أين أصبحت مصر؟

السادات أطلق التحوُّل

إدواردو رامون
إدواردو رامون

أين أصبحت مصر؟

لم يكن أي ممن عملوا على مدى عقود لتأسيس إسرائيل، ونجحوا في ذلك عام 1948، يتصور أن مشروعهم الذي بدأ صغيرا في منطقة رافضة له ومعادية سيصبح إحدى أكثر دولها قوة ونفوذا وتأثيرا؛ فقبل أن تكمل إسرائيل عامها العشرين كانت قد تمددت في أراضي ثلاث دول عربية في حرب 1967. وتحول ميزان القوة الشاملة لمصلحتها منذ ذلك الوقت، بفعل نجاح نخبتها السياسية في تحقيق ما خُطط له، والدعم القوي الذي تلقته من دول غربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة اعتبارا من منتصف ستينات القرن الماضي؛ فضلا عن الأخطاء التي ارتكبتها نظم عربية عدة مجاورة لإسرائيل.

وبقي هذا الوضع مستمرا باستثناء لحظة فريدة تمكنت فيها مصر بدعم عربي كامل من شحذ إمكاناتها التي أُهدر معظمها قبل ذلك، وإعادة بناء جيشها على أسس صحيحة، بعد أن قبلت التحدي، وخاضت- ومعها سوريا- حربا تحقَّق فيها النصر العسكري العربي الوحيد في تاريخ هذا الصراع، بغض النظر عن الخلافات التي ظهرت بعد ذلك، وما زالت حاضرة، بشأن السياسات التي اتُبعت بعد الحرب، وإلى أي مدى نجحت في استثمار نتائجها سياسيا.

وأيا تكن هذه الخلافات، سيبقى نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973 مصدر إلهام ليس في مجال المعارك العسكرية فقط، ولكن على صعيد ما يمكن أن يصنعه حُسن التخطيط والتدبير، وأثر التضامن العربي الذي بلغ ذروة غير مسبوقة قبلها أو بعدها، عندما قرر العاهل السعودي الراحل الملك فيصل فرض حظر شامل على شحنات النفط إلى أميركا.

إدواردو رامون

ولا تعود فرادة حرب أكتوبر/تشرين الأول في تاريخ الصراع إلى النصر المصري- السوري فيها فقط، بل إلى التحول الذي فتحت الطريق أمامه من صراع دموي أخذت صفحاته تُطوى واحدة وراء الأخرى، إلى سلام بُدئ في صنعه بعد أربع سنوات فقط من نشوبها، وشُرع في التمهيد له بعد ثلاثة أشهر فحسب من سكوت مدافعها في 28 أكتوبر/تشرين الأول، عندما عُقد اتفاق الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية منتصف يناير/كانون الثاني 1974، ومثله على الجبهة السورية في مايو/أيار. وأعقب هذين الاتفاقين العسكريين ثالث بين مصر وإسرائيل عُقد في أول سبتمبر/أيلول 1975 بعد مفاوضات عسيرة، وبُذرت فيه البذرة الأولى للتحول نحو السلام، إذ نصت مادته الأولى على أن حكومتي الدولتين اتفقتا على (أن النزاع بينهما وفي الشرق الأوسط لا يُحل بالقوة المسلحة بل بالوسائل السلمية)، وأن الطرفين (يعتزمان التوصل لتسوية سلمية نهائية وعادلة عن طريق المفاوضات). كما تعهدت الحكومتان في المادة الثانية (بعدم استخدام أي منهما القوة أو التهديد بها أو الحصار العسكري ضد الأخرى). ولا يخلو من مغزى، في هذا السياق، اعتماد مصطلح النزاع (Dispute) بدلا من الصراع (Conflict) الذي هيمن على القسم الأعظم من الخطاب السياسي العربي منذ 1948.

فرادةُ مزدوجة

ولهذا، فمثلما بدت حرب أكتوبر فريدة في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي على المستوى العسكري والنتيجة التي أسفرت عنها، كانت تلك الحرب نفسها فريدة أيضا على المستوى السياسي من حيث سرعة التحول بعدها باتجاه البحث عن سلام كان صعبا، ولا زال، رغم التطور الذي حدث باتجاهه بعد 50 عاما.

مثلما بدت حرب أكتوبر فريدة في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي على المستوى العسكري والنتيجة التي أسفرت عنها، كانت تلك الحرب نفسها فريدة أيضا على المستوى السياسي من حيث سرعة التحول بعدها باتجاه البحث عن سلام كان صعبا، ولا زال، رغم التطور الذي حدث باتجاهه بعد 50 عاما.

