جلاء أرمن ناغورنو كاراباخ عن أرض الأجداد: لعنة التاريخ والجغرافيا

درس بليغ في الهويات القاتلة

AFP
AFP
جندي روسي من قوات حفظ السلام يسير في ساحة دير داديفانك الأرثوذكسي التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر والثالث عشر، خارج بلدة كالباجار في 16 نوفمبر 2020

جلاء أرمن ناغورنو كاراباخ عن أرض الأجداد: لعنة التاريخ والجغرافيا

حكمت جمهورية آرتساخ الأرمنية على نفسها بالزوال، حين تبنّت خيار الانفصال عن جمهورية أذربيحان الناشئة. فمن يتأمّل خريطة هذه الدويلة، المعلنة من جانب واحد في إقليم ناغورنو كاراباخ الأذربيحاني، يلحظ ببساطة أنها محاطة من جميع جهاتها بالدولة "العدوة"، تاليا سيتفهم تماما ذلك الرحيل الاختياري عن "أرض الأجداد" بعد تغير موازيين القوى، وتبدل أولويات القوى الإقليمية والدولية الراعية لهذا الصراع.

الحق أن مشكلة أقليم ناغورنو كاراباخ ليست المشكلة الأرمنية الوحيدة في القرن العشرين، بل هي واحدة من مجموعة مشكلات حدودية وغير حدودية نجمت عن لعنتين اثنتين عانت منهما هذه الأمة المشرقية القديمة، لعنة الجغرافيا ولعنة التاريخ. فمن حيث الجغرافيا، وبسبب موقعها الاستراتيجي الحاجز بين الأمبراطوريتين الرومانية والفارسية، تحولت أراضيها إلى ساحة معارك لم تتوقف منذ القرن الأول قبل الميلاد، ونتيجة لهذه الحروب وقعت تحت احتلالين، روماني وفارسي. أما من حيث التاريخ، فلربما كان من سوء حظها أن ملكها تيغران العظيم (الذي حكم من 95 إلى 55 قبل الميلاد) أسس امبراطورية لم تعمر سوى بضع سنين، وصلت حدودها إلى مدينة دمشق. هذه الامبراطورية القصيرة العمر، شكلت أساس الفكر القومي للأحزاب الأرمنية في القرن التاسع عشر، وفي مقدمها حزب الطاشناق الذي كان يرفع راية الكفاح المسلح لاستعادة ذلك المجد الأثيل.

في القرن السابع الميلادي كانت هذه المنطقة من ضمن المناطق الأرمنية التي خضعت للمسلمين حين سيطروا في عهد عثمان بن عفان على معظم طريق الحرير، ومنذ ذلك الوقت توارثتها الدول والإمارات المسلمة 

كانت مقاطعة آرتساخ واحدة من المناطق الأرمنية التي تتبع مباشرة للملك تيغران، وقد أسس فيها مدينة على اسمه تدعى "تيغرانكيرت". بعد تقسيم أرمينيا بين الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية في العام 387 ميلادي، وقعت آرتساخ ضمن المنطقة التابعة للساسانيين.

يحتفظ الأرمن لهذه المنطقة بذكرى خاصة، إذ أنها شهدت افتتاح أول مدرسة أرمنية قي دير أماراس بهمة القديس الأرمني الشهير ميسروب ماشدوتس (361 - 440)، واضع الأبجدية الأرمنية التي نعرفها اليوم. وكانت آرتساخ منطلق القديس ماشدوتس لنشر المسيحية في جبال القوقاز بين القبائل الوثنية. وقد تحدّث اللغوي الأرمني الشهير ستيفانوس سيويتسي (توفي عام 735م) رئيس أساقفة سيونيك أن أرمن آرتساخ كانت لهم لهجتهم الخاصة وشجع على تعلمها.

AFP
الأرمن يزورون للمرة الأخيرة دير داديفانك الأرثوذكسي خلال الصراع العسكري بين أرمينيا وأذربيجان على منطقة ناغورنو كاراباخ الانفصالية.

في القرن السابع الميلادي كانت هذه المنطقة من ضمن المناطق الأرمنية التي خضعت للمسلمين حين سيطروا في عهد عثمان بن عفان على معظم طريق الحرير، ومنذ ذلك الوقت توارثتها الدول والإمارات المسلمة التي سيطرت في حقب تاريخية مختلفة من دون تغييرات على تركيبتها السكانية الأرمنية. لكن التغيير الديموغرافي الفعلي حدث فيها بعد الغزو المغولي في القرن الثالث عشر الميلادي، حين اضطر أرمن هذا الإقليم إلى مغادرته والاستقرار في مناطق أكثر أمنا، حيث ملأت الفراغ في تلك الحقبة الزمنية قبائل التركمان الأوغوز، البياضية والسوادية (آق قويونلو، وقره قويونلو)، الذين شكلوا أساس الشعب الأذربيجاني المعاصر.

