زلزال المغرب: مأساة تستدعي ذاكرة من الأسى

معظم الزلازل السابقة وقعت في فبراير

AFP
AFP
العثور على صور وسط عمليات الإنقاذ المستمرة في قرية إيمي نتالا بالقرب من أمزميز، في 12 سبتمبر 2023.

زلزال المغرب: مأساة تستدعي ذاكرة من الأسى

لم نكد نتعافى من صدمتيْ الرابعة صباحا وسبع عشرة دقيقة للزلزال ومضاعفاته الذي باغت الشقيقة سوريا وجارتها تركيا في السادس من فبراير/ شباط الماضي مطلع هذه السنة 2023 وكان قياس درجته الحادّة 7،8، حتّى أطْرقَنَا مزاج أحوال الجيولوجيا بضربة أخرى مطبقة على الصّدغين، إثر زلزال الأطلس الكبير في المغرب، وتحديدا إقليم الحوز وما جاوره غربا إقليم شيشاوة وشرقا إقليم ورزازات وجنوبا إقليم تارودانت.

الساعة الحادية عشرة وإحدى عشرة دقيقة بالضبط، اهتزّ مقياس ريختر مسجّلا درجة 6،8 على بعد سبعين كيلومترا جنوب غرب مراكش. هزة بأعنف ما يكون لم تسجّلها سيرة زلازل المغرب منذ 1969 في ما يسمّى بزلزال لشبونة الذي رجّ المغرب في 28 فبراير/ شباط بتوقيت 3:41 وكان مقياس درجته 7،8، وأمّا من حيث الخسائر على نحو تراجيديّ فالأثر المرعب في ذاكرة المغاربة القريبة هو زلزال مدينة أكادير في 29 فبراير/ شباط سنة 1960 وبلغت حدّة الدرجة 5،7 أهلكت في رمشة عين 15 ألف نسمة بعد أن محت المدينة عن بكرة أبيها.

ويلي مدينة أكادير في بلاء الهزّات التكتونية مدينة الحسيمة شمال المغرب التي عصف بها زلزال في 24 فبراير/ شباط سنة 2004 وسجّلَ مقياس ريختر درجة 6,3 مخلفا 862 قتيلا. وأمّا أرشيف الزلازل المغربية فحافلٌ بالرجّات عبر فترات متباينة بالمدمّر منها وفق ما تأرّخَ منذ 1276 بمدينة العرائش مرورا بسنوات تعاقبت على مدينة فاس وجهة مكناس 1522 و1624 و1755 و1773، ثمّ مراكش سنة 1719 وطنجة 1773 و مليلية 1792 و1848، وتطوان 1909 ثمّ الحسيمة 1910 و1927 و1994 و...

أرشيف الزلازل المغربية حافلٌ بالرجّات منذ 1276 بمدينة العرائش مرورا بسنوات تعاقبت على مدينة فاس وجهة مكناس 1522 و1624 و1755 و1773، ثمّ مراكش سنة 1719 وطنجة 1773 و مليلية 1792 و1848، وتطوان 1909 ثمّ الحسيمة 1910 و1927 و1994

لافتٌ هو توقيت حدوث معظم الزلازل هذه في شهر فبراير/ شباط! حدّ اعتباره الشهر الأولمبي للزلازل، غير أنّ الهزّة النجلاء لأطلس الحوز وما جاوره من أقاليم هذه المرّة خالف موعده الشبّاطيّ وآثر شهر سبتمبر/ أيلول أن يتقلّده بقسوة وعنف ماحقين.

استهدف الزلزال بؤرة أطلسية غرز فيها رأس إبرته هي قرية "إيغيل" في عمق تخوم جبال الأطلس الكبير ذي المرتفعات الشاهقة والأودية الغائرة التي تستقطب آلاف السياح من هواة المشي والتسلّق واستكناه طبيعة ريفيّة منسيّة، طاعنة في الصّمت، تعاني قراها ودواويرها وساكنتها أفدح أشكال التهميش، ومن قرية "إيغيل" التي تعني بالأمازيغية الذراع أو الحضن تدرّجت الكارثة خاسفة بالقرى الأرض، القرية تلو الأخرى في الأقاليم الأربعة: الحوز- شيشاوة- تارودانت- ورزازات، محدثة الهلع والذّعر والفزع في معظم مدن المغرب التي استشعرت قوّة الرجّة، فهرع الكلّ إلى العراء لقضاء الليلة اتقاء هزّة ارتدادية وخيمة العواقب.

ليلة بأكملها إلى حدود الحادية عشرة صباحا، طمر التراب والحجر الضحايا والجرحى وما من مسعف غير أبناء هذه الجبال أنفسهم ممّن نجوا من هول الموت المداهم.

AFP
رجل يصلي أمام منزله المدمر جراء الزلزال

ما أن استوعب المغاربة حقيقة المأساة بعدها بساعات حتّى هبّوا إلى إسعاف إخوانهم في هذه الأقاليم المنكوبة، ولا تزال للآن قوافل المساعدات وفرق الإنقاذ تتقاطر من كلّ حدب وصوب، من شتى أصقاع المملكة في تلاحم شعبيّ هائل التفاعل والتجاوب مع الضحايا والجرحى و...

 

في الشعر والرواية

لعلّ أوّل ما يطفو مغربيّا إلى سطح الذاكرة الأدبية عندما يتعلّق الأمر بشراسة الزلازل وأثره المأساوي هي رواية "أكادير" للشاعر والروائي محمد خير الدّين الصادرة بالفرنسية سنة 1967 عن دار النشر سوي، وهي مؤسسة حول الوقائع التراجيدية لمضاعفات الزلزال الذي دكّ مدينة أكادير عن آخرها سنة 1960، وقد نالت هذه الرواية جائزة مرموقة في فرنسا أسسها الكاتب "جان كوكتو" تحت اسم Les enfants terribles.

