سلالة
من خلال قراءاتي وجدت أنّه لم يتخلّ لحظة عن الغنائية، وإن تداخلت مع الملحميّة في قصيدته الرائعة "النشيد الكبير". واكتشفت أنّه ينتمي في غنائيّته إلى سلالة ضاربة الجذور في أميركا اللاتينيّة وفي أوروبا، منذ رونسار، وروبيليه وحتى الرمزيّة في بعض جوانبها، مرورا بالينبوع المتدفّق: الرومنطيقيّة من لامارتين وهوغو في فرنسا إلى هولدرلن وكيتس وبايرون وويتمان وغوته. لكن أين غنائيّته؟ لا نبالغ إذا قلنا إنّه تأثّر أو استوعب أو اغترف منها كلّها، فمن حالة رومانسيّة مبسّطة رافقته منذ بداياته وهو في العشرينات حتى آخر أيّامه، إلى غنائيّة توسّعت نحو الآخر، أي إنّه واجه العالم بفكره، لكن بعاطفيّة واعية لمجمل التناقضات والقضايا الإنسانية، من ظروف الاستبداد إلى واقع العمّال والفلّاحين والشعوب المسحوقة، والظلم الاجتماعي والتاريخ المرتبط بالحاضر، والحاضر المفتوح على التواريخ.
هذا يعني أنّ نيرودا الغنائي شاعر الداخل أولا، ذلك الداخل المتدفّق على الخارج، وشاعر الخارج الذي يمتزج في الداخل، العقلاني الذي ينظر إلى عقلانيّة حسّية، رومانسي شفّاف يوظّف شغفه في أوسع من الذاتية، وحدودها الضيّقة، من منطلق المغادرة الدائمة إلى الآخر. فهو شاعر الذات بقدر ما هو شاعر العالم، تخرج ذاته إلى ما هو أرحب، إلى الشارع، إلى المصانع والسجون والمنافي والفقراء... إلى التفاوت الاجتماعي: إنّها غنائيّة نقديّة في بعض جوانبها.
فهو أكثر شعراء أميركا اللاتينيّة كتابة عن الحب، فمنذ بداياته "عشرون قصيدة حب" إلى مراحله المتقدّمة "مئة قصيدة حب"، عرف كيف يجمع بين الإحساس المباشر وبين ربط هذا الحب "الشقيّ" الجارف بالأرض والطبيعة وبالزمن.
لكن علينا أن نتبع هذه الغنائية الرقيقة والعنيفة والفاجعة في عشقه إلى ما هو أوسع، عندما تتعانق بمناخات خياليّة وأسطوريّة عالية الملحميّة، لا سيّما في تحفته "النشيد العمومي" أو في "سيف اللهب" حين يمتزج الحسّ الخاص بما هو أوسع لتتداخل فيها الخوارق والحكايات والتواريخ في بنية متماسكة ومفتوحة، فغنائيّته هنا تخترق المخيّلة التاريخيّة والذاكرة الجماعيّة، هي لغة يبني عمارتها حجرا حجرا ونشيدا نشيدا. إنّه الوعي الحاد بالتاريخ اكتسبه من ثقافته الأيديولوجيّة والاجتماعية، وهو الوعي الحاد اكتسبه من تراثه اللاتيني، وهو يمر بكيمياء العناصر اللغويّة والإيقاعيّة، اكتسب بعضها من ثقافته الأوروبيّة لا سيّما الفرنسيّة، وهذا ما فعله ماركيز وبورخيس.
تمثال نصفي للشاعر التشيلي بابلو نيرودا يقع بجانب بحيرة في حديقة تشاويانغ في بكين
تقاطعات
لكن علينا أن نعرف أيضا أنّ نيرودا تقاطع مع السورياليّة وافترق عنها (كرينه شار وأنطونان أرتو وحتى لوركا، وعلينا أن نعرف أنّ الصورة السورياليّة، وإن هامشيّة أحيانا، تلتقي مناخات الصوفيّة، والصوفيّة حواس متلاشية، أو غافلة، أو حالمة... لكن عند نيرودا الصورة جزء من الصمت؛ الصوفيّون "ذوو عيون مغلقة" يستنبطون بها العالم. أمّا عند نيرودا فالصورة طالعة من "عين مفتوحة" على العالم، أي ماضية إلى وظيفة ومعنى وإيحاء وفكرة أي حقيقيّة مغادرة لقيمتها "الإدهاشية" ومجانيتها.
لكن إذا كان نيرودا أهمل ما أهمل وأخذ ما أخذ، فلأنّه انفتح أحيانا على الرمزيّة (ومن شعرائها ألبير سافان، جان بول، جيمس، وصولا إلى مالرمه وصعودا إلى بودلير وبول فرلين وحتى رامبو. أقصد أنه لعب لعبة الظاهر والباطن (وهي أيضا عند الصوفيين)، الرمز والمرموز أي المجاز الذي يحبك عناصره حبكا مشدودا، أو حبكا يستغل فيه مبدأ "الإيحاء" بدلا من التفسير المباشر سواء عبر الصورة (رامبو)، أو الموسيقى (فرلين) أو الاثنين معا (بول فاليري). لكن علاقة نيرودا بالرمزيّة كعلاقته بالسورياليّة، علاقة تقاطع ومغادرة. هو ابتعد عن الوقوع في التصنيفات الشعريّة، وفي الكاتدرائيات النظريّة. أي ابتعد عن تبنّي إحدى المدارس كأبجديّة مكتملة يستغلّها كمفردات.
نقول هذا من دون أن نغفل أن نيرودا الذي نأى بنفسه عن الارتباطات الجماليّة المحدّدة، قد التزم الفكر الماركسي (أو الشيوعي) كمناضل وحزبي حتى آخر أيّامه. هل هو تناقض؟ ربّما. لكن نيرودا بقي في مجمل نتاجه ذا التزام مفتوح، بلا ارتباط مقنّن، كأنّما انتصر الشاعر على الأيديولوجيا، فعدا بعض شعره السياسي المباشر