"جيمس ويب" معجزة تكنولوجية في مجاهل الفضاء

وثائقي جديد على "نتفليكس"

Unknown: Cosmic Time Machine (2023)
Unknown: Cosmic Time Machine (2023)

"جيمس ويب" معجزة تكنولوجية في مجاهل الفضاء

يعتبر علم الفلك من أقدم العلوم في تاريخ البشرية، ذلك أن هذا الكون الواسع والغامض أثار لدى الانسان منذ آلاف السنين شعورا يتأرجح بين الدهشة والرهبة والخوف والانبهار،ليصبح البحث في أسراره هدفا متواصلا، في محاولة للإجابة عن تساؤلات كثيرة حول حركة الكواكب والنجوم والظواهر الكونية المختلفة.

هذا الفضول في اكتشاف المجهول، اعتمد في بداية نشوء هذا العلم على الملاحظات البديهية، وعلى تجارب بسيطة، تحاول فك ألغاز الكون التي بدت عصية على الفهم والتفسير، فلجأ الكثير من المعتقدات والديانات الوضعية القديمة إلى عبادة الشمس والقمر والنجوم اتقاء لغضب الطبيعة المتمثل في الكوارث من فيضانات وعواصف وبراكين وزلازل، أو تبجيلا لموسيقاها المتناغمة، في مؤشر الى العجز عن التفسير العلمي المقنع.

لكن هذا العلم الذي اتكأ على الحدس الفطري في بداياته، تطور عبر آلاف السنين، ليعتمد على الرياضيات والفيزياء، وعلى معادلات معقدة، وراكم إرثا هائلا من النظريات والفرضيات والابحاث، حول قانون الجاذبية وكروية الارض، ودوران الأرض حول الشمس، واكتشاف كواكب جديدة في المجموعة الشمسية، ونظرية "الانفجار الكبير" عن نشوء الكون، وصولا إلى أحدث الانجازات والاكتشافات التي تحققت بفضل التقدم التكنولوجي الهائل في مختلف المجالات، والتي مهدت لتنظيم رحلات إلى الفضاء والبحث عن حياة محتملة خارج كوكب الأرض.

 يستعيد هذا الوثائقي على مدى أكثر من ساعة التحضيرات التي سبقت إطلاق التلسكوب، ويكشف ما جرى في الكواليس من انتظار وقلق واندفاع وترقب، ويتابع جهود فريق من المهندسين والعلماء شاركوا في المشروع، وتأثير ذلك على حياتهم اليومية وعائلاتهم


وعلى الرغم من أن علوم الفلك والفضاء بلغت مرحلة متقدّمة في الوقت الراهن، وأماطت اللثام عن الكثير من الأسئلة والظواهر الكونية، غير أن ثمة دائما مجهولا يغري بالبحث والتقصي ومعرفة المزيد في شأن أسرار الفضاء التي لا تنتهي، ولعل أحدث ما تحقق في هذا الحقل هو الخبر الذي تداولته، أخيرا، وكالات الأنباء العالمية حول انضمام الهند إلى ما يمكن تسميته بـ"النادي الفضائي"، فقد هبطت المركبة الهندية تشاندرايان-3 (تعني مركبة القمر) غير المأهولة على سطح القمر، في 23 أغسطس/آب، الأمر الذي وصفه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والكثير من المحللين، بأنه "يوم تاريخي" باعتباره أحدث انجازات الهند العلمية.

تأتي هذه المحاولة الجديدة للبرنامج الفضائي الهندي الذي يشهد ازدهارا، بعد أربع سنوات على محاولة هندية مماثلة لكنها باءت بالفشل، كما أنها تأتي بعد أيام قليلة على تحطم المسبار "لونا-25" وهو الأول الذي ترسله روسيا إلى القمر منذ العام 1976، وهذا ما يفسّر الاحتفاء الهندي الواسع بهذا الحدث الذي أوجد له مكانة ضمن "قائمة الكبار" في مجال "غزو الفضاء" التي تضم ثلاث دول فقط هي الولايات المتحدة وروسيا والصين.

