الاتحاد الاقتصادي الأوراسي أمام خيارات بوتين

هيمنة روسيا على الاتحاد قد تغرقه في عواقب الحرب الأوكرانية

Alex William
Alex William

الاتحاد الاقتصادي الأوراسي أمام خيارات بوتين

"أنشأنا اليوم مركزاً قوياً وجذاباً للتنمية الاقتصادية، وسوقاً إقليمية كبيرة توحّد أكثر من 170 مليون نسمة". بهذه الكلمات، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإطلاق الرسمي للاتحاد الاقتصادي الأوراسي في 29 مايو/أيار 2014، الذي يحتفى عما قريب بذكرى مرور عشر سنوات على تأسيسه، هذه الكتلة الاقتصادية، التي تستلهم أنموذج الاتحاد الأوروبي على نحو واسع. لكن كيف أثّر الغزو الروسي لأوكرانيا على هذا الحلف والدول المنتسبة إليه؟

ما هو الاتحاد الاقتصادي الأوراسي؟

يتمثل الهدف الرسمي للاتحاد الاقتصادي الأوراسي بإنشاء سوق مشتركة للدول الأعضاء فيه، التي تضم حالياً الاتحاد الروسي، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وأرمينيا. وكما هي حال الاتحاد الأوروبي إلى حدّ كبير، فإن النهج المتبع في هذه الكتلة هو تنسيق الأنظمة القانونية وإزالة الحواجز التجارية غير الجمركية. ويندرج تحت الاتحاد أيضا مؤسسات شبيهة بالاتحاد الأوروبي، مثل اللجنة الاقتصادية الأوراسية ومحكمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

AFP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يترأس اجتماع المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى في الكرملين بموسكو في 25 مايو/ أيار 2023

غير أن أوجه التشابه مع الاتحاد الأوروبي ربما تنتهي هنا، إذ لم يتمكن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي من تحقيق المستوى نفسه من التكامل حتى الآن. فلا تزال روسيا تحتفظ بهيمنة عليا، وتستخدم الدول الأعضاء الأخرى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لتسهيل التجارة مع "الأخ الأكبر"بدلاً من السعي للتكامل عبر الكتلة.

الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لم يكن إلا الخطوة الأخيرة في مسار بدأته روسيا قبل عدة أعوام، وبدت بعيدة جداً عن كونها اقتصادية صرفاً

عندما أنشئ الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، جرت محاولات لتهميش الجانب السياسي من العملية. وقال باكيتزان ساغينتاييف، النائب الأول لرئيس وزراء كازاخستان، في ذلك الوقت: "نحن لا ننشئ منظمة سياسية؛ وإنما نشكل اتحاداً اقتصادياً صرفاً". لكن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لم يكن إلا الخطوة الأخيرة في مسار بدأته روسيا قبل عدة أعوام، وبدت بعيدة جداً عن كونها اقتصادية صرفاً.

في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سعى فلاديمير بوتين إلى دور أكثر هيمنة في المنطقة، وشكل الاتحاد الجمركي، الذي ظهر رسمياً في عام 2010 وضمّ روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان بوصفها أعضاء مؤسسين. كانت العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق، مثل أوكرانيا وجورجيا وأرمينيا، تتفاوض في ذلك الوقت مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقات الانضمام إليه، فيما كانت رغبة بوتين أن تنظر هذه الدول إلى كتلته الإقليمية على أنها أولويتها القصوى. وفي عام 2013، قال: "إذا انضمت أوكرانيا إلى الاتحاد الجمركي على سبيل الافتراض، وتمكنا بعد ذلك من تنسيق جهودنا المشتركة، والتفاوض مع الأوروبيين، فستتاح لنا فرص أكبر للحصول على صفقة أفضل في ما يتعلق بالشروط التجارية مع شركائنا الرئيسيين في أوروبا."

حاولت أوكرانيا لفترة من الوقت أن تحقق التوازن في سيرها على هذا الحبل السياسي المشدود. وبدا رئيسها السابق فيكتور يانوكوفيتش مؤيّداً لروسيا على العموم، لكنه قال عام 2013 إن حكومته ستبذل قصارى جهدها لتلبية الشروط المسبقة للاتحاد الأوروبي للتوقيع على اتفاق الانضمام. وقال أيضاً إن أوكرانيا "ستجد النموذج الملائم" للعمل مع الاتحاد الجمركي. ولكن في فبراير/شباط 2013، أوضح رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو أنه "ليس في وسع أي دولة أن تكون عضوا في اتحاد جمركي وفي منطقة تجارة حرة عميقة ومشتركة مع الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه".

