مع وجود المكان بدأ المشروع يتبلور انطلاقا من فكرة محطة "المترو" وديكوراتها وإيحاءاتها المقرونة بمشهدية الكباريه بوصفها مساحة للعروض المبهجة التي تتبنّى الخفة، والتي تتطلب على عكس ما يعتقد الكثيرون جهودا شاقة وتدريبا رصينا حتى تعرض بصورة سليمة متقنة.

عروض كثيرة أطلقت في جنبات المكان ورافقته منذ بدايته عام 2012، كان أولها "كباريه شو" الذي اعتمد منطق "النمرة" وعرض "العميل الملتهب والراقصة المزدوجة" الذي تضمّن خطابا نقديا كوميديا يسخر من الأنتليجنسيا والمخابرات، وعرض "عالم التفنيص" الذي بني على خلطة من عمل المسرح والكباريه وعرض "هشك بشك" الذي استمدّ مادته من التراث الغنائي المصري الخفيف الذي كان سائدا في سبعينات القرن العشرين، وكان بالنسبة إلى الجيل الذي ولد في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية والأجيال اللاحقة تراثا مجهولا ومختلفا.

Alamy
مسرحية "هشك بشك" على مسرح مترو المدينة

إعادة اكتشاف هذا التراث وتقديمه، أنتجا حالة مدينية حيوية نجحت في استقطاب جماهير شابة كانت تعادي التراث معتبرة أنه يحتوي على عناصر جامدة ومتحفية ومغرقة في الجدية والرصانة. هذا الجمهور وجد أمامه مادة تراثية دسمة وغنية تفيض بالحيوية، وتكاد تكون أقرب إلى المزاج المعاصر من كثير مما يتم إنتاجه حاليا، وبذلك نجح "المترو" في تحقيق المصالحة الصعبة بين الأجيال الجديدة والتراث.

لم يكتف بذلك بل قدم أعمالا موازية للتراث لكنها مؤلفة وملحنة حديثا، غنتها ياسمينا الفايد وغيرها من نجوم "المترو". كما تبنى فكرة أغاني الموضوع مثل "أغاني سرفيسات" التي كتب بعضها جابر وقدمت في إطار يلعب على موضوع حي وحديث بكلام معاصر، لكنه يحاكي في مزاجه أشكال الغناء القديمة البسيطة واللاهية التي بلور "المترو" تجربة تقديمها من داخل مشروع  مسرح غنائي يختلف في مادته وتوجهه عن المألوف في هذا المجال، حيث ساد منطق المسرح الغنائي الرحباني لناحية الأفكار والديكورات والملابس والمزاج، ولم يوجد مسرح غنائي بتجربة مغايرة واضحة الملامح تخرج من العباءة الرحبانية.

خصوصية الأداء والمزاج الغنائي الذي تبناه مشروع "المترو" يتجلّيان في  حفلات تستعيد شخصيات غنائية تراثية وتعيد إلقاء الضوء عليها بمزاج شبابي وبأصوات شبابية تستحضر الأجواء المرافقة لها ضمن عرض مسرحي متكامل البناء يحضر فيه الغناء في إطار من العرض الجماعي الحافل بالشخصيات والديكورات، مشكلا تجربة جديدة في بلورة الاستعادة ضمن سياقات تغاير صورة المطرب في موازاة حفلات تكرّس أغاني محدّدة أو تجربة محدّدة.

حضر الغناء الفردي الذي يقدم أغنية طويلة أو مجموعة أغان محددة تستعيد شخصيات بارزة مثل الشيخ إمام، سيد درويش، ليلى مراد، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، ليلى مراد وغيرهم، بأصوات ساندي شمعون ونعيم الأسمر وكوزيت شديد وعبد الكريم الشعار وغيرهم.

أحييت الحفلات بطريقة غناء تتخلّى عن استعراض القدرات الصوتية لصالح الترفيه وتقريب العمل من مزاج الأجيال الجديدة وذائقتها في موازاة الشخصية الغنائية التي تقدم دورا مسرحيا يتطلب الغناء.يضاف إلى ذلك احتضان تجارب فرق غنائية شبابية أطلقت ألبومات غنائية نقدية ساخرة مثل فرقة "الراحل الكبير" بقيادة الموسيقي خالد صبيح.

ولدت من هذه الخلطة أعمال معاصرة تقدم تجربة مختلفة تعنى بسرد حكايات أخرى تلتقي مع أفكار حديثة  كان الاعتقاد السائد يقول إن لا أصول لها في تراثنا عموما.

اكتشاف عمل سامي الصيداوي ووداد على سبيل المثل كان مذهلا ليس من الناحية الفنية وحسب ولكن من ناحية المضمون حيث كشف عن تجربة نسوية مبكرة تعارض السطوة الذكورية وتخاطبها من موقع الندية والمجابهة والاحتجاج كما في كلمات أغاني وداد التي شكلت في زمنها تجربة تعاكس خطاب التفجع واللوعة الذي كان شائعا في الغناء عموما وفي الغناء النسائي خصوصا بكلام من قبيل "بتكن بكن، بتجن بجن، حن عليي بحن وجن عليي بجن، شو ما تعمل بعمل متلك عين بعين وسن بسن". تخاطب تلك الأغنية الرجل قائلة له إذا هدأتَ فسأهدأ، وإذا جننتَ فسأجن كذلك، وإذا حنّيت فسأحن وسأفعل ما تفعله"، وكذلك أغنيتها الشهيرة "بتندم وحياة عيوني بتندم". مثل هذا الكلام يعد دعوة مبكرة الى المساواة بين الرجل والمرأة ويكشف عن وعي نسوي تقدمي مبكر كان بدأ يأخذ موقعه في الفن قبل أن تلجمه الحرب وما أفرزته.

