بلينكن يحصد "إهمال" بايدن

تراجع كبير في نفوذ واشنطن بالمنطقة

بلينكن يحصد "إهمال" بايدن

ما من أمر يوضح التراجع الكبير الذي يشهده النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط أكثر من الجهد غير المثمر الذي بذله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لنزع فتيل التوتر الذي نشأ في الشرق الأوسط بسبب أزمة غزة.

لم يمض زمن بعيد على الوقت الذي كان فيه مجرد وصول الدبلوماسي الأميركي البارز إلى المنطقة أمرا كافيا لإقناع السلطات الحاكمة بالاستماع بعناية لمطالب واشنطن، حتى لو لم يُمتثل لها دائما على نحو كامل.

لقد أفضت الدبلوماسية المكوكية المرهقة التي قام بها هنري كيسنجر عقب حرب "يوم الغفران" عام 1973 إلى اتفاقات كامب ديفيد التي صادقت على اتفاق السلام الذي أُبرم بين مصر وإسرائيل. بينما مهّد التزام إدارة بيل كلينتون بعملية السلام الطريق أمام اتفاقات أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين.

حتى إن رئاسة دونالد ترمب، والتي لم يكن من الممكن التنبؤ بمساراتها، تمكنت من اكتساب درجة من الصدقية في المنطقة من خلال تبنيها نهجا لا هوادة فيه في تدمير تنظيم داعش، وقرارها بسحب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني المثير للجدل، وكذلك دورها في التوسط في اتفاقات إبراهيم، الأمر الذي أدى إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكثير من الدول العربية.

تبلورت ديناميكية متغيرة في العلاقة بين أميركا والأنظمة العربية التي كانت تُعتبر في السابق حليفة لواشنطن، ولكنها تظهر حاليا عدم رغبتها في الخضوع لإملاءاتها

على النقيض من ذلك، فإن شبح الإهمال المتعمد الذي أظهرته إدارة جوزيف بايدن تجاه حلفائها التقليديين بالمنطقة في سعيها الرامي لإحياء الاتفاق النووي مع إيران يعود الآن ليطارد البيت الأبيض، إذ أظهر عدد من القادة الإقليميين عدم استعدادهم للامتثال لرغبات واشنطن.
لقد تبلورت ديناميكية متغيرة في العلاقة بين أميركا والأنظمة العربية التي كانت تُعتبر في السابق حليفة لواشنطن، ولكنها تظهر حاليا عدم رغبتها في الخضوع لإملاءاتها. وظهر ذلك على نحو واضح خلال الجولة الأخيرة من الدبلوماسية المكوكية التي قام بها بلينكن في الشرق الأوسط، حيث انصب تركيزه الأساسي على تخفيف آثار الكارثة الإنسانية التي تؤثر في نحو مليوني شخص فلسطيني تضرروا من الصراع المتفاقم في غزة.
لقد وضع بلينكن نُصب عينيه أجندة مليئة بالتحديات خلال زياراته التي قام بها إلى كل من القدس، ورام الله، وعمان، وبغداد، وأنقرة. وعلاوة على تخفيف آثار الأزمة الإنسانية القائمة في غزة من خلال إقناع إسرائيل بتخفيف القتال للسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى القطاع المحاصر مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، فقد كان بلينكن حريصا كل الحرص على تشجيع الزعماء الإقليميين على البدء في التفكير في حلول طويلة الأجل لإنهاء الصراع في غزة. وتمثل هدفه الآخر في منع الصراع من الانتشار خارج الحدود المباشرة لغزة.