وفي محاولة لإغرائها للابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، عرضت روسيا على أوكرانيا في وقت لاحق من ذلك العام قرضاً بقيمة 15 مليار دولار كمساعدات مالية وخصماً بنسبة 33 في المئة على أسعار الغاز الطبيعي.

فشل يانوكوفيتش في تحقيق التوازن وأوقف التوقيع على اتفاق الشراكة، وهو ما أدى في النهاية إلى الإطاحة به في مطلع عام 2014 بعد احتجاجات الميدان الأوروبي في كييف على إثر موقفه. ووقعت أزمة القرم في أعقاب هذا التطوّر السياسي مباشرة، وتلقى المقاتلون الانفصاليون في إقليم دونباس بأوكرانيا الدعم في هيئة "رجال خُضر صغار" – أي جنود بدا أنهم قدموا من الجيش الروسي. ورأى كثيرون في أوكرانيا أن ذلك بمثابة عقاب سياسي لعدم الانضمام إلى ما كان مجرد اتحاد اقتصادي في الظاهر.

تميزت أرمينيا بسلوكها اتجاهاً مختلفاً. بعد أربع سنوات من التفاوض على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فاجأ الرئيس سيرج سركيسيان شعبه في سبتمبر/أيلول 2013 بإعلانه أن أرمينيا ستنضم بدلاً من ذلك إلى الاتحاد الجمركي، الذي سرعان ما أعيدت هيكلته ليصبح الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. واعترف سركسيان لاحقاً بأن قراره خدم مصالح أرمينيا، من منظور أمني في الدرجة الأولى. وليس سراً أن أرمينيا كانت تعتمد بشدّة على روسيا، ولا تزال، لتأمين حدودها. وفي اجتماع مع ممثّلي الجالية الأرمنية في براغ في وقت لاحق من سنة 2013، قال سركسيان إنه لم يكن في وسعه التشاور مع الجميع "بين عشية وضحاها" بشأن هذا القرار. يوحي ذلك بأنه أجبر على دخول كيان من الواضح أنه ليس مجرد تكتّل اقتصادي.

ماذا يحدث عندما يذهب الأخ الأكبر إلى الحرب؟

في فبراير/شباط 2022، شنّت روسيا حرباً واسعة النطاق على أوكرانيا. استجاب المجتمع الدولي بسرعة لتلك التطورات، وكان من المحتم أن يكون لعواقب هذه المغامرة العسكرية الفاشلة على روسيا تأثير على الاتحاد الاقتصادي الذي تقوده أيضاً. 

كانت النتيجة الأولى والأكثر بديهية للحرب فرض عقوبات على روسيا. وعندما عزلت الشركات الروسية عن نظام التحويل المصرفي الدولي الـ"سويفت"، بات يتعيّن على كيانات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي إيجاد طرق أخرى للتجارة مع نظيراتها في روسيا.كذلك، جرى تدفّق كبير لرؤوس الأموال إلى خارج روسيا، إذ غادرت الشركات الدولية وعشرات الآلاف من المهنيين الماهرين البلاد بحثاً عن فرص أفضل. واختار بعض هذه الشركات والأفراد دولاً أخرى في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، مثل كازاخستان وأرمينيا، حيث يسهل عليهم الاندماج هناك، سواء لجهة العمل بصورة قانونية أو لجهة التشابه اللغوي الثقافي.

هل اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين، الذي يمر عبر ميناء نوفوروسيسك الروسي، طريق مستدام لتصدير النفط الكازاخستاني إلى أوروبا؟  

تأثر الاقتصاد الروسي بالحرب وبالتالي، سيكون لذلك آثار مضاعفة داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. وبدا انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 2,1 في المئة عام 2022 بمثابة إنذار مبكّر، إلا أن ذلك أعقبه نمو بنسبة 4,9 في المئة في الربع الثاني من عام 2023.

AFP
رئيس وزراء أرمينيا بالوكالة نيكول باشينيان، ورئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف، والرئيس القرغيزي سورونباي جينبيكوف

وصرّح بوتين في يوليو/تموز 2023، أن الناتج المحلي الإجمالي يحقق نموا ربعيا بنسبة 0,5 - 0,7 في المئة، وبهذا المعدّل، سيمكن التغلب على انكماش 2022 بالكامل في نهاية عام 2023. في غضون ذلك، فقد الروبل الروسي الكثير من مكانته.

