دبابات "أبرامز" لأوكرانيا... شروط النجاح في نظام معركة متغير

يعترف القادة الأوكرانيون بصعوبة اجتياز خطوط الدفاع الروسية

REUTERS
REUTERS
جنود بولنديون يجرون تدريبات على دبابات في 16 سبتمبر/ أيلول 2023

دبابات "أبرامز" لأوكرانيا... شروط النجاح في نظام معركة متغير

خلال الأشهر العشرة الأولى من الغزو الروسي الواسع النطاق، حاذر شركاء أوكرانيا الدوليون من تسليمها دبابات قتالية حديثة. بدلا من ذلك، قدمت مجموعة من الدول، بما فيها بولندا وجمهورية التشيك، أعدادا كبيرة من دبابات تم تجديدها تعود إلى الحقبة السوفياتية، واعتُبرت تلك الدبابات في حينه مناسبة للموقف الميداني نظرا لإلمام القوات الأوكرانية بأنظمة التشغيل الخاصة بها وتوافر قطع الغيار.

في أوائل عام 2023 تمت الاستجابة للطلبات الأوكرانية المتكررة للحصول على دبابات قتالية حديثة، وكانت بريطانيا أول الدول الملتزمة بذلك، حيث أعلنت في منتصف يناير/كانون الثاني موافقتها على إرسال دبابات "تشالنجر-2" إلى أوكرانيا. من جهتها أعلنت برلين بشكل واضح أن مشاركتها تتوقف على موافقة واشنطن على إرسال دبابات أبرامز، حيث حذت ألمانيا حذو بريطانيا بتسليم دبابات "ليوبارد" بعد التوصل إلى اتفاق مع واشنطن وسمحت للدول الأخرى بالقيام بالمثل.

وتمثل النماذج الثلاثة تطورا نوعيا للدروع المتوفرة لدى الجيش الأوكراني، إذ إنها توفر مجموعة من المزايا العملية بما في ذلك مستوى أفضل للحماية، وقدرات أكبر على الحركة والرؤية الليلية، ومدى أكبر لقوة نيران عالية الدقة.

أي دور للدبابات في نظام معركة متغير

وصلت الدفعة الأولى من مجموع 31 دبابة "أبرامز" ستحصل عليها أوكرانيا تماشيا مع القرار الذي أعلنه الرئيس الأميركي جو بايدن في يناير/كانون الثاني 2023؛ حيث يُنظر إلى أبرامز على نطاق واسع على أنها من بين أقوى الدبابات العاملة حاليا، وأكثر تقدما بشكل ملحوظ من الدبابات المستخدمة في الجيش الروسي، وبهذا فهي ستشكل إضافة مهمة إلى ترسانة أوكرانيا المتنامية من الدبابات الغربية. وفي المقابل فإن قلة من المتابعين يتوقعون أن يكون لها تأثير كبير على ساحة المعركة أو في تغيير مسار الحرب.

يُنظر إلى "أبرامز" على نطاق واسع على أنها من بين أقوى الدبابات العاملة حاليا، وأكثر تقدما بشكل ملحوظ من الدبابات المستخدمة في الجيش الروسي، وبهذا فهي ستشكل إضافة مهمة إلى ترسانة أوكرانيا المتنامية من الدبابات الغربية

وبالتوازي مع ترحيب أوكرانيا بتسلم الدبابات القتالية الحديثة، فإن تساؤلا  كبيرا  يدور في أوساط القادة العسكريين حول كيفية إدماج هذه الدبابات ضمن منظومة الأسلحة المشتركة. ووفقا لأي نظام معركة للاستفادة من قدراتها؟ يتسق هذا التساؤل مع افتقار أوكرانيا إلى التفوق الجوي، واستراتيجية روسيا المتمثلة في حشد عدد كبير من الدبابات، والخسائر الفادحة في الدبابات التي شهدتها الأشهر التسعة عشر الماضية من الغزو الروسي الواسع النطاق ليخلص إلى استنتاج بأن التقدم في تقنيات الصواريخ والطائرات دون طيار أسقط دور الدبابات في ميدان المعركة الحديثة.
من جهة أخرى، يشير كثير من المحللين إلى أن خسائر الدبابات الكارثية التي تكبدتها روسيا خلال المرحلة الأولى من الغزو لا يمكن إرجاعها إلى مشكلات جوهرية تتعلق بدور الدبابات في الحرب الحديثة، بل إلى كيفية استخدام الدبابات. وفي هذا المجال يؤخذ على القادة الروس سوء التخطيط وسوء الإعداد اللوجستي، حيث تم نشر أرتال من الدبابات بشكل روتيني في مواقع معرضة للخطر دون دعم كاف من المشاة لحمايتهم من الأسلحة المضادة للدبابات أو من التهديد المتزايد لضربات الطائرات دون طيار.

