حرب غزة تضع الطاهر بن جلون في قلب العاصفة

بعد مقال له في صحيفة فرنسية

AP
AP
أطفال من قطاع غزة ينظرون للدمار الذي خلفه القصف الاسرائيلي المستمر على القطاع، 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

حرب غزة تضع الطاهر بن جلون في قلب العاصفة

الرباط: يوم الجمعة الماضي، نشر الكاتب المغربي الفرنكفوني الطاهر بن جلون مقالا في موقع مجلة "لوبوان" الفرنسية، أدلى فيه برأيه بخصوص الحرب الدائرة في غزة منذ السابع من هذا الشهر. وقد أثار هذا المقال –ولا يزال- موجة من ردود الأفعال الغاضبة والمستنكرة من طرف مثقفين وكتاب مغاربة وعرب، رغم أنه ليس الكاتب العربي الفرنكفوني الوحيد الذي أدلى برأيه في هذا الشأن، إذ أن ما قاله يتقارب ويكاد يتطابق مع رأي كاتبين آخرين هما كمال داود وبوعلام صنصال، تتداوله أيضا الصحف الفرنسية هذه الأيام، من دون أن يثير رأيهما مثل هذه العاصفة الغير مسبوقة في الإعلام العربي.

حتى تتضح الصورة أكثر، لا بد من العودة لما جاء في المقال موضوع الجدال. يقول الطاهر بن جلون في مستهله: "أنا عربي ومسلم بالميلاد والثقافة والتعليم المغربي التقليدي، لا أستطيع أن أجد الكلمات لأعبّر عن مدى رعبي مما فعله مسلحو حماس باليهود. عندما تهاجم الوحشية النساء والأطفال تصبح همجية وليس لها أي مبرر أو عذر. أشعر بالرعب لأن الصور التي رأيتها هزّت أعماق إنسانيتي". ثم يضيف: "أعتقد أنه يمكننا مقاومة الاحتلال ومحاربة الاستعمار، ولكن ليس بهذه الأعمال المتسمة بوحشية كبيرة.لقد ماتت القضية الفلسطينية في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، اغتيلت على يد عناصر متعصبة غارقة في أيديولوجيا إسلامية من أسوأ نوع".

ما إن نشر مقال بن جلون في موقع المجلة الفرنسية "لوبوان" على الإنترنت، حتى انهالت التعليقات وردود الأفعال المستنكرة والغاضبة، في المغرب أولا ثم باقي الدول العربية والمهجر، انخرط فيها عدد كبير من المثقفين والأدباء والصحافيين والقراء

ثمّ ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى إلقاء اللوم على حماس التي، في نظره، هي عدو الشعب الفلسطيني قبل أن تكون عدو الإسرائيليين، لأنها حركة لا تملك حسّا سياسيا، مشيرا إلى أن مصدر هذه "الوحشية" هو بالتأكيد الاحتلال والإذلال الذي تعرض له شباب لا مستقبل لهم استولت عليهم حركة إسلامية، تتلاعب بها إيران كما تشاء، معتبرا أن ما حصل هو جرح للإنسانية جمعاء، قائلا: «لا، هؤلاء ليسوا حيوانات. الحيوانات لم تكن لتفعل ما فعلته حماس". لكنه، في جملة قصيرة وعابرة، يدعو إلى عدم الخلط بين "حماس" والسكان الذين يعيشون تحت الاحتلال والحصار، ثعلى الرغم من أن "صوته يبقى وحيدا"، حسب وصفه، قبل يختم بعبارات غاضبة: "أنا في وحدتي، في حزني وشعوري بالخزي كإنسان، في اشمئزازي من هذه الإنسانية التي أرفض الانتماء إليها، أقول لا، هذا قتال لا يحترم قضيتهم. لا لهذا التصفيق في بعض العواصم العربية. لا لهذا الانتصار الدموي للأبرياء.لا لعمى أولئك الذين يحرّكون خيوط المأساة حيث السكان الفلسطينيون، عاجلا أم آجلا، هم الذين سيدفعون هذه الفاتورة الباهظة".