فقد كان سعر الدولار الأميركي نحو 75 روبلا في أوائل فبراير/شباط  2022، أي قبل الحرب، إلا أنه ارتفع إلى ما يزيد على 100 روبل في أوائل مارس/آذار. وطرأت فترة انتعاش في النصف الثاني من عام 2022 وأوائل عام 2023، إلا أن سعر الصرف بقي عند نحو 96 روبلا للدولار، في سبتمبر/أيلول 2023.

وأثارت حالة عدم اليقين التي رافقت هذه الحرب تساؤلات محددة لدى بعض أعضاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. ففي مقال نُشر في مجلة "راشن أنالتيكل دايجست"، نظر الخبراء في حالة كازاخستان وتساءلوا: "هل اتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين، الذي يمر عبر ميناء نوفوروسيسك الروسي، طريق مستدام لتصدير النفط الكازاخستاني إلى أوروبا؟  هل ستتمكّن روسيا من ضمان الصيانة الفنية لاتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين؟ هل يمكنها استخدام ذريعة المشكلات التقنية لإيقافه (كما فعلت مع خط أنابيبها نورد ستريم 1)"؟

كذلك، لدى أرمينيا شكوك بشأن استمرار فوائد الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في أعقاب الحرب، كما يقول إريك دافتيان في مقال آخر لمجلة " راشن أنالتيكل دايجست". على حدّ تعبيره " ستؤثّر المواجهة الاقتصادية أيضاً على التجارة الخارجية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومن ثم على عائدات أرمينيا من رسوم الاستيراد.

وتتلقى أرمينيا نحو 1 في المئة من الرسوم الإجمالية على واردات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وذلك يشكّل مصدراً مهماً للدخل بالنظر إلى صغر حجم اقتصادها. ففي السنوات الخمس المنصرمة، توجّهت أكثر من 82 في المئة من واردات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي إلى روسيا، وذلك يعني أن الغالبية العظمى من الرسوم على واردات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي كانت تنشأ دائماً من تجارة روسيا مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. وفي الفترة نفسها، تراوحت الواردات الروسية بين 91 و110 مليارات دولار، وعلى الرغم من الانخفاض المطرد، بقيت حصة هذين الموردين مجتمعين يشكلان 40 في المئة مما كانت عليه في سنة 2021. ستتسبب الحرب الروسية الأوكرانية حتماً في انخفاض هذا الحجم التجاري، وسيؤدي ذلك بدوره إلى خفض قيمة رسوم الاستيراد التي يحصل عليها أعضاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بما في ذلك أرمينيا". 

أكثر مساواة من البقية

تزداد حالة عدم اليقين بشأن التأثير الذي قد تحدثه الحرب الروسية في أوكرانيا على الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تعقيدا نظرا لتفاوت القوى في الاتحاد. في المنتدى الاقتصادي الأوراسي في صيف 2023، كان رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف صريحاً في كلامه. ففي الجلسة العامة، التي شارك فيها إلى جانب فلاديمير بوتين وزعماء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الآخرين، ذكر كيف أصبحت روسيا وبيلاروسيا أكثر تكاملاً، بما في ذلك على المستويين السياسي والعسكري، وشكّلا "كياناً يعتمد على صيغة دولتان – أمة واحدة، وفضاء سياسياً وقانونياً وعسكرياً واقتصادياً ونقدياً وثقافياً وإنسانياً واحداً. إنها حكومة اتحادية واحدة، وبرلمان اتحادي واحد... بل إن أسلحتهما النووية أصبحت الآن ملكاً لكليهما". لكنه أوضح أن تلك ليست سمة إيجابية للاتحاد الاقتصادي الأوراسي.

وأضاف، "من جهة أخرى، هناك مستوى مختلف من التكامل، تمثّله كازاخستان وقيرغيزستان وأرمينيا، وعلينا أخذ هذا الواقع في الحسبان. كيف سنعمل في هذه الظروف؟ هذه مسألة جوهرية. أعتقد أن علينا مناقشتها".

تعهّدت كازاخستان وأرمينيا لشركائهما الغربيين بعدم السماح لروسيا بتجاوز العقوبات من خلال اقتصاديهما. وفي مقال مثير للعواطف في صحيفة "ذا ديبلومات"، بدا أن مديرة التحرير كاثرين بوتز تطرح السؤال الذي يدور في أذهان الجميع: "إذا كان الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، كما اقترح بعض المحللين على مر السنين، هو الخطوة الافتتاحية في مشروع سوفياتي جديد في ذهن بوتين، فإن الظروف الحالية تظهر حدود هذا المشروع. فهل يتمكن الاتحاد من النجاة من خيارات بوتين؟ الزمن وحده سيكشف ذلك".

font change

مقالات ذات صلة