AP
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يتحدث عبر تقنية الفيديو، خلال الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي، في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. (AP)


ويضيف المتمسكون بدور الدروع في ساحات المعركة أن الاستراتيجية الضعيفة لا ينبغي أن تحجب الحاجة إلى الدروع الثقيلة في اختراق الخطوط أو السيطرة على الأراضي بمجرد تحريرها. فمع اعتماد الاستراتيجيات الصحيحة وحيازة وسائط الدفاع الجوي المناسبة، يمكن للدبابات الاستمرار في لعب دور حاسم في ساحة المعركة، كما يمكن أن يكون للتخلي الكامل عن الدبابات عواقب وخيمة على القوات الموجودة على الأرض؛ فـ"من دون الدبابات، سيتعين على الجيش المنخرط في حرب برية واسعة النطاق الاعتماد على ناقلات الجنود المدرعة ومركبات المشاة القتالية للقيام بالدور نفسه، الأمر الذي قد يؤدي إلى نسبة أكبر من الخسائر الكارثية"، كما يرى الباحث "روب لي" من معهد أبحاث السياسة الخارجية. وفي هذا السياق يقول "روب لي" إنه "من السابق لأوانه شطب دور الدبابة، وعلينا أن نقاوم القفز إلى استنتاجات شاملة أخرى حول مستقبل الحرب استنادا إلى صراع لم تتضح دروسه بعد".
لم تنشر أوكرانيا حتى الآن إلا عددا ضئيلا من الدبابات القتالية الحديثة التي حصلت عليها؛ فوفقا للتقارير الواردة في أواخر أغسطس/آب، خسرت أوكرانيا خمس دبابات فقط من أصل 71 دبابة من طراز "ليوبارد-2" خلال الأسابيع الثلاثة عشر التي تلت بدء الهجوم المضاد، فمن الواضح أن القادة الأوكرانيين ينتظرون التوقيت المناسب لاستخدام قواتهم المدرعة المعززة. وفي حين أن المواقع الدفاعية الروسية المعدة جيدا في جنوب أوكرانيا لا تزال تمثل عقبة هائلة، فإن التضاريس المسطحة والمفتوحة قد تكون مثالية للدبابات إذا تمكنت القوات الأوكرانية من اختراق الخطوط الروسية.
ويبدو التقدم لغاية الآن بطيئا ومكلفا ولكنه ثابت إلى حد ما، حيث إن هناك حاجة لتطهير حقول الألغام العميقة عند كل مرحلة قبل أن تتمكن ناقلات الجنود والدبابات من التحرك. لقد تم تحقيق خروقات محدودة، لكنها لا تزال موضع خلاف شديد، حيث قامت روسيا باستقدام تعزيزات كبيرة لمنع المزيد من التقدم الأوكراني. إن كثافة حقول الألغام القريبة من الخطوط الدفاعية الأولى لروسيا تعني أن دبابات أبرامز وغيرها من المدرعات الغربية الحديثة لن تكون قادرة حاليا على لعب دور بارز في العمليات الهجومية، ولن يتغير ذلك إلا إذا نجحت الدبابات الأوكرانية في تعزيز موقعها ما بعد خط الدفاع الأول لروسيا، واندفعت نحو مناطق أقل تحصينا.