الرواية المشار إليها وإن كانت باكورة سرد محمد خير الدين بسن الأربعة والعشرين، فقد عدّها الروائي إدمون عمران المالح شهادة ميلاد لشاعر استثنائيّ بالفرنسية وليس روائيّا متفرّدا وحسب. وموجز حكاية "أكادير" حول موظف تبعثه مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى أنقاض هذه المدينة جرّاء انمحائها بسبب الزلزال الكاسح، كي يقوم بإحصائيّات السكان وتقييم وضعية الاختلال ليتفاجأ بعدم وجودها فعلا، إذ هي محض يباب وخراب، وكأنها باتت تنتمي إلى الصحراء والعدم، أكثر مما تنتمي إلى التاريخ. الغريب أن يلفي موظف في مهمة إحصائيّة مسدّسا من نوع M.A.B عيار 7،65 ملمتر و38 رصاصة ضمن الأدوات الموفرة له بعناية في مكتبه المخصّص له إلى جوار آلة كاتبة و...

يأبى السكان الذين نجوا أن يتركوا خرائب المدينة متشبثين بذاكرتهم الخاصة فيها، والطريف أن يهدّده أحدهم بأن يقتله إن لم يدلّه على مكان منزله المنهار، وهو يشتكي فقدان غزالته ذات الجرس الصغير، التي تفقه كلامه وتقضي حاجتها في الحمام كأيّ إنسان وتلعق حليبها ولابدّ أنهم سرقوها منه كي يهدونها إلى الملك... إلخ

 صراخ مولودة في الأنقاض ضدّ التراب، غناء فتى مطمور ضدّ الموت، وزعفران جدّة ما ستضوعّ برائحته حياة ما بعد الزّلزال


لا تني خطيّة الرواية تستقيم في أولى صفحاتها حتّى تتشظّى وتتشذّر وتنشطر كما لو أصاب بنيتها الزلزال نفسه... عمودية تصير آلية الحكي، ثمّ تؤول إلى هذيان مسعور، منفلتة ومهلوسة، تمزج المحاورات المسرحية بالشعرية، ولا تفصح أكثر ممّا تلمح، وإذ تفصح فبلغة عارية صادمة تهوي بمعاولها على السلطة وهرمها، عاصفيّة في غضب يدين الكلّ لا يستثني حتّى الجد والأب والأم والذات، وبذا تشيح الرواية عن روائيتها ميمّمة وجهها شطر كتابة متداعية وصاخبة وعنيفة، أشبه ما تكون ببيان سرديّ ملغوم.

يحفل نص "أكادير" بالحيوانات حدّ يتحوّل إلى كوميديا حيوانية تتطابق مع محفل الشخصيات الإنسانية في لعبة المحكي، فمن جهة الحيوانات قرائن للشخوص، ومن جهة هي نفسها شخصيات روائية، وكلاهما يغذيّان المنحى السريالي، الفانتازي للرواية وإن بشكل نسبيّ.

AFP
أنقاض المنازل المدمرة في قرية إيمي نتالا بالقرب من أمزميز

كذا يتعزّز متن الكتابة المغربية عن الزلزال لكن شعريّا هذه المرّة بديوان لاذع عنوانه اللافت: "أبدا لن أساعد الزلزال" للشاعر الرّاحل أحمد بركات، الصادر سنة 1991 ويضمّ قصيدة لاسعة بالعنوان نفسه، مطلعها:

حذرٌ، كأني أحمل في كفي الوردة التي توبّخ العالم

الأشياء الأكثر فداحة:

قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة

والأسطح القليلة المتبقية من خراب البارحة

حذرٌ، أخطو كأنّي ذاهب على خطّ نزاع

وكأن معي رسائل الجنود

وراية جديدة لمعسكر جديد

بينما الثواني التي تأتي من الوراء تقصف العمر

هكذا

بكثافة الرماد

معدن الحروب الأولى

تصوغ الثواني صحراءها الحقيقية

 

ثلاثة مشاهد

عوْدا من أقصى التخييل الروائي والشعري إلى واقع الزلزال، صعقتني ثلاثة مشاهد لطّفتْ من فجائعية المأساة وحدّة الألم المبرح:

الأوّل، لطفلة لفظها بطن أمّها من فرط الرّعب تحت الأنقاض وقد انتشلت بمشيمتها حيّة لا تزال تستقبل الوجود بأجلّ الصراخ الذي لم يطمره التراب، في الوقت الذي توفّت فيه أمّها.

AFP
آثار الزلزال المدمّر في أحد الأحياء القديمة في مدينة مراكش

الثّاني، لفتى مغمور بالأنقاض وهو يغنّي قيد غيبوبته بالأمازيغية، غناءٌ وإن كان هذيانيّا فكأنّما يرفع به شارة نصر على هول الموت.

الثالث، لعجوز تدلّ شابّا مسعفا على ملامح بيتها المهدّم، وقد فقدت أسرتها بالكامل وكان ختام خطابها الممتن للشاب: دلّني على عنوانك بأي مدينة حتى أرسل لك قصفة زعفران!

صراخ مولودة في الأنقاض ضدّ التراب، غناء فتى مطمور ضدّ الموت، وزعفران جدّة ما ستضوعّ برائحته حياة ما بعد الزّلزال.

font change

مقالات ذات صلة