 

تلسكوب جيمس ويب

قبل هذا الإنجاز الهندي الجديد، كان الحدث الأبرز في مجال ارتياد الفضاء هو ما حققته وكالة "ناسا" الأميركية بالتعاون مع وكالتي الفضاء الكندية والأوروبية عبر إرسال التلسكوب العملاق جيمس ويب إلى الفضاء السحيق، وهو الموضوع الذي يتناوله جزء جديد من السلسلة الوثائقية "المجهول" بعنوان "آلة الزمن الكونية" المعروض على منصة "نتفليكس".

Unknown: Cosmic Time Machine (2023)

يستعيد هذا الوثائقي على مدى أكثر من ساعة التحضيرات التي سبقت إطلاق التلسكوب، ويكشف ما جرى في الكواليس من انتظار وقلق واندفاع وترقب، ويتابع جهود فريق من المهندسين والعلماء شاركوا في المشروع، وتأثير ذلك على حياتهم اليومية وعائلاتهم، وكيف أن الإصرار على نجاح المشروع أصبح هاجسا لهم، إذ يقدم بعض هؤلاء شهادات عما كان يعتمل في نفوسهم وهم يعملون في هذا التلسكوب الذي يعدّ أحد أكثر المشاريع الطموحة في كشف ألغاز الكون، ووصف بـ"المعجزة التكنولوجية".

للوهلة الأولى قد يبدو الحدث عاديا، فهو مجرد إرسال تلسكوب جديد إلى الفضاء، بعدما أرسلت تلسكوبات عدة إلى الفضاء في سنوات سابقة، لكن هذا الوثائقي يثبت أن الأمر لا يمكن اختزاله على هذا النحو بل ثمة تفاصيل وأرقام ووقائع تجعل من هذا الإنجاز حدثا فريدا ومحطة استثنائية.

بعيدا من المعطيات العلمية البحتة التي قد تكون غير مفهومة، يمكن الحديث عن تفاصيل أخرى تكشف أهمية تلسكوب جيمس ويب الذي استغرق العمل فيه نحو 30 عاما لبناء أكثر الأجهزة الإلكترونية حداثة وتطورا، وشمل ذلك عشرات التجارب والاختبارات من أجل اكتشاف نقاط الضعف وتقليص نسبة الخطأ إلى الصفر، وإبعاد جميع السيناريوهات التي قد تفشل المهمة التي كان الكونغرس قد هدّد بتوقيفها بعدما بلغت موازنته أضعاف ما كان متوقعا، علما أن سيناريو الفشل، وعلى الرغم من كل تلك الجهود، كان احتمالا واردا، حتى أن الفريق المشرف على التلسكوب كان قد أعدّ مسبقا، خطابين، أحدهما سيلقى في حال نجحت المهمة (وهو ما حصل فعليا)، والآخر خصّص في حال الفشل، وهذا الخطاب الأخير، الذي ينقل الوثائقي فقرات منه، بدا مفعما بمفردات الخيبة والانكسار والألم، مع الإصرار على تجاوز الكبوة والنهوض من جديد.

يكشف الوثائقي أن التكلفة النهائية لهذا المشروع العملاق بلغت 10 مليارات دولار، مما يعني أن تلسكوب جيمس ويب، الذي استمد اسمه من اسم أحد مديري وكالة "ناسا" في ستينات القرن الماضي، هو أغلى قطعة إلكترونية هندسية، على الإطلاق، في عالم التكنولوجيا.

بدأ العمل على تطوير هذا التلسكوب في العام 1996 وكان مخططا له الإطلاق في العام 2007 وبموازنة مبدئية قدّرت بنحو نصف مليون دولار أميركي، لكن المشروع تعرَّض للعديد من التأجيلات وخضع لعملية إعادة تصميم كبيرة في سنة 2005 مع ما يعني ذلك من زيادة في التكاليف، وانتهى بناؤه في 2016 ليبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة تمثّلت في الاختبارات المكثفة.

بدا لافتا أن مواعيد الإطلاق تأجّلت منذ 2018 مرات عدّة لأسباب مختلفة من بينها جائحة كوفيد19، لينطلق التلسكوب أخيرا إلى الفضاء في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، وزوّد ما يكفي من الوقود ليواصل مهمته 20 عاما.