أبرامز ومستلزمات النجاح في عمليات الأسلحة المشتركة

لا يمكن التسليم بما ذهب إليه البعض بأن "مجرد وجود دبابات أبرامز سيشكل رادعا قويا"، أو باعتبار بعض النقاد أن تسليم 31 دبابة من طراز أبرامز إلى أوكرانيا ليس أكثر من مجرد لفتة رمزية؛ فرغم كل ذلك، تمثل هذه المدرعة القتالية المتطورة إضافة نوعية للقدرات الهجومية الأوكرانية، ولكن ذلك يرتبط بقدرة القادة الأوكرانيين على دمج هذه المركبات الأميركية الصنع في الوحدات الحالية ونشرها بفعالية ضمن عمليات الأسلحة المشتركة المعقدة، وتقدير المخاطر المترتبة على هجمات المسيرات وافتقاد السيطرة الجوية. وبهذا المعنى يقول كيريلو بودانوف، رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية، إن الدبابات "يجب أن تستخدم لعمليات محددة للغاية ومصممة جيدا، لأنه إذا تم استخدامها على خط المواجهة وفي معركة أسلحة مشتركة فقط، فلن تعيش طويلا في ساحة المعركة. يجب أن يتم استخدامها في عمليات الاختراق، ولكن المحضرة جيدا".
 

يمكن للدبابات الاستمرار في لعب دور حاسم في ساحة المعركة، كما يمكن أن يكون للتخلي الكامل عن الدبابات عواقب وخيمة على القوات الموجودة على الأرض.

لا شك  أن وصول دبابات أبرامز يعد إشارة مرحبا بها نحو كييف ويمكن أن يساهم في تعزيز بعض المكاسب، إلا أن ذلك لا يمكنه  تغيير المشهد الميداني بشكل كبير. فما هي الإضافات النوعية التي يمكن أن تقدمها هذه الدبابة إلى أداء الدبابات القتالية الرئيسة الأخرى الموجودة بالفعل في المعركة، بما في ذلك "ليوبارد-2" الألمانية الصنع، و"تشالنجر-2" البريطانية الصنع، وهل ستحد من مفاعيل الصواريخ الروسية البعيدة المدى أو ستعيد التوازن إلى الدفاع الجوي، إلى أن يتم تحقيق اختراق في الخطوط الروسية؟ 
بهذا المعنى يقول هاميش دي بريتون غوردن، القائد السابق لفوج الدبابات الملكي البريطاني، إن عمليات تسليم أبرامز إلى أوكرانيا "أكثر أهمية من الناحية النفسية منها ربما ميدانيا"، ويضيف أن الدبابات وصلت إلى "لحظة محورية حقا" حيث أصبح موقف روسيا في شبه جزيرة القرم "أقل قابلية للاستمرار يوما بعد يوم"، وأشار إلى الأحداث في سيفاستوبول، بما في ذلك "تعرض الأسطول الروسي في البحر الأسود لخسائر في الغواصات والسفن".
تتمتع الدبابات الغربية بقدرة حركة وقوة نيران وحماية فائقة بما يمكن أن يساهم في تعزيز المكاسب ما بعد اختراق القوات الأوكرانية للخط الدفاعي الأول لروسيا، طالما أن القوات الأوكرانية مدعومة بصواريخ بعيدة المدى. ولكن ذلك ليس بالأمر السهل، فوفقا لـما قاله يوهان ميشيل، محلل أبحاث الدفاع والتحليل العسكري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: "تواجه أوكرانيا الكثير من الصعوبات في الوقت الحالي لأنها لا تتمتع بالتفوق الجوي، وعندما تحاول عبور أو هزيمة موقع شديد التحصين دون تفوق جوي، يكون الأمر مؤلما ومكلفا".

ماذا يقول الكرملين عن التعزيزات الغربية لأوكرانيا؟

بعد مرور أكثر من 18 شهرا على الغزو الروسي لأوكرانيا، كسرت إدارة بايدن، بعد الكثير من المداولات، كل المحظورات الواضحة التي قد تؤدي إلى تصعيد الكرملين. في البداية جاءت المدفعية، ثم أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة، كما أرسلت ذخائر عنقودية على الرغم من معارضة كثير من الديمقراطيين، وطلبت من حلفائها "الحفر بعمق" والبحث عن الذخائر والدفاعات الجوية التي تعود إلى الحقبة السوفياتية. بعد ذلك  وافقت على تدريب الطيارين الأوكرانيين على الطائرات المقاتلة "إف-16" والآن جاءت الدبابات الأكثر تطورا. وتبقى مسألة إرسال واشنطن نظام الصواريخ التكتيكية بعيدة المدى والذي كانت كييف تتساءل عنه منذ أكثر من عام هي علامة الاستفهام الكبيرة المتبقية. 

