مكاسب متواصلة للصين

الحرب في قطاع غزة اختبار جديد لجدوى استراتيجية النفس الطويل، التي تتبعها الصين

مكاسب متواصلة للصين

الحرب في قطاع غزة اختبار جديد لجدوى استراتيجية النفس الطويل، التي تتبعها الصين منذ أن بدأت في تعزيز حضورها الدولي أوائل التسعينات. أعطت أولوية متقدمة لتقوية اقتصادها وقدراتها العسكرية وتحقيق قفزات تكنولوجية لتعظيم عناصر قوتها الشاملة الخشنة والناعمة على حد سواء، بالتوازي مع تعزيز مناعتها ضد الانزلاق لمغامرات أو الاستجابة لاستفزازات، واعتمدت على حسابات دقيقة في ردود أفعالها على مواقف أميركية ضدها؛ فهي ترد بما يمكنها من المحافظة على مصالحها، وتفرض نمط التنافس المضبوط بدل الصراع المفتوح. وتلجأ، في الوقت نفسه، إلى ضبط النفس في إدارة ملف تايوان التي يعترف العالم بأنها جزء من البر الصيني، حتى لا تتورط في حرب مكلفة تعوق جهود تعظيم قوتها في وقت لا تختاره أو لا يناسبها.

استهان عدد غير قليل من الخبراء والساسة في العالم بهذه الاستراتيجية، وظنوا في أصحابها الظنون. ويتوقع بعض المستهينين أن تبقى بكين طول الوقت خلف واشنطن، اعتقادا في أنها مترددة تقدم رجلا وتؤخر الثانية. ولكن ما يحدث في العالم الآن يفيد أنها استراتيجية ناجحة في الأغلب الأعم، ظهر ما يؤشر إلى نجاحها، أولا، عندما شنت روسيا حربها على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022. ويتبين هذا الآن، وربما بدرجة أكبر، مع انشغال الولايات المتحدة في حرب غزة والصراع المرشح للتصاعد في الشرق الأوسط؛ فبعد أن انغمست روسيا في حرب أوكرانيا وتداعياتها، وصارت أكثر اعتمادا على الصين، تنشغل الولايات المتحدة الآن بالحرب في غزة، ويزداد تورطها في صراعات المنطقة التي كانت قد بدأت في تقليص دورها فيها لتوجيه اهتمامها الأكبر صوب شرق آسيا، حيث يوجد التحدي الرئيس أمامها.

تستفيد الصين من شراء كميات إضافية من الغاز الروسي بسعر أرخص، فيما تكون موسكو ممتنة لها في الوقت نفسه لأنها تعوضها عن بعض خسائر المقاطعة الغربية

كسبت الصين، وما زالت، من تورط روسيا غير المحسوب في أوكرانيا. تنامت حاجة موسكو إليها، وصارت أكثر اعتمادا عليها من أي وقت مضى. وعكس الوضع الذي استمر لعقود عدة كانت الصين في حاجة إلى معونات سوفياتية. ترتاح الصين، على المستوى الاستراتيجي، لانغماس روسيا في صراع يخصم من قوتها الشاملة. ويريحها أكثر أن يفرض هذا الانغماس على روسيا السعي المستمر لتوسيع العلاقات معها. وتزداد مكاسبها، على هذا المستوى، كلما ازداد اعتماد روسيا على دعمها السياسي رغم أنه ليس كاملا، والتكنولوجي رغم أنه محدد بسقف لا يتجاوزه. كما تستفيد من شراء كميات إضافية من الغاز الروسي بسعر أرخص، فيما تكون موسكو ممتنة لها في الوقت نفسه لأنها تعوضها عن بعض خسائر المقاطعة الغربية.

وتطمح الصين، والحال هكذا، لأن تبقى روسيا قوة إقليمية تتكئ عليها، وتقل قدرتها على العودة إلى موقعها السابق كقوة دولية كبرى. وهذا منطقي ما دامت الصين تتقدم كل يوم في طريقها إلى وراثة الموقع الدولي الذي كان فيه الاتحاد السوفياتي السابق.

وأن تتكئ روسيا على الصين يعني أنها الطرف الأضعف في علاقة يحتاجها الطرفان في مواجهة خصم أو عدو مشترك في الغرب. وأن تكون روسيا هي الطرف الأضعف يعطي الصينيين إحساسا بالفخر، ويزيل ما بقى من شعور بالألم جراء ما يرونه ظلما تاريخيا لحق بهم في الصراع الحدودي الطويل مع روسيا، الذي تعود أصوله الأقدم إلى القرن الخامس عشر والأحدث إلى القرن التاسع عشر، وكانت الصدامات التي حدثت على الحدود عام 1969 آخر فصوله.