بدأت حكومة الرئيس الراحل أنور السادات ذلك التحول مع حكومة مناحم بيغن في إسرائيل، وبمشاركة فلسطينية مترددة وخجولة لم تستمر، في ظل ترقب عربي تحول إلى رفض في الأغلب الأعم. وإذ لم تثمر محاولات وقف التحول، قبيل وبعد توقيع المعاهدة العربية- الإسرائيلية في مارس/آذار 1979، اتجهت القيادة الفلسطينية إلى الانخراط فيه بقرار منفرد بعد عشرين عاما، عندما قبلت إجراء مفاوضات أوسلو مع حكومة إسحق رابين تحت رعاية نرويجية أسفرت عن إعلان مبادئ الحكم الذاتي في منتصف سبتمبر/أيلول 1993. وبعد أن فتحت حرب 1973 الباب أمام التحول من الصراع العسكري إلى البحث عن السلام، أشرع اتفاق أوسلو الطريق أمام توسيع نطاق السلام الذي وُصف في حينه بأنه منفرد بين مصر وإسرائيل.
ولا يصح أن يخلو حديث الفرادة هذا من استذكار التحول السريع جدا في السياسة الأميركية من الدعم الكامل لإسرائيل إلى الوساطة من أجل السلام الذي فتحت حرب أكتوبر/تشرين الأول الأبواب أمامه.


من إنقاذ إسرائيل للضغط عليها


لم يكن ممكنا أن يُضيّع وزير خارجية الولايات المتحدة حينذاك هنري كيسنجر المعروف بفطنته ودهائه الفرصة التي خلقتها حرب أكتوبر. ولكن الإمساك بتلك الفرصة تطلب أن يتحول هو أولا من مُنقذ لإسرائيل في بداية الحرب إلى وسيط نجح في إبرام الاتفاقات التمهيدية الأولى في مرحلة الاتجاه نحو السلام عامي 1974 و1975.
وليــس من المبالغــــــــة القـــــول إن كيسنجر هــــــو الذي سعى إلى إنقاذ إســــــرائيل حين دهمتها مفاجأة الهجــــــوم المصري والســــــوري. كان يومها في نيــــــــــويورك يحضـــــــــر الاجتمـــــاع الســـــنوي العــــــادي للجمعيــــــة الـــــعامــة للأمم المتحدة. وكانت الساعة السابعة صباحا بتوقيت نيويورك عندما تلقى نبأ نشوب الحرب على دفعتين؛ أُبلغه مساعده جوزيف سيسكو، أولا، رسالة عاجلة جدا من رئيسة وزراء إسرائيل حينها غولدا مائير أفادت بأن مصر وسوريا رتبتا لشن هجوم عسكري وشيك قبل آخر ضوء في اليوم نفسه.
ولم تمض فترة قصيرة حتى أُذيع نبأ هذا الهجوم في وقت أسرع مما توقعته مائير وأبلغته إياه. وسرعان ما تحرك كيسنجر، الذي صار الرجل القوى في واشنطن منذ أن انغمس الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في تداعيات التجسس على مقر منافسيه في الحزب الديمقراطي في "ووترغيت"، وأُخضع لتحقيق قضائي. كان عليه أن يتصرف بسرعة بعد إبلاغ الرئيس نيسكون، ويُنسق مع القادة العسكريين في واشنطن لإعداد جسر جوي لإمداد إسرائيل بالأسلحة والمعدات سعيا إلى قلب التفوق العسكري المصري الذي كان واضحا في أيام الحرب الأولى، حيث خسرت إسرائيل مئات الدبابات وعشرات الطائرات. وبدأ هذا الجسر بصواريخ مضادة للدبابات وذخيرة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، ثم أسلحة أخرى في الأيام التالية. وكان لتصرف كيسنجر السريع ذاك أثر ملموس في إنقاذ إسرائيل من خسارة أكبر.

ليــس من المبالغة القـول إن كيسنجر هــــــو الذي سعى إلى إنقاذ إســــــرائيل حين دهمتها مفاجأة الهجــــــوم المصري والســــــوري. كان يومها في نيــــــــــويورك يحضـر الاجتمـاع السـنوي العادي للجمعية الـعامة للأمم المتحدة.