لا يمكن التسليم بما ذهب إليه البعض بأن "مجرد وجود دبابات أبرامز سيشكل رادعا قويا"، أو باعتبار بعض النقاد أن تسليم 31 دبابة من طراز أبرامز إلى أوكرانيا ليس أكثر من مجرد لفتة رمزية؛ فرغم كل ذلك، تمثل هذه المدرعة القتالية المتطورة إضافة نوعية للقدرات الهجومية الأوكرانية.

لقد أرسلت المملكة المتحدة وفرنسا أسلحة بعيدة المدى- والتي تعتبر مثيرة للإشكالات لأنها يمكن أن تضرب خارج جبهة القتال وداخل روسيا- مع نشر صواريخ "ستورم شادو"، و"سكالب"، لكن المسؤولين الأميركيين ما زالوا على صمتهم.
يقول الكرملين إن إمدادات الولايات المتحدة لأوكرانيا بصواريخ "أتاكامس" الطويلة المدى ودبابات أبرامز، لن تغير الوضع في ساحة المعركة. وردا على سؤال حول هذه القضية في مؤتمر صحافي دوري، قال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين: "إن القوات المسلحة الروسية تتكيف باستمرار مع استخدام أنواع جديدة من الأسلحة فيما تسميه موسكو عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا". وأضاف: "كل هذا لا يمكن أن يؤثر بأي حال من الأحوال على جوهر العملية ونتائجها. ليس هناك علاج سحري ولا يوجد نوع واحد من الأسلحة يمكنه تغيير ميزان القوى في ساحة المعركة... أبرامز أيضا ستحترق".

تساؤلات على مشارف خطوط الدفاع الروسية

ضاعفت الولايات المتحدة المساعدات العسكرية الثقيلة التي طال انتظارها لبلد توقف هجومه المضاد على مشارف الخنادق الروسية، لكن المخاوف من إثارة المزيد من التصعيد الروسي لا زالت تقيد قرار واشنطن في تقديم أنظمة الصواريخ التكتيكية للجيش لاستهداف وتعطيل خطوط الإمداد والقواعد الجوية وشبكات السكك الحديدية في الأراضي التي تحتلها روسيا. 
لقد نجح الجيش الأوكراني في نقل القتال إلى المناطق التي تحتلها روسيا، مثل شبه جزيرة القرم، بفضل الأسلحة البعيدة المدى دون أي تصعيد كبير في الرد، كما نجحت دباباته في عبور الخط الدفاعي الروسي في غرب زابوروجيا رغم شبكة الخنادق المضادة للدبابات وكثافة نيران المدفعية.

تتمتع الدبابات الغربية بقدرة حركة وقوة نيران وحماية فائقة بما يمكن أن يساهم في تعزيز المكاسب ما بعد اختراق القوات الأوكرانية للخط الدفاعي الأول لروسيا، طالما أن القوات الأوكرانية مدعومة بصواريخ بعيدة المدى. 

لا شك أن ما تمتلكه دبابة القتال أبرامز- من قوة نارية فتاكة وقدرة لا مثيل لها على الحركة والمناورة الرشيقة وتقنيات أخرى من المناظير الحرارية ونظام إدارة رقمي لساحة المعركة يمكنه التمييز بين الأهداف الصديقة والعدوة- يجعلها قادرة على تشكيل قوة صدم  وتدمير إلى جانب "تشالنجر-2" من المملكة المتحدة و"ليوبارد-2" الألمانية. لكن نجاح القوات الأوكرانية في استثمار هذه الميزات يبقى رهنا بثلاثة عوامل:
العامل الأول: قدرة القادة الأوكرانيين على دمج هذه المركبات في الوحدات الحالية ونشرها بفعالية في عمليات الأسلحة المشتركة المعقدة، بمعنى آخر تأمين شروط النجاح لها بامتلاك الكثافة النارية لدك الخطوط الدفاعية تمهيدا لاختراقها من جهة، والقدرة على الحد من فعالية المسيرات والصواريخ الروسية التي يمكن أن تحبط الهجوم المعاكس من جهة أخرى؛ ففي حين تمثل المواقع الدفاعية الروسية المعدة جيدا في جنوب أوكرانيا عقبة هائلة أمام تقدم الدبابات، فإن التضاريس المسطحة والمفتوحة في المنطقة قد تكون مثالية للدبابات إذا تمكنت القوات الأوكرانية من اختراق الخطوط الروسية.
العامل الثاني: استثمار ما تبقى من أسابيع معدودة مواتية للقتال قبل أن تبدأ أمطار الخريف بالتأثير على ميدان المعركة مع تحول الأرض الجافة إلى طين، وجعل تقدم دبابات أبرامز ومركبات "برادلي، وسترايكر" القتالية أكثر صعوبة. هذا ويعتبر عدد من المسؤولين الأميركيين أن كييف قادرة على الاستمرار في إحراز تقدم من خلال هجمات محمولة خفيفة ولا يعلقون آمالا كبيرة على الهجوم المضاد الشامل.
العامل الثالث: استمرار الدعم الغربي وتحديدا الأميركي بما يؤدي لحصول أوكرانيا على عدد من الدبابات يمكنها من شن هجمات معاكسة متزامنة على أكثر من محور لتشتيت الجهد الروسي الصاروخي، والنجاح في الوصول إلى شاطئ بحر آزوف، بالتزامن مع هجمات بحرية تعرض الأسطول الروسي في البحر الأسود لخسائر في الغواصات والسفن. حينها تفتح الطريق نحو جسر كيرتش (جسر القرم) الذي ستمثل السيطرة عليه لحظة حاسمة في الحرب.
 