استجابة ضعيفة

وإذا ما نظرنا إلى الاستجابة الضعيفة التي تلقاها بلينكن من وسطائه الكثيرين، يمكننا القول إن قدرة واشنطن على ممارسة نفوذها على الأحداث في المنطقة وصلت إلى أدنى مستوى تاريخي لها؛ ففي إسرائيل، على سبيل المثال، حيث كان بلينكن حريصا على تجنب التطرق للقضية الشائكة المتمثلة في المطالبة بوقف قصير لإطلاق النار، لم تلق نداءاته لتل أبيب باحترام "هدنة إنسانية" في هجومها العسكري ضد "حماس"، سوى القليل من الترحيب من جانب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وقبل أن تشن "حماس" هجومها المدمر ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت العلاقات بين الرئيس بايدن ونتنياهو تمر بحالة من التدهور الفعلي بسبب معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي الشديدة لمحاولات واشنطن إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
وعلى الرغم من أن بايدن سارع إلى إظهار دعمه لإسرائيل عقب هجوم "حماس" من خلال إرسال مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط  لتفادي تصعيد الصراع، إلا أن نتنياهو أبدى قليلا من الاستعداد للامتثال لطلبات بلينكن. وبدلا من ذلك، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بصراحة مجرد التفكير في وقف مؤقت للصراع، مُجادلا بأنه يجب الإفراج أولا عن نحو 240 إسرائيليا محتجزا لدى "حماس".
لقد نفذت قوات الدفاع الإسرائيلية غارة جوية على سيارة إسعاف قالت إن "حماس" تستخدمها، كما لو كان ذلك تأكيدا من جانب إسرائيل على مقاومة الضغط الذي تمارسه واشنطن عليها للتقليل من ضراوة الهجوم ضد "حماس"؛ وقد أضاف الجيش الإسرائيلي أن "عددا من نشطاء حماس الإرهابيين" قُتلوا في الغارة.

رفض وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الاقتراحات الأميركية بشأن تكثيف الدول العربية دورها في أزمة الشرق الأوسط الأخيرة

كما وجد بلينكن نفسه محبطا عندما زار الأردن لحضور قمة لوزراء خارجية كل من المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وقطر، فضلا عن الدولة المضيفة ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقد دانت الأطراف المشاركة في القمة كل التكتيكات الإسرائيلية ضد "حماس"، معتبرة أنها بمنزلة عقاب جماعي غير قانوني ضد الشعب الفلسطيني.
وقد أوضح المشاركون أنهم ليسوا في وارد الامتثال لاقتراح بلينكن بأن يبدأوا في التفكير في إدارة المرحلة التي تلي الصراع في غزة، طالما استمرت إسرائيل في هجومها العسكري.
لقد رفض وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الاقتراحات الأميركية بشأن تكثيف الدول العربية دورها في أزمة الشرق الأوسط الأخيرة. وأصر على أن الهدف الرئيس للاجتماع كان "في سياق جهودهم الرامية إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزة والكارثة الإنسانية التي تتسبب فيها".

إجماع عربي

وفي الوقت نفسه، قال مسؤولون مصريون إن هناك إجماعا بين الحكومات العربية المشاركة في المناقشات مع الولايات المتحدة على مقاومة "أي محادثات" بشأن فترة ما بعد الحرب في غزة، قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار والسماح بإيصال المزيد من المساعدات الإنسانية والوقود إلى غزة.
ومن ثم تتمثل أولوية مصر في تنفيذ وقف للأعمال القتالية لأسباب إنسانية لمدة تتراوح بين 6 إلى 12 ساعة يوميا للسماح بإيصال المساعدات وإجلاء المصابين بجروح خطيرة إلى مصر وإدخال الوقود.
وقد تبين أن زيارة بلينكن إلى أنقرة لم تكن مثمرة أيضا. وبدلا من الاستجابة لدعوته لأن يكون لتركيا دور بناء في حل الأزمة، أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه لا ينوي التعامل مع نتنياهو في المستقبل. ونُقل عنه قوله لبلينكن: "لقد شطبناه".
إن فشل وزير الخارجية الأميركي الذريع في فهم قوة الشعور الراهن في العالم العربي، والذي يتجلى من خلال صور الأطفال الفلسطينيين المرصوصين في أكفان الموتى يوميا على محطات التلفزة العربية، قد تفاقم عندما نصح بلينكن السلطة الفلسطينية، باعتبارها العدو اللدود لـ"حماس"، بأن يكون لها دور في غزة بمجرد تطهيرها من الأخيرة. 
إن حقيقة عودة بلينكن إلى وطنه خالي الوفاض من مهمته الدبلوماسية المكوكية إلى المنطقة لم تثبت عدم قدرته على فهم المشاعر المريرة التي ولّدها الصراع في غزة على كلا الجانبين فحسب، بل سلطت الضوء أيضا على التراجع الكبير الذي يعانيه نفوذ واشنطن في المنطقة منذ تولي إدارة بايدن السلطة.

font change