 

السياسة سيركا

قارب "المترو" السياسة لكنه لم يصبح واجهة لأي من تياراتها السائدة بل عمل على تمييعها وتسخيف خطاباتها والسخرية من شخصياتها وتفكيك أساطيرها. لعب على السخرية من نماذج السلطة القائمة مع رفض إعلان الاشتغال بالسياسة والتأكيد من ناحية أخرى أن كل ما يقدمه إنما يتصل بالسياسة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

التقط الناس السياسي في نتاج "المترو" وفي العروض الذي قدّمها وأنتجها وتلك التي رعاها واستجلبها وكان عرض "السيرك السياسي" الذي قدّم في مهرجانات بيت الدين أحد أبرز المعالم التي تشرح منطق التعامل مع السياسى وخطابها وخصوصا أن عرضه سبق انتخابات عام 2018 وسخر سلفا من نتائجها، وكان يتضمن مغامرات إخراجية وخطابية عبر إصراره على بث مشاهد مطولة ليست سوى عبارة عن تمثل مسرحي لخطاب سياسي لا يقول شيئا على الإطلاق ويكتفي بـ"البلا بلا بلا" محاولا إقناع الناس بأن هذا اللاشيء وذلك الخواء وانعدام الخطاب تنطوي على أبعاد عميقة وجليلة.

 

ثورة تشرين

كانت "ثورة تشرين" 2019 المفصل الأهم في تجربة "المترو"، إذ أن التظاهرات الأولى انطلقت منه وكان الفنانون الذين يشكلون عائلته أول من ركضوا إلى الساحات وافترشوا الطرق وصمموا أهازيج ملحنة التقطها الناس وصارت شعارات عامة للثورة. اللافت أن هذا الدور البارز في خلق تلك الثورة ودعمها لم يأت من تخطيط مسبق ولا كان انعكاسا لمشروع سياسي واضح الملامح، بل كان نتيجة طبيعية لكل نشاط "المترو" وحضوره، فكان بفنانيه وجمهوره وخطابه وكل ما يمثله حاضرا بقوة في صلب الحراك العام الذي طغى على البلاد حينذاك، والذي كان يحمل أملا بالتغيير سرعان ما اجتمعت كل القوى ضده ونجحت في سحب عصبه وصولا إلى إجهاضه.

كان الإحباط الذي أصاب عائلة "المترو" رهيبا وعميقا، لكنه خلق من ناحية أخرى وعيا حادا كان خلاصة الخوض في تلك التجربة العريضة وتمخض عنه إطلاق شعار "لسنا بخير، ولكن سنغني"  الذي يجمع بين الاعتراف بالواقع والإصرار على تجاوزه.

كان الدفاع عن الذات وعن المدينة في صلب مشروع السير بعكس مسار البلد، فعلى الرغم من التردّي العام والانهيار، جاء خيار التوسّع والانتقال إلى مساحة جديدة وحديثة ورحبة

في تلك الفترة وبعدها راح "المترو" يدافع عن العمل الفني بوصفه وظيفة ومهنة ودورا، وأن على كل مشتغل فيه الانهماك والإصرار على تقديم ما يجيد تقديمه سبيلا لتحصيل الرزق والاستمرار في العيش، خارج كل الشعارات الكبرى والرنانة وغير الواقعية، وبذلك كانت العودة الى النشاط ضرورة شخصية وسياسية ومعيشية حيث يمكن لكل فنان أن يدافع عن رؤيته وأفكاره بالاستمرار الدؤوب واليومي في أداء عمله داخل مسرح يحاول على الدوام النجاح في الدفاع عن نفسه، وداخل مفهوم ينظر الى الفن كمهنة يمكن أن يطالها ما يطال أي مهنة. بعد فترة من التوقف عن النشاط والإحباط عاد "المترو" ليشارك الناس في فهم ما حل بالجميع والبحث عن سبل مقاومته ضمن المساحة المتاحة التي فتحت في عروض يومية متواصلة يدفع فيها الجمهور ما يشاء على قدر استطاعته.

مع تفجير المرفأ عام 2020  بدا أن كل شيء انفجر في البلاد ولم يعد هناك من مجال سوى للصمت الكبير الذي ظهر بعد فترة كأنه استمرار للانفجار ومشاركة فيه، فكان خيار الانهماك في الرهان على الجيل الجديد عبر تفعيل مشروع مهنية التدريب الفني التي تستقبل المواهب الشابة في كل المجالات وتدربهم مع خبراء وفنانين بشكل مكثف يسبق إنتاج عروض خاصة بهم أو ضمهم إلى فريق "المترو" أو تتركهم يختارون مجالهم المهني في سوق العمل.

كان الدفاع عن الذات والمدينة في صلب مشروع السير بعكس مسار البلد. فعلى الرغم من التردّي العام والانهيار، جاء خيار التوسّع والانتقال إلى مساحة جديدة وحديثة ورحبة في "الأريسكو بالاس" ليمثل خطاب الاحتجاج على كل ما يجري.

لم يكن ممكنا البحث عن وظيفة تسمح بالبقاء في البلد والاستمرار فيه وتقديم مشاريع جديدة، فجاء المكان الجديد ضمن رؤية بصرية جديدة بغية خلق مكان يصرّ من خلال خيارات الإضاءة والديكور والمساحة والتجهيزات، على أن يكون مسرحا حديثا لا يسعى لبناء تجربته على الماضي ولا يلقي بالا للتهم السخيفة التي طالما لاحقت كل المشاريع التحديثية من قبيل تهمة كسر قدسية المسرح.

font change

مقالات ذات صلة