نجح الجيش الأوكراني في نقل القتال إلى المناطق التي تحتلها روسيا، مثل شبه جزيرة القرم، بفضل الأسلحة البعيدة المدى دون أي تصعيد كبير في الرد، كما نجحت دباباته في عبور الخط الدفاعي الروسي في غرب زابوروجيا رغم شبكة الخنادق المضادة للدبابات وكثافة نيران المدفعية.

قد يكون فيما قاله الرئيس فلاديمير بوتين لوزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو من أن "أمامه أربعة أسابيع لوقف الهجوم المضاد"، رغبة روسية واضحة للخروج من مرحلة رد الفعل على التعزيزات الغربية ونقل الصراع إلى مرحلة جديدة.

الانتقال إلى نظام معركة جديد

ما هي الضمانات لاستمرار العوامل الثلاث الآنفة الذكر التي تستلزم توفر الكفاءة القيادية والميدانية والظروف المناخية والدعم المادي الأميركي والأوروبي والتي تضاف إليها شروط خارجة عن إرادة القادة- وبما يتجاوز التخطيط- تتعلق بفرص النجاح المتاحة وردود فعل غير متوقعة لدى الخصم، ومفاجآت ميدانية أو شروط غير محسوبة؟  
تبدو احتمالات اجتماع كل هذه العوامل واستدامتها صعبة التحقق نظرا لتعدد مرجعيات القرار لكل منها بما يتجاوز إرادة الحكومة الأوكرانية أو أي من الدول الحليفة. هذا ما أظهره توقف الحكومة الأميركية عن تقديم الدعم لأوكرانيا والذي استدعى موقفا أوروبيا أعلن عجزه عن تعويض الدعم الأميركي.

REUTERS
جندي أوكراني يطلق قذيفة هاون باتجاه القوات الروسية في منطقة دونيتسك بأوكرانيا في 8 أكتوبر/ تشرين الاول 2023.