 

رحالة حجازي

قبل هذا كان الرحالة العربي أبي دلف الينبعي (من مدينة ينبع في المملكة العربية السعودية حاليا) قد وصف في القرن الرابع الميلادي بلاد الأرمن وصفا يعدّ وثيقة نادرة عن مرحلة تفتقر الى الوثائق المكتوبة. وتمتاز ملاحظات أبي دلف بالأصالة كونه شاهد عيان، ولا يبدو أنه اعتمد على الرحالة والجغرافيين الذين سبقوه في تدوين مشاهداته. تظهر المقتطفات المتبقية من مؤلفاته اعتناءه بدراسة الحدود والمدن والمواصلات والأنشطة الاقتصادية. وقد ساهمت معلوماته، بحسب المستشرقين الذين درسوه، في تصحيح الكثير من المعلومات الخاطئة وفي رسم الخرائط الإسلامية المبكرة.

Shutterstock
قلعة أسكيران آرتساخ، ناغورنو كاراباخ

يقول أبي دلف إنه عبر من مدينة باكو في بلاد الجبل (جبل القفقاس) بعدما سار ثمانين فرسخا (أكثر من 400 كم) تحت الشجر على ساحل بحر طبرستان العظيم الذي هو بحر قزوين. ومن هناك سار في بلد الأرمن حتى انتهى إلى تفليس. ويقول إنها "مدينة لا إسلام وراءها، يجري فيها نهر يقال له الكر يصب إلى البحر وفيه غروب تطحن، وعليها سور عظيم، وبها حمامات شديدة الحرارة لا توقد ولا يستقى لها ماء، وعلتها عند أولي الفهم تغني عن تكلف الإبانة عنها".

ويضيف قائلا: "أردت أن أمضى إلى مغار الطيس لأنظر إليه، فلم يمكن ذلك لسبب قطع عنه، وانكفأت إلى الغرض ومنها إلى أردبيل، فركبت جبال الويزور وقبان وخاجين (وهي آرتساخ نفسها)، والربع، وحندان، والبذين. وبها معدن الشب المنسوب إليها، وهو شب الحمرة المعروف باليماني، ومنها يحمل إلى اليمن وواسط، ولا ينصبغ الصوف بواسط إلا به، وهو أقوى من المصري، وبها وبأردبيل وهذه الجبال التي تقدم ذكرها حمامات تصلح للحرب فقط".

كان هذا الإقليم ضحية من ضحايا الصراع العثماني الصفوي خلال قرون طويلة، حيث كان يقع في قبضة الصفويين حينا وفي قبضة العثمانيين حينا آخر. لكن الأساس الذي قامت عليه مشكلة هذا الإقليم نشأ في عهد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين

ويحدثنا عن موضع يسمى البذين يقول إنه معقل الخرمية الذين يتوقعون ظهور المهدي. وفي هذا إشارة مهمة إلى أن سكان هذا الإقليم كانوا من الأكراد أتباع المهدي الكردي الذي تحدث عنه البطريك السرياني ديونيسيوس التلمحري في القرن التاسع الميلادي.

الغريب أن أبي دلف يحدثنا عن إمارات عربية في هذه البلاد، فيذكر إمارة لبني سليم، وأمارة أخرى لقبيلة طيء. ويحدثنا عن طبائع أرمن هذه البلاد فيقول: "أقام عندهم بعض إخواني وزعم أنه لا غدر فيهم. وقال إن الرجل منهم إذا كان فقيرا لم يجب أن يراه أهل بلده. وهذه الخلة من كرم الطبيعة وصفاء الطينة. وفى أهل هذا البلد خدمة الضيف وقرى واسع وحسن طاعة لرهبانهم حتى أن الواحد منهم إذا حضرته الوفاة أحضر القس ودفع إليه مالا واعترف له بذنب مما عمله، والقس يستغفر له وقد تضمن له الصفح والعفو عن سائر ذنوبه. ويقال إن القس يبسط كساءه فكلما ذكر ذنبا بسط القس يده ثم قبضها وقال قد أخذته، ثم يطرحه في كسائه، فإذا لم يبق له ذنب جمع القس كساءه وحمله وخرج وقال قد حملت ذنوبك وأنا ألقيها في الصحراء. ويقرر في نفسه الغفران والتجاوز. وليست هذه السنة في شيء من الأديان كلها إلاَّ في هؤلاء. وهم ضرب من الأرمن فقط".