وكانت سرعة التصرف جزءا من قدراته الكبيرة التي تجلت مرة ثانية خلال شهر واحد عندما أمسك بالفرصة التي أتاحتها الحرب، وسعى لأداء دور صانع السلام. ووجد في رسالة بعث بها إليه الرئيس السادات عبر قناة سرية قبيل نهاية يوم الحرب الأولى نقطة البداية، فلم يتأخر في أداء هذا الدور، الذي أسهم في تسريع التحول من الصراع إلى السلام، ولكن بطريقه "الخطوة خطوة" (Step by Step)، بعد أن أعطى إسرائيل فرصة لاستغلال الثغرة التي أحدثتها قواتُها في منطقة الدفرسوار لتحسين مركزها العسكري، ومن ثم السياسي، والمقصد هنا أن تحول أميركا إلى وسيط لم يضع نهاية لانحيازها لإسرائيل؛ فقد سعى كيسنجر، عندما قام بدور صانع السلام إلى ضمان سلامة إسرائيل والمحافظة على مكانتها، بحيث تبدو كما لو أنها لم تخسر الحرب. ووجد في السادات شريكا بلغ تجاوبه معه مستوى فاق توقعاته، وأثنى عليه في كتابه (القيادة: 6 دراسات في الاستراتيجية العالمية) الصادر في العام الماضي، بوصفه صاحب رؤية استراتيجية تتجاوز أوضاعا قائمة أو تُغيرها.

إدواردو رامون


لم يُضيع كيسنجر وقتا؛ إذ أخذ طريقه إلى القاهرة للمرة الأولى في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، وهو يفكر في كيفية الوصول إلى صياغات دبلوماسية تحمل معاني مزدوجة يمكن لكل من الطرفين أن يُفسرها على النحو الذي يريد. وقبل أن ينجح في عقد اتفاق فض الاشتباك الأول، حصل من السادات على ورقة أولى في كتاب السلام، وهي رسالة خطية قصيرة ولكنها مهمة جدا إلى غولدا مائير. كتب لها السادات: "عندما أتحدث عن السلام فإنني أعني ما أقول. لم نلتق من قبل. ولكن لدينا الآن جهود الدكتور كيسنجر؛ فلنستخدمها الآن ونتبادل الآراء عن طريقه".
وعندها أصبحت جولات كيسنجر، التي وُصفت حقا بأنها "مكوكية"، وسيلة لإحراز التقدم خطوة وراء الأخرى حسب خطته التي أرسى من خلالها أساسا للتحول نحو السلام، كان عليه أن يغادر منصبه في مطلع 1977، ولكن تحولا أكبر في السياسة الأميركية حدث بعد ذلك في فترة رئاسة جيمي كارتر التي تُعد استثنائية فعلا؛ فقد صارت تلك السياسة أكثر ميلا إلى الحياد، وأصبحت الوساطة الأميركية أكثر موضوعية. ولهذا تمكن كارتر من استثمار تحول آخر اتسم بالدراماتيكية عندما زار السادات القدس المحتلة آخر 1977، إذ تحرك شخصيا لرعاية خطوة كبرى في صنع السلام وهي توقيع المعاهدة المصرية- الإسرائيلية.
وتكاد الشهادات التي نُشرت عن دور كارتر أن تجمع كلها على أن ضغوطا مارسها على بيغن أسهمت، مع عوامل أخرى، في تغيير موقف متشدد كاد أن يؤدي إلى انهيار تلك المفاوضات عندما أصر على عدم إخلاء مستوطنات سيناء. وكانت تلك لحظة فريدة ثانية في مسار التحول من الصراع إلى السلام، بعد حرب أكتوبر.

تحول متذبذب نحو السلام


لم تمض خطوات التطور نحو السلام في خط واحد إلى الأمام، بل حدث تذبذب؛ فقد مضى نحو 20 عاما قبل بلوغ الخطوة الثانية عندما وُقع اتفاق أوسلو. ولكن عاما واحدا فقط كان كافيا لبلوغ الخطوة الثالثة الكبيرة بتوقيع المعاهدة الأردنية- الإسرائيلية أو معاهدة وادي عربة في أكتوبر/تشرين الأول 1994.

أصبحت جولات كيسنجر، التي وُصفت حقا بأنها "مكوكية"، وسيلة لإحراز التقدم خطوة وراء الأخرى حسب خطته التي أرسى من خلالها أساسا للتحول نحو السلام.