لقد استندت المواقف الغربية من الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا إلى موقف أميركي عازم على هزيمة روسيا اقتصاديا وعسكريا وإجبارها على الانسحاب غير المشروط، لكن الإصرار الأميركي والغربي على تحقيق ذلك في الميدان لم يستند إلى تأمين تفوق في ميزان القوى قادر على تحقيق الهدف المعلن. وبمعنى آخر اتسمت الاندفاعة الغربية في تأمين الدعم لأوكرانيا بالعشوائية حيث تداخلت مراحل التجهيز والتدريب والتخطيط للمعركة والتنفيذ خارج إطار قيادة مندمجة ومولجة بكل هذه المسؤوليات. تشاركت أوروبا والولايات المتحدة في تقديم منظومات غير متناغمة من الأسلحة وتفردت أوكرانيا بالتخطيط للقتال واختيار الأهداف والتوقيت وميادين القتال، دون التأكد من توازن الأهداف المنشودة مع الوسائل المتوفرة، وهذا أحد أهم مبادئ الحرب. النتيجة الميدانية كانت مزيدا من الدمار والإخفاق دون التوقف عند الدروس المستفادة من كل ذلك وتغيير نظام المعركة بما يتناسب مع توازن القوى الحقيقي.
إن القاعدة الذهبية لنجاح أي عملية هجومية أو ذات طابع هجومي تنطلق من تفوق واضح في ميزان القوى البرية ووسائط الدعم الناري وتحقيق تكافؤ في السيطرة الجوية، إذا لم تكن هناك قدرة على تحقيق التفوق. وهذا لا يمكن احتسابه بالاعتماد على دفعات من عشرات الدبابات تصل إلى ساحة المعركة بطريقة عشوائية، وهو ما يحصل عند تقديم كل أنواع الدعم من الصواريخ والأسلحة المضادة للدروع وسائر أنواع الذخائر أو الدعم اللوجستي.
يجب على حلفاء أوكرانيا الخروج من عقدة التفوق والاعتراف بأن ميزان القوى القائم لا يسمح بشن هجمات ناجحة، وهذا يستدعي إعادة النظر بنظام القتال الذي اعتُمد حتى الآن. يعترف القادة الأوكرانيون بصعوبة اجتياز خطوط الدفاع الروسية وحقول الألغام المضادة للمدرعات، الأمر الذي أدى إلى تدمير الدبابات المهاجمة. يستدعي الموقف التراجع خطوة إلى الوراء وتغيير أسلوب المواجهة، وهذا يعني ضرورة اعتماد تقنيات وأساليب الحرب غير المتماثلة أو الاشتباك غير المتماثل، وهو النموذج المعتمد حين تكون موارد المتحاربين وقدراتهم العسكرية غير متساوية كما تختلف تكتيكاتهم بشكل كبير، حيث يلجأ  الجانب الأضعف إلى استغلال نقاط الضعف النسبية لدى الطرف الآخر لتعويض النقص في قدراته أو جودة قواته لتحقيق النجاح.
 

يمكن الاستفادة إلى الحد الأقصى من قدرات الدبابات الغربية الأميركية والبريطانية والألمانية نظرا لتكافؤ الفرص في المواجهة مع الدبابات الروسية خارج مواقعها الدفاعية.

إن تجريد القوات الروسية من نقاط قوتها يقتضي إخراجها من مواقعها المحصنة، وهذا يعني اللجوء إلى خيارين مجتمعين:
الأول: توجيه الجهد الأوكراني نحو شن عمليات خاصة مكثفة على الأنساق الخلفية للقوات الروسية ومراكز قياداته وقواعده اللوجستية ومواقع احتياطاته وتهديد عمق انتشاره، مما سيؤدي إلى تشتيت الجهد الروسي وإضعاف دفاعاته واضطراره لتعديل جهازه الدفاعي لحماية قواته. 
الثاني: وقف الهجمات الأوكرانية عبر الخطوط مما يحفز القوات الروسية على الخروج من مواقعها والانتقال مجددا إلى  الهجوم والاندفاع في العمق الأوكراني، حيث تتيح الجغرافيا السهلية استدراج الدبابات الروسية إلى كمائن وحقول ألغام محضرة وإلحاق الهزيمة بها. وفي هذه المناورة يمكن الاستفادة إلى الحد الأقصى من قدرات الدبابات الغربية الأميركية والبريطانية والألمانية نظرا لتكافؤ الفرص في المواجهة مع الدبابات الروسية خارج مواقعها الدفاعية.

أخيرا، يسجل التاريخ الحديث أكثر من مواجهة ناجحة بين جيش متفوق وآخر ضعيف نجح في استخدام الموارد القليلة لتحقيق الانتصار. قد يكون في التجربة الفيتنامية لا سيما الهزيمة الفرنسية في معركة "ديان بيان فو" وقبلها التجربة الروسية في ليننغراد عدد من الدروس التي يمكن استثمارها، والتي لا تقتصر فقط على اعتماد نموذج للقتال بل ترتكز  من جهة على وضع استراتيجية سياسية واقتصادية قادرة على مواكبة الصراع الطويل الأمد، ومن جهة أخرى على دور دبلوماسي وازن لأصدقاء أوكرانيا وحلفائها في العالم قادر على استثمار الرأي العام العالمي والمؤسسات الدولية.
 

font change

مقالات ذات صلة