Unknown: Cosmic Time Machine (2023)

ووفقا لهذا الوثائقي، الذي يرصد مراحل بناء "آلة الزمن الكونية"، فإن إحدى المهام الرئيسة لتلسكوب جيمس ويب تتمثّل في استكشاف العصور المبكرة للكون، ودراسة الكواكب الخارجية الواقعة خارج المجموعة الشمسية بحثا عن كوكب مشابه للأرض، يصلح للحياة، ويُفترض أن يساعد كذلك في فهم تكوين النجوم ودورة حياتها بشكل أفضل، وكلّ ذلك اعتمادا على نظريات علمية معقدة، واستنادا إلى ما تحقّق في مجال علوم الفضاء، حتى اللحظة.

بالمقارنة مع تلسكوب "هابل"، مثلا، الذي أطلقته "ناسا" في 1990 واعتبر، آنذاك، واحدا من أهم التلسكوبات الفضائية، حيث قدم صورا وبيانات ثرية وساهم في توسيع فهمنا للكون وتطوره، فإن تلسكوب جيمس ويب صُمِّم ليكون أكثر حساسية ودقة من "هابل" بـ 100 ضعف.

من المعروف أن تلسكوب "هابل" يقع في مدار حول الأرض على مسافة تقدر بنحو 545 كيلومترا، أما "جيمس ويب" فقد توجه إلى نقطة على بعد مليون ونصف مليون كيلومتر، وبالتحديد إلى نقطة تسمّى في علوم الفضاء، "لاغرانج" الثانية.

بلغت التكلفة النهائية لهذا المشروع العملاق 10 مليارات دولار، مما يعني أن تلسكوب جيمس ويب، الذي استمد اسمه من اسم أحد مديري وكالة "ناسا" في ستينات القرن الماضي، هو أغلى قطعة إلكترونية هندسية على الإطلاق

في 12 يوليو/تموز 2022 كشفت "ناسا" النقاب عن الصور الأولى الملوّنة التي التقطتها "جيمس ويب" وأظهرت تجمّعات مجرّات وسُدم، لتشكل هذه اللقطات بداية العمليات العلمية لهذا التلسكوب، وفي يوليو/تموز الماضي نشر التلسكوب صورا جديدة "مذهلة"، بحسب وصف علماء الفضاء، تُظهر نحو 50 نجمة حديثة الولادة ذات أحجام مماثلة لشمسنا تتيح رؤية أوضح لـ"فترة قصيرة جدا في دورة حياة النجوم".

وكان مدير "ناسا" بيل نيلسون علّق في بيان على الصور أن "تلسكوب جيمس ويب غيّر في عام واحد نظرة البشرية للكون"، مشيرا إلى أن "كل صورة جديدة هي اكتشاف، مما يشجّع العلماء في مختلف أنحاء العالم على طرح أسئلة لم يكونوا ليحلموا بها من قبل، ومن الإجابة عنها".

 

غاغارين ونيل أرمسترونغ

وصول الهند إلى القمر، وإطلاق تلسكوب جيمس ويب يمثلان تتويجا لتاريخ طويل يمتد لأكثر من نصف قرن في ارتياد الفضاء، إذ تسجّل أولى الرحلات إلى الفضاء للاتحاد السوفياتي السابق (روسيا الحالية) الذي أطلق أول مركبة هي "سبوتنيك 1" في 4 أكتوبر/تشرين الأول 1957، وكانت تلك لحظة فارقة في تاريخ البشرية أرّخت لما سيعرف بـ"سباق الفضاء"، والمنافسة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وكشفت أن الحرب الباردة بين المعسكرين لا تقتصر على سباق التسلح النووي والتفوق العسكري والاقتصادي وعلى التجسّس والدعاية والدعاية المضادة، بل أضحى الفضاء ساحة أخرى تتنافس فيها القوتان لتظهر كل منهما تفوقهما في هذا المجال الغامض والطارئ.

وبعد نحو شهر من "سبوتنيك 1"، أطلق الاتحاد السوفياتي المركبة "سبوتنيك 2" أي في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وحملت المركبة، آنذاك، الكلبة "لايكا" التي توفيت بعد بضع ساعات من إطلاقها بسبب ارتفاع درجة حرارة المحيط الذي كانت تعيش فيه داخل المركبة الفضائية، ومع ذلك اعتبرت لايكا، أول كائن حي يُرسل إلى الفضاء.