بلغت قيمة المساعدات العسكرية والأمنية التي قدمت إلى أوكرانيا عن طريق الكونغرس أكثر من 113 مليار دولار حتى مطلع سبتمبر/أيلول

غير أن مكاسب بكين من انشغال واشنطن في حرب غزة والصراع في الشرق الأوسط يرجح أن تكون أكبر مما حققته بسبب تورط روسيا في أوكرانيا. فقد أصبح على الولايات المتحدة الحضور في حربين في آن معا. ورغم أنها لا تشارك في أي منهما بشكل مباشر، ستزداد كلفة الدعم المالي والعسكري واللوجستي التي كانت كبيرة بسبب حرب أوكرانيا. وأسهمت هذه الحرب في زيادة الديون الأميركية، ومن ثم في الأزمة الداخلية الناشبة حول رفع سقف الدين. فقد بلغت قيمة المساعدات العسكرية والأمنية التي قدمت إلى أوكرانيا عن طريق الكونغرس أكثر من 113 مليار دولار حتى مطلع سبتمبر/أيلول. وهاهي "سبحة" المساعدات الطارئة والإضافية لإسرائيل بدأت تكر، إذ وافق مجلس النواب في أول الشهر الجاري على مساعدات قيمتها 14.5 مليار دولار.

وربما تتضاعف الأعباء المالية التي ستتحملها والآثار الاقتصادية المترتبة عليها إذا استمرت الحرب، وتداعياتها حتى استقرار الأوضاع في غزة، لفترة طويلة، وهذا وارد جدا. وستكون هذه الأعباء أكبر وأفدح في حال توسع نطاق هذه الحرب إلى مدى يجعلها حربا إقليمية شاملة. ولهذا تبذل واشنطن أقصى جهدها لتجنب هذا الاحتمال- الخطر.

ورغم أن ميزان القوى مختل بشدة لمصلحة إسرائيل، تمدها الولايات المتحدة منذ بداية الحرب بصواريخ وقنابل وتدعم نظم دفاعها. كما تضخم في الوقت نفسه وجودها العسكري في المنطقة لردع حلفاء حركة "حماس" ضمن محاولاتها لإبعاد خطر توسع الحرب؛ فقد أرسلت حاملتي الطائرات العملاقتين "يو إس إس جيرالد فورد"، و"يو إس إس آيزنهاور" اللتين يكلف تحريكهما وإبقاؤهما في المنطقة لفترة غير معلومة مبالغ طائلة. كما أرسلت سفنا برمائية هجومية أهمها "يو إس إس باتان" التي تحمل مئات من وحدة مشاة البحرية السادسة والعشرين، ومثلهم من وحدات التدخل السريع، فضلا عن أنظمة دفاع جوي حديثة. ووصل عدد الجنود الأميركيين المرسلين في الأسابيع الأخيرة فقط إلى أكثر من عشرة آلاف.

ربما تستغل بكين انغماس واشنطن في الشرق الأوسط أيضا في السعي إلى تبريد صراعات مع دول مجاورة تنازعها على جزر في بحر الصين الجنوبي

وفضلا عن التكلفة المالية المترتبة على إرسال هذه القوات وتوفير خطوط إمداد مستمرة لها، والمساعدات المليارية التي اعتمد الكونغرس دفعتها الأولى قبل أيام، والمتوقعة بعدها، لا يمكن أن يكون هذا الانشغال المتزايد بالصراع في الشرق الأوسط إلا على حساب خطط توسيع الحضور الأميركي في شرق آسيا، وفي منطقة المحيطين الهادئ والهندي بوجه عام. ويخلق هذا التراجع الاضطراري في منطقة تعتبرها واشنطن الأهم استراتيجيا فرصة للصين لتعزيز حضورها فيها، والاقتراب من بعض حلفاء واشنطن المشغولة عنهم، كما فعلت مع استراليا قبل أيام. فقد اتفقت الدولتان، بعد محادثات خلال زيارة رئيس الوزراء الاسترالي أنتوني ألبانيري إلى بكين، على العمل لتحسين العلاقات بينهما. وأكد ألبانيري في 5 نوفمبر/تشرين الثاني رغبة بلاده في هذا التحسن. وربما تستغل بكين انغماس واشنطن في الشرق الأوسط أيضا في السعي إلى تبريد صراعات مع دول مجاورة تنازعها على جزر في بحر الصين الجنوبي، مثلما فعلت من قبل مع فيتنام حيث أحبطت محاولة الأميركيين ضمها إلى قائمة حلفائهم، فبقيت في موقع محايد.

ولهذا يبدو أن مكسب الصين الاستراتيجي بسبب الانشغال الأميركي في الشرق الأوسط يمكن أن يكون كبيرا، وربما يفوق استفادتها المتوقعة من تفاقم أعباء الولايات المتحدة المالية وآثارها السلبية على اقتصادها الكلي، في الوقت الذي يشتد السباق الاقتصادي بينهما.  

font change