ويستطرد أبا دلف في وصف أنغامهم الدينية فيقول: "وأصواتهم في درس إنجيلهم وإيقاع نغمهم أطيب وأشجى من أصوات غيرهم من فرق النصارى. وترنمهم أبكى لقلب المحزون المائل طبعه إلى المراثى والنوح من رنات العرب بالندب. وألحانهم في البيع أحلى على سمع الطرب الصابر، لأن المرح والفرح من ترجيع الأغاني. ويقال إن ترتيب غنائهم بالأوتار لطيب صحيح".

 

مشكلة معقدة

في القرن الخامس عشر، قام الرحالة الألماني يوهان شيلتبيرغر (1380 –1440) برحلة إلى أرمينيا وأذربيجان، بعدما التحق بخدمة الطاغية التتاري تيمورلنك، حيث وصف ناغورنو كراباخ بأنها سهل كبير وجميل في أرمينيا يحكمه المسلمون.  

Shutterstock
ناغورنو كاراباخ

وكان هذا الإقليم ضحية من ضحايا الصراع العثماني الصفوي خلال قرون طويلة، حيث كان يقع في قبضة الصفويين حينا وفي قبضة العثمانيين حينا آخر. لكن الأساس الذي قامت عليه مشكلة هذا الإقليم نشأ في عهد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين (1878 - 1953)، المولع بإجراء التغييرات الديموغرافية في منطقة القوقاز.

بعد دخول الجيش السوفياتي إلى هذه المنطقة؛ في أبريل/نيسان عام 1920 رُسمت حدود جمهوريات القوقاز ضمن الجمهورية الاتحادية القوقازية، وشكلت الحكومة البلشفية يومها لجنة سباعية لرسم الخرائط. وفي الرابع من يوليو/تموز 1921 صوتت اللجنة بأغلبية أربعة أصوات لصالح انضمام هذا الإقليم إلى أرمينيا، ولكن في اليوم التالي تراجعت اللجنة عن  تصويتها، لصالح ترك المنطقة ضمن حدود جمهورية أذربيجان السوفياتية الاشتراكية.

لا شك في أن درس أقليم ناغورنو كاراباخ شديد البلاغة في هذا الزمن الذي يشهد فيه الشرق بعمومه صراع هويات قاتلة، فلا يكفي أن يكون لديك حق تاريخي في إقليم معين حتى ترفع شعارات شديدة الطموح، وربما هذه واحدة من مشكلات النخب الحزبية الأرمنية التي دخلت في صراعات صفرية منذ قرن وربع القرن


بعد وفاة ستالين، تجدّدت مطالب الأرمن في ناغورنو كاراباخ بالانضمام إلى أرمينيا، أو نقلها للتبعية الروسية، ومنذ عام 1963 تصاعد النضال الأرمني من أجل إعادة توحيد إقليم آرتساخ مع أرمينيا من جديد، وقد أسفرت حدة الاستقطاب بين الجانبين الأرمني والأذربيجاني إلى اندلاع مواجهات وأعمال عنف أسفرت عن مقتل العشرات.

ومع ثورة البيريسترويكا في ثمانينات القرن العشرين، تجدّدت آمال أرمن ناغورنو كاراباخ بحل قضيتهم، حين تبنى قادة مجلس السوفيات الإقليمي قرارا بالتصويت لصالح انضمام منطقة الحكم الذاتي الأرمنية في أذربيجان، الى أرمينيا، لكن هذا القرار لم ينفذ، بل بدأت المنطقة منذ ذلك التاريخ تفقد أغلبيتها الأرمنية، حيث انخفض في حلول عام 1988، عدد السكان الأرمن في هذا الإقليم إلى ما يقرب من ثلاثة أرباع مجموع السكان.وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1991، ألغت أذربيجان وضع ناغورنو كاراباخ كمنطقة حكم ذاتي، ووضعتها تحت الحكم المركزي المباشر لأذربيجان. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الأمور تأخذ منحى تصعيديا، بين كرٍّ وفرٍّ، انتهى أخيرا بجلاء معظم الأرمن عن هذا الإقليم.

 

درس بليغ

لا شك في أن درس أقليم ناغورنو كاراباخ شديد البلاغة في هذا الزمن الذي يشهد فيه الشرق بعمومه صراع هويات قاتلة، فلا يكفي أن يكون لديك حق تاريخي في إقليم معين حتى ترفع شعارات شديدة الطموح، وربما هذه واحدة من مشكلات النخب الحزبية الأرمنية التي دخلت في صراعات صفرية منذ قرن وربع القرن، ولم تحصد سوى الخيبات والمجازر، وجلاء أرمن "آرتساخ" ليس آخرها.

font change

مقالات ذات صلة