لكن أول رحلة فضائية بشرية ناجحة كانت "فوستوك 1" السوفياتية في 12 أبريل/نيسان 1961 وحملت أول رائد فضاء هو يوري غاغارين (1934 - 1968) التي فتحت حقبة جديدة تماما في استكشاف الفضاء، تلتها رحلة فالنتينا تيريشكوفا (ولدت في 1937)، على متن "فوستوك 6"  في 16 يونيو/حزيران 1963، لتكون بذلك أول رائدة فضاء.

ولئن كان الاتحاد السوفياتي سبّاقا في ارتياد الفضاء، غير أن الولايات المتحدة سعت بكل ثقلها إلى مجاراة خصومها السوفيات، والسعي إلى التفوق عليهم، إذ وضعت "برنامجا فضائيا طموحا"، وأنشأت وكالة "ناسا" في 1958 وأرسلت، بدورها، مركبات عدة إلى الفضاء، لكنّ الصدى الأكبر كان من نصيب رحلة "أبولو 11"، التي نجحت في نقل نيل أرمسترونغ (1930 - 2012) إلى الفضاء ليكون بذلك أول انسان تطأ قدماه سطح القمر في 20 يوليو/تموز 1969، وإلى الآن تتردّد صدى صيحته التاريخية وهو يخطو على ذلك الجرم المضيء الذي لطالما ألهب الخيال: "إنها خطوة صغيرة للإنسان، ولكنها قفزة عملاقة للبشرية".

 

أوديسة الفضاء

وسواء كان الهدف من ارتياد الفضاء إثبات التفوّق العسكري والسياسي والتكنولوجي بين القوى العظمى، أو لأغراض علمية بحتة، فإن الفنون كانت حاضرة على الدوام تواكب ما يستجد في هذا الصدد، أو تستجلي المجهول بطريقتها الخاصة، وهنا يحضر إلى الذاكرة الكاتب الفرنسي جول فيرن (1828 -1905) الذي يعتبر أحد رواد رواية الخيال العلمي، ومن أشهر أعماله "عشرون ألف فرسخ تحت البحر" و"رحلة إلى مركز الأرض" و"من الأرض إلى القمر" و"حول العالم في ثمانين يوما"، إذ تنبأ من خلال كتاباته بالتقدم التكنولوجي والعلمي، ولا سيما في ما يتعلق بالسفر إلى الفضاء، وثمة أعمال أدبية لا تحصى كتبت على هذا المنوال، عبر تجارب جمالية مختلفة ومتباينة تبحر في سحر الكون وغموضه.

Unknown: Cosmic Time Machine (2023)

وفي السينما، كذلك، ثمة تجارب عديدة، لكن قد يكون فيلم "أوديسة الفضاء 2001"  (2001: A Space Odyssey)‏ للمخرج ستانلي كيوبريك (1928 -1999) من أشهرها على الإطلاق، ذلك أنه صدر في العام 1968 أي تحديدا في تلك الحقبة التي شهدت زخما في رحلات "غزو الفضاء". وبمقاييس تلك المرحلة، فإن هذا الفيلم يعتبر واحدا من أهم أفلام الخيال العلمي في تاريخ السينما، وذلك بفضل تقنياته المبتكرة وتصويره البصري الأخاذ، الذي يقود المتلقي إلى رحلة تحبس الأنفاس في مجاهل الكون.

يتناول الفيلم موضوعات متعدّدة تتعلق بالتطوّر البشري، والذكاء الاصطناعي، واستكشاف الفضاء، بل أن المشاهد التي يرسمها كيوبريك حول الفضاء وتلك المركبات المتخيلة التي تجوب الفراغ والحديث عن ارتياد القمر، بدت استشرافا لما حصل لاحقا فعليا، علاوة أن هذه المشهدية البصرية الباذخة تصاحبها مقاطع موسيقية، وخصوصا لريتشارد شتراوس، منحت الفيلم طابعا ملحميا جسّد فتنة الفضاء وما ترمز إليه من العزلة والصمت والظلام، وأغرت الفنون والعلوم، عبر الأزمنة، بفضيلة الاكتشاف.

font change

مقالات ذات صلة