 

ردود أفعال

ما إن نشر مقال بن جلون في موقع المجلة الفرنسية "لوبوان" على الإنترنت، حتى انهالت التعليقات وردود الأفعال المستنكرة والغاضبة، في المغرب أولا ثم باقي الدول العربية والمهجر، انخرط فيها عدد كبير من المثقفين والأدباء والصحافيين والقراء. في هذا السياق، كتب الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف في تدوينة على منصة "فيسبوك": "شكرا الطاهر بن جلون، حين اعتبرت إسرائيل ضحية، واعتبرت المقاومة إرهابا، وما فعلته حماس ليس سلوكا حيوانيا، بل ما دون الحيواني، وأن القضية الفلسطينية انتهت. وهذا كلامك. أين كنت خلال عقود من التهجير والذبح والقتل والدمار الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين، بأحدث وأعتى وسائل القتل والمحو والدمار، وما قتل من أطفال ونساء وشيوخ، وما جرف من حقول القمح والزيتون، وما سرق من بيوت وأراض من أصحابها لتتحوّل إلى مستوطنات، وما حدث في صبرا وشاتيلا... فمن الضحية ومن الجلاد، ومن الحيوان، ومن دون الحيوان؟ فطوبى لمن فضحت أقنعتهم وجوههم." في ما كتب المحلل السياسي محمد الشرقاوي في مقال رأي بموقع "لكم" المغربي: "أفهم جيدا أن يعبر أديب مقروء جيدا عن معارضته للعنف أو قتل المدنيين أو التمثيل بالضحايا من كل طرف. لكن لا يشرّفني أن أكتشف أن بن جلون الحاضر ليس ما تخيلت أن يكون شخصية أكثر نضجا ودفاعا عن إنسانية كاملة ومنصفة عند بن جلون الماضي. لا أستسيغ هذه الانتقائية المسمومة لإنسانية ميكيافيلية في ظاهرها، لكنها تنحو منحى المحاكمة والإعدام الإنساني قبل الإعدام السياسي. ويبدو أنه تفوق على خصوم حماس، وأعداء القضية الفلسطينية".

AFP
الكاتب الفرنكفوني الطاهر بن جلون

أما خارج المغرب، فقد نشرت الكاتبة والصحفية التونسية وجدان بوعبد الله، تغريدة على موقع "إكس"، تويتر سابقا، قالت فيها: ‏ "كصحفية وقارئة، أعلن مقاطعتي لكل قلم وصوت يعادي قضية فلسطين ويظلم شعبها ويساعد ولو بحرف في مزيد قتل أطفالها وتهجير شعبها، كل قطرة حبر ظالمة هي رصاصة في وجه شعبنا في فلسطين".كما نشر عدنان منصر، أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التونسية والناشط السياسي تدوينة على "فيسبوك"، جاء فيها: "هذا مثقف عربي يقول بالضبط ما يرضي البروباغندا الصهيونية الفرنسية، ولا يشعر بالعار إلا عندما تكون الضحية هي من يدافع عن نفسه ضد القاتل. بن جلون لا يرى القاتل أبدا إلا عندما يكون فلسطينيا". ونختم مع الناقد الفلسطيني حسن خضر الذي اعتبر في تدوينة على "فيسبوك" أن تفوق الرواية على العلوم الإنسانية "يمثل فضيحة حضارية كاملة، ووجها مُفزعا من وجوه الانحطاط في بلاد لا يقرأ الناس فيها سوى الروايات، ولا يطبع الناشرون فيها ما يتجاوز ثلاثة آلاف نسخة (أحيانا خمسمئة، وعلى حساب الكاتب) لثلاثمئة وخمسين مليونا من الناطقين بالعربية".

