طبيبات سوريات إلى طاولة تشريح الموتى

شجاعة شخصية وسط الصور النمطية والأحكام المسبقة

Shutterstock
Shutterstock

طبيبات سوريات إلى طاولة تشريح الموتى

اللاذقية – سوريا: "هذه عظام إنسان لا حيوان. قتل الرجل بطلق ناري على مسافة ثلاثة أقدام وكان القاتل أطول من الضحية. طفلٌ توفى نتيجة تعرّضه للضرب بعد أن زعمت أسرته أنه سقط سهوا عن السلالم. ما الوقت الذي انقضى على هضم الضحية للطعام؟"، هذه جميعها مشاهد يومية معيشة في حياة طبيبات شرعيّات في سوريا اتسمن بالشجاعة والكفاءة المهنية، اعتدن تشريح أعمق طبقات الموت في ظروف اجتماعية واقتصادية غير نموذجية.

باستثناء بطاقة التعريف الخاصة بنقابة الأطباء الممهورة باسمها، لن تخمّن أبدا أن تلك الملامح الناعمة، والجسد النحيل المختبئ في كيلوغرامات قليلة تعود إلى طبيبة تشريح تقابل الأموات في حياتها أكثر مما تقابل الأحياء، فالمظهر هنا مخادع للغاية على نحو يجعلك لا تراهن على سيمياء الوجوه. فعلى خلاف قريناتها اختبرت الطبيبة منال جدع (52 عاما) في عمر مبكر تفكيك طبقات الجسد في اشتباك مباغت مع الجثث داخل جدران كلية الطب في بلغاريا، لتنتقل بعد سنوات إلى سوريا لدراسة اختصاص الطب الشرعي، تقول لـ "المجلة": "درست الطب العام في جامعة صوفيا، كان أول احتكاك لي مع جثة إنسان في السنة الجامعية الأولى، إذ يفرض النظام التعليمي هناك التطبيق العملي في مادة التشريح برفقة الأستاذ المشرف، على عكس الجامعات السورية التي يجب عليك انتظار سنوات لدخول الاختصاص".

شكّلت الجثث الهامدة منذ اللحظة الأولى نهما معرفيا لاستقراء الحقيقة دون أي فزع، تضيف: "لطالما شعرت بالألفة مع الجثث، كما لم أخف منها أبدا حتى في لقائي الأول معها، على العكس شكلت لي تحديا صعبا لإشباع نزعتي الفضولية واستنباط الحقيقة وسعيا مستمرا للمعرفة الطبية والحصول على الإجابات الوافية".

عدد الإناث في الطب البشري الشرعي هو 3 طبيبات فقط يقمن بفعل التشريح، بينما هناك 12 طبيبة أسنان شرعي مقابل 37 من الأطباء الذكور

الطبيب زاهر حجّو

تستذكر الطبيبة حادثة كانت على وشك عدم الاكتشاف، تضيف: "انتابني الشك حيال حالة وفاة لطفل لا يتجاوز الست سنوات، زعم والداه أنه وقع عن السلالم، لكن بعد فحصي الدقيق وخبرتي الواسعة وحدسي المهني تبين أنه تعرض للاضطهاد والضرب على رأسه أولا، ثم دفع بقوة لإبعاد الشبهات، مما أدى إلى وفاته".

 

لقاء مع جثّة

في عمر السابعة والعشرين، حدث اللقاء الأول بين الطبيبة رؤى صارم والجثة، لم يكن لقاء مخيفا بقدر ما كان فضوليا، إذ أثارت مادة التشريح فضولها، حين كانت طالبة على مقاعد الدراسة في جامعة تشرين بمدينة اللاذقية تنهل باندهاش من علم أستاذها الذي أثنى على توازنها العقلي وقدرتها على النظرة الفاحصة الصائبة ونزوعها إلى التحليل العميق، لتنال أعلى درجة علمية بين زملائها وزميلاتها، مما دفعها إلى دخول هذا الاختصاص النادر، تقول صارم (51 عاما) للمجلة: "زاد من إصراري على اختيار هذا المجال انعدام الرغبة العامة بالعمل فيه، وشعوري بضرورة إحيائه ونفخ الروح فيه، فالتشريح فعل في غاية الدقة يستدعي الملاحظة والصبر".