بدا في ذلك الوقت أن الطريق الذي فتحت حرب أكتوبر الباب إليه صار مُمهدا، وطُرحت مشاريع طموحة أو حالمة لبناء شرق أوسط جديد، وبدأت تحركات أولية لتوسيع نطاق السلام ليشمل دولا عربية أخرى. غير أن الأحلام الوردية لم تلبث أن اختلطت بكوابيس؛ فقد توالت خطوات إلى الوراء منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1995 عندما اغتيل إسحق رابين شريك عرفات والملك حسين في الخطوتين السلميتين الكبيرتين الثانية والثالثة، ونجح اليمين الإسرائيلي في وقف الاتجاه إلى السلام بشكل تدريجي عبر الضرب في الحلقة الأضعف، وهي اتفاق أوسلو، مستغلا ثغرات كبيرة فيه. وتغذى اليمين الإسرائيلي على التوتر الذي تفاقم مع الفلسطينيين. فلم يعد ثمة مجال لتفكير في مواصلة التحول الذي أخذ يتراجع: سلام بارد بين مصر وإسرائيل، وصدامات في الضفة وغزة، وثقة ضعيفة بين عمان وتل أبيب، وجبهة جديدة نتجت عن تنامي قوة "حزب الله" في لبنان، وأدت إلى صدام عسكري واسع عام 2006. فضلا عن عجز واشنطن عن وقف ذلك التراجع، وعدم قدرة غيرها على أداء ما لم تقدر عليه.

إدواردو رامون

ومع ذلك، صمدت معاهدتا السلام بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل أيضا، وانتهت "حرب" 2006 دون أن تشعل النار في المنطقة، أو أي من بلدانها الأخرى، ولكن أولويات الدول العربية تغيرت، ولم يعد لقضية فلسطين أهميتها الفائقة التي كانت حين اعتُبرت (القضية المركزية). وإذ لم يعد ممكنا أن يفكر أحد، والحال هكذا، في العودة إلى مرحلة الصراع والحروب، بما في ذلك إسرائيل بعد أن ازداد حرص نُخبها على أرواح مواطنيها في سياق التقدم الذي تمكنت من تحقيقه، كان طبيعيا السعي إلى استئناف التحول الذي أُوقف في منتصف الطريق، ولكن في ظروف أكثر صعوبة.
 

ابتعد الزمن بحرب أكتوبر التي كانت القوة الدافعة وراء ذلك التحول، ولكن أثرها هذا لم ينته تماما، وخاصة في ضوء ما يُعد الآن نجاحا للسلام الذي صُنع بُعيدها بين مصر وإسرائيل بمعايير استمراره واستقراره وتحوله إلى نموذج.

لقد ابتعد الزمن بحرب أكتوبر التي كانت القوة الدافعة وراء ذلك التحول، ولكن أثرها هذا لم ينته تماما، وخاصة في ضوء ما يُعد الآن نجاحا للسلام الذي صُنع بُعيدها بين مصر وإسرائيل بمعايير استمراره واستقراره وتحوله إلى نموذج. ودعمت الخسائر الناتجة من حروب داخلية ذات أبعاد إقليمية في بعض البلدان العربية، والتي لم تنته تماما بعد أكثر من عشر سنوات، الاقتناع لدى عدد متزايد من حكومات دول عربية أخرى بأن المنطقة لا تتحمل المزيد من الخراب، وأن السعي لاستئناف التحول نحو السلام ضروري، في الوقت الذي تحركت فيه إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب في هذا الاتجاه، ولكن بطريقتها الخاصة؛ فأصبح ممكنا عام 2020، وللمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، الوصول إلى تفاهمات أنتجت اتفاقات بين ثلاث دول عربية أخرى وُقعت خلال أقل من خمسة أشهر، بين أغسطس/آب 2020 (الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل)، وديسمبر/كانون الأول من العام نفسه (الاتفاق بين البحرين وإسرائيل)، وبينهما الاتفاق بين المغرب وإسرائيل، في سبتمبر/أيلول. وفتحت تلك الاتفاقات الباب مجددا أمام دول عربية أخرى يمكن أن تُوقع مثلها، حين تتوافر الظروف الملائمة.
وهكذا يبدو المشهد مختلفا تماما بعد 50 عاما. فلم تكن حربا لتحرير أراضي الـ67 فقط، وإن كان هذا هدفها المعلن، بل بداية تغيير تجاوز أقصى ما يمكن تخيله سواء عند نشوبها، أو عند توقيع أول اتفاق عربي- إسرائيلي بُعيدها.

font change

مقالات ذات صلة