هذا مثقف عربي يقول بالضبط ما يرضي البروباغندا الصهيونية الفرنسية، ولا يشعر بالعار إلا عندما تكون الضحية هي من يدافع عن نفسه ضد القاتل. بن جلون لا يرى القاتل أبدا إلا عندما يكون فلسطينيا

عدنان منصر

ماذا عن باقي الكتاب الفرنكفونيين المغاربة؟

لا يجب الخلط بين ما أدلى به الطاهر بن جلون ومواقف باقي الكتاب الفرنكفونيين المغاربة، كما لا يجب تعميم هذا الموقف على جميع من يكتبون بالفرنسية في المغرب أو خارجه، سواء أكانوا من الرواد أو المخضرمين، لأن هذا الرأي يلزمه وحده في الأخير. ثم إنه من المعروف أن موقف الطاهر بن جلون من الصراع العربي الفلسطيني تدرّج بشكل لافت خلال العقود الأخيرة، خصوصا منذ فوزه بجائزة "غونكور" المرموقة عام 1987، وهو ما يفسّره البعض بالحظوة المتزايدة التي صار يتمتع بها في الأوساط الأدبية والثقافية الفرنسية في الفترة الأخيرة. ولكن ما يجهله كثيرون أنه كان في بداياته مناصرا للقضية الفلسطينية، أسوة بأبناء جيله من الكتاب والشعراء المغاربة الفرنكفونيين المتحلقين حول المجلة الثورية الرائدة "أنفاس" (1966-1972)، أمثال عبد اللطيف اللعبي ومحمد خير الدين ومصطفى النيسابوري وغيرهم. فقد تمكّن بنجلون في عام 1974 من أن يجذب انتباه الإعلام الفرنسي إليه من خلال تحقيق مفصّل، نشر على الصفحة الأولى من جريدة "لوموند"، عن رحلة الحج التي قام بها إلى الأراضي المقدسة، ثم تزايد الانتباه إليه بعد نشره عدة مقالات، تضمنت آراءه في قضايا الشرق الأوسط، أظهرت كلّها تضامنه مع الشعب الفلسطيني.

AP
فلسطينيون بين أنقاض مبنى مدمر في حي الشجاعية بمدينة غزة

من جهة أخرى، وخلال الفترة نفسها تقريبا، سيلمع اسم المفكّر والسوسيولوجي المغربي البارز عبد الكبير الخطيبي، الذي امتلك جرأة فكرية وسياسية هائلة حينما أصدر سنة 1974 كتابا ينتقد فيه الصهيونية تحت عنوان "الصهيونية والضمير غير السعيد". هذا الكتاب عرّض الخطيبي إلى هجمة شرسة من قبل الصهاينة وحتى من اليسار الفرنسي، لكن هذا لم يمنعه أن يعيد الكرّة في مقال آخر بعنوان مستفزّ حد السخرية هو "دموع سارتر"، انتقد فيه المفكر المغربي بقوة مؤسس "الوجودية" في فترة لم يكن أحد يجرؤ فيها على الوقوف في وجه سارتر، وبالأحرى انتقاده. وفي ذلك الكتاب السجالي، وقف الخطيبي مدافعا عن حق الفلسطينيين في الحياة منتقدا موقف سارتر المؤيد للمشروع الصهيوني، ومشبّها دموعه بدموع التماسيح، معتبرا أن موقف مؤسس "الوجودية" يعكس ازدواجية الخطاب الغربي، ويكشف عما يعانيه ذلك الموقف من تمزق داخلي يشكل عارا على "الرأي العام الغربي".

الشاعر والكاتب عبد اللطيف اللعبي

أما بالنسبة إلى الشاعر والكاتب عبد اللطيف اللعبي، فإن فلسطين ظلّت دوما حاضرة في مشروعه الإبداعي، منذ تفتّح وعيه الثقافي في بداية الستينات. هكذا، صرّح أخيرا في إحدى المقابلات التلفزيونية بأنّه طلب مرارا الحصول على جواز سفر فلسطيني، ولم يحصل عليه.  وبعدما تلت الحوار ردود فلسطينيّة تستغرب ما تحدّث عنه عبد اللطيف اللعبي، علما أنه زار فلسطين أكثر من مرة،  أوضح هذا الأخير قائلا: "أريد أن أطمئن الأحبّة الفلسطينيّين، وأن أؤكّد لهم أنّ كلامي حول الجواز لم يكن عتابا أو شيئا من هذا القبيل"، بل على العكس، "تمّ بدافع من فيض المحبّة التي أكنّها لهم والانصهار في قضيّتهم العادلة...كيف لي أن أطالب الأحبّة الفلسطينيّين بأكثر ممّا منحوني إيّاه أخيرا: جائزة محمود درويش للثّقافة والإبداع؟"، قبل أن يؤكد وهو الحاصل على جائزة غونكور في مجال الشعر أنّ جائزة محمود درويش "تعلو قيمتها عندي على كلّ الجوائز والتفاتات التّكريم التي حظيتُ بها إلى حدّ الآن". يُذكر أن اللعبي قدّم جوانب كثيرة من فلسطين في العديد من الأعمال، حيث بدأ ترجماته إلى الفرنسية بأنطولوجيا من شعر النضال الفلسطيني (1970)، ألحقها بأنطولوجيا أخرى للشعر الفلسطيني المعاصر (1990)، وبترجمة لقصص فلسطينية (1991)، كما نقل أعمالا للعديد من الكتّاب والشعراء الفلسطينيين، مثل غسّان كنفاني، وسميح القاسم، ومحمود درويش الذي كان اللَّعبي أوّل من ترجمه إلى الفرنسية.كما أصدر أخيرا ترجمة لأنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن بعنوان "أن تكون فلسطينيا" (دار المتوسط، 2022).