 

أدوار جندرية

يشهد الطب الشرعي في سوريا نقصا مستفحلا في أعداد النساء اللواتي لا يتجاوز عددهن أصابع اليد الواحدة، على الرغم من قدراتهن التشريحية العظيمة والتشخيص الدقيق. هذا التمثيل الضئيل للمكوّن الأنثوي يفتح باب التساؤلات حول مستقبل هذه المهنة، وقدرتها على استقطاب جيل جديد، لا سيما في ظل عزوف طلاب الطب عن الالتحاق بفرع "طب الأموات" حسبما يصفه البعض.

على الرغم من عدم شيوع التمييز الجندري في المهن الطبية في سوريا، هناك فجوة جندرية في تمثيل نسبة الطبيبات الشرعيّات، يقول المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور زاهر حجو لـ"المجلة" إن عدد الإناث في الطب البشري الشرعي هو 3 طبيبات فقط يقمن بفعل التشريح، بينما هناك 12 طبيبة أسنان شرعي مقابل 37 من الأطباء الذكور، بعدما كان العدد قبل اندلاع الحرب قرابة 200 طبيب وطبيبة، وذلك بسبب هجرة الكوادر الطبية بحثا عن فرص عمل أفضل، بالإضافة إلى الأجور المتدنية، مما يفسّر عدم انخراط الجيل الجديد في هذا الاختصاص".

Shutterstock

وعلى الرغم من ضآلة عدد الإناث، فقد استطعن تبوّؤ مناصب قيادية في الوسط الطبي، إذ تترأس جدع هيئة الطب الشرعي في محافظة اللاذقية. توضح أسباب عزوف الكثيرات عن ارتياد اختصاص التشريح وقلة أعداد الإناث: "التشريح عمل شاق جدا يتطلب جهدا عضليا وفكريا واستعدادا نفسيا لمشاهدة أبشع المناظر البشرية ولقاء أكثر الحالات الإنسانية إيلاما، لذلك لا تستهوي هذه المهنة النساء، إضافة إلى المردود المادي الشحيح الذي لا ينصف جهدنا، فأجرة الكشف عن الجثة 250 ليرة سورية، كما نتكبّد نفقات التنقلات الميدانية على حسابنا الشخصي".

 

تحدّيات

لم يكن اختيار الطب الشرعي في العشرينات من عمرها، قرارا صعبا بالنسبة إلى رؤى صارم التي تتمتّع بشخصية قوية في كنف أسرة منحتها الثقة والحرية في اتخاذ القرارات وتحمّل المسؤولية، لكنّ هذا لم يعفها من مواجهة صعوبات جمّة تتعلّق بإثبات الذات الأنثوية في ميدان تحكمه العقلية الذكورية المهيمنة وثقافة الانحياز الى الأحكام التي يطلقها الرجل. تقول: "في بداية رحلة عملي واجهت نظرات تشكيك في كفاءتي، لا سيما أن الفكرة النمطية عن النساء أنهن انفعاليات وعاطفيات، وقد كافحت لتغيير النظرة النمطية الجمعية عبر التسلح بالحجج والبراهين العلمية".

من جهة أخرى، لا تنكر الطبيبة محاولات بعضهم في مدينتها اللاذقية الضغط عليها من أجل تغيير مسار التقرير الشرعي، تقول: "يعرض عليّ بعضهم الرشى لتحوير معلومات الضرر الجسدي، كما يلجأ البعض إلى الوساطات وأساليب الضغط، لكني أنحاز إلى ضميري العلمي وأزداد إصرارا عندما أعلم أن جَرَّة قلم مني قادرة على تحرير بريء من الشنق".

 تربطني علاقة إنسانية خاصة مع الأموات، أحنو عليهم، أقلب أجسادهم برفق وكأنهم نيام دون إزعاجهم، أحسبهم أحياء وأخشى عليهم الشعور بالألم

الطبيبة رؤى صارم

تمكنت جدع من قلب الموازين لتتحوّل إلى مرجعية في مهنتها، تقول: "حظيت بثقة الجميع خلال وقت قياسي، تمكنت من إزاحة صورة الطبيبة التقليدية، واستبدالها بالقيادية الواسعة الاطلاع، الى درجة أنه يُستعان بي في الحالات الصعبة انطلاقا من الثقة الكبيرة بي".

 

استنطاق الجثث

ثمة بعد عاطفي ملموس لعلاقة رؤى صارم مع الأموات، إذ تحمل تجاههم مشاعر مكثفة من العطف والحب والشفقة تكاد تفوق علاقتها مع الأحياء، تقول: "تربطني علاقة إنسانية خاصة مع الأموات، أحنو عليهم، أقلب أجسادهم برفق وكأنهم نيام دون إزعاجهم، أحسبهم أحياء وأخشى عليهم الشعور بالألم". عند دخول المشرحة تتعرّى صارم من مشاعر الخوف والتقزّز من روائح الدماء والبقايا المبتورة، يصبح هاجسها الوحيد استخلاص الحقيقة من أجساد الجثث لتحاول استنطاقهم بما جرى لهم، تقول: "أنظر إلى الجثة كأنها تناديني وتستنجد بي لأعرف سبب وفاتها، لا وقت لديّ  للتوتر والخوف، أتعاطف معها وأتحدث إليها كثيرا عندما تنتابني الحيرة، أسألها ماذا حدث، أفكر فيها لأيام متواصلة وأحيانا تزورني في المنام، أشعر أنني مخلصها الوحيد".

تتعاطف صارم مع جميع الحالات الإنسانية، لكن ثمة خصوصية لبعض منها حين تجمعها صلة قربى أو علاقة صداقة مع الجثة، حينها فقط  يصير الشعور موغلا في الألم ويصبح عملها مفرطا في القسوة، تقول: "عند وقوع الزلزال في 6 فبراير/شباط الماضي في مدينة اللاذقية توافدت عشرات الوفيات، من بينها لصديق لي، صُدمت لخسارته، كان تمرير المشرط على جسده بمثابة انتهاك معلن لصداقتنا، شعرت بخجله أمامي وهو عار وكأنه يخفي وجهه بيديه أو يشيح بنظره عني حياء".

 

شبح الوصم

تصف صارم نظرة المحيطين بها إلى عملها بـ"غير المريحة والمقززة"، بينما تثني أسرتها وأصدقاؤها المقرّبون على عملها ويصفونه بالبطولي، تعلق قائلة: "في المقابل، تتناقص هذه النظرة الإيجابية مع بعض المعارف والجيران، أشعر أنهم ينظرون لي وكأنني كائن مسرف بالقسوة وكأنهم يعتبرونني جزّارة أو أنافس مهنة القصابة".

لطالما شعرت بالألفة مع الجثث، كما لم أخف منها أبدا حتى في لقائي الأول معها، على العكس شكلت لي تحديا صعبا لإشباع نزعتي الفضولية واستنباط الحقيقة

الطبيبة منال جدع

يتأثر المظهر الخارجي بالأحكام المسبقة، إذ تحاك الصورة النمطية حول الطبيبات الشرعيات وفق قوالب تتعلّق بالشكل أو التحامل على شخصهن، استنادا الى طبيعة عملهن فقط، مما يستدعي ضرورة إعادة إنتاج الصورة التقليدية المتهالكة، تقول جدع  ضاحكة: "النظرة النمطية تطال مظهرنا أيضا، فالصورة الشائعة عنا كطبيبات شرعيات أننا نمتلك أجسادا ضخمة جدا، ولنا أصوات خشنة، ومعاملتنا تخلو من الرحمة، لكن هذا غير صحيح أبدا، بل على العكس، فحجمي ضئيل ويداي ناعمتان جدا".

 

مقابر جماعية

شكّل اكتشاف المقابر الجماعية خلال سنوات الحرب تحديا هائلا لقدرات الأطباء الشرعيين على تحديد هوية الجثث، وذلك للأعداد الكبيرة للضحايا والمفقودين وتنوع أساليب القتل والتعذيب. يشير المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور زاهر حجو إلى ارتفاع نسبة  التعامل مع حالات الوفيات إلى 27% عند اندلاع الحرب، فيما كانت قبلها لا تتجاوز 10% مقابل 90% من الأحياء، التي تشمل حالات اعتداء أو مشاجرات وأخطاء طبية واختبارات الأبوة وحوادث السير وإصابات العمل والاعتداءات الجنسية، إذ  يتمثل دور الأطباء الشرعيين في تحديد حجم الإصابة وتوقيت حصولها، وتحديد أعمار الوفيات، لافتا إلى أن  التشريح يتم في حالة الوفيات الجنائية وأسباب الموت الغامضة.

font change

مقالات ذات صلة