حينما أشاهد ما يحدث بغزة: جثامين الأطفال والنساء والدمار؛ أحس بالاختناق من الظلم ومن الهمجية والبربرية ومن القدرة، بل الإرادة الرهيبة، لإسرائيل على قتل الناس الأبرياء وتدمير شعب بأكمله


إدموند المالح

نختم مع اسم بارز جدا في الأدب المغربي المعاصر المكتوب بالفرنسية، ويتعلق الأمر بالراحل الكبير إدموند عمران المالح (1917-2010). هذا الكاتب الذي ينحدر من أصول يهودية، أوصى في نهاية حياته أن يوصف بأنه "مغربي يهودي" وليس "يهوديا مغربيا". حين كانت الحركة الصهيونية، في أوج نشاطها خلال منتصف القرن العشرين، تُشجع اليهود على الهجرة إلى إسرائيل وكان ذلك مغريا لكثير من اليهود، رفض إدموند عمران المالح بشدة الهجرة إلى "الوطن" الجديد، وأخذ عهدا على نفسه بأن يظلّ في المغرب حتى آخر العمر. كما أنّه، لاحقا، ناهض الصهيونية بجسارة منقطعة النظير. صرّح مرّة: "لا أعرف أي دولة اسمها إسرائيل"، وتناولت العديد من أعماله قضية الشعب الفلسطيني، كما رفض أن تترجم إلى العبرية حتى لا تتاجر إسرائيل بأفكاره. أصدر في عام 2004، تعليقا على "مجزرة جنين"، بيانا بعنوان "أنا أتهم"، يدين فيه الوحشية الإسرائيلية، واعتبر الصهيونية حركة عنصرية تتباهى بقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، تتنافى مع الديانة اليهودية.

الكاتب المغربي اليهودي إدموند عمران المالح

وفي حرب إسرائيل على غزة، عام 2008، قال: "حينما أشاهد ما يحدث بغزة: جثامين الأطفال والنساء والدمار؛ أحس بالاختناق من الظلم ومن الهمجية والبربرية ومن القدرة، بل الإرادة الرهيبة، لإسرائيل على قتل الناس الأبرياء وتدمير شعب بأكمله". وفي آخر حياته، هاجم المالح طريقة تناول محرقة "الهولوكست"، وانتقد خطابها الذي اعتبره مغلوطا ومغرضا، ويحصر الجرائم اللاإنسانية فيها، بينما قد عرف التاريخ جرائم أفظع، من بينها "تلك التي ترتكبها إسرائيل نفسها".وفي حوار أجراه قبيل وفاته، تحدّث المالح وكأنه يلخص الفكرة التي منحها حياته، إذ قال يومها: "إسرائيل أضرّت بروحية الديانة اليهودية، وهذا الأمر يتطلّب منّا جهدا حتى نتغلّب على هذه الصورة"، مضيفا "سبق لي أن قمت بدراسة وقلت إن هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل كارثة بالنسبة لتاريخ المغرب، ليس فقط بالنسبة إلى اليهود أنفسهم ولكن للمغاربة ككل".

font change

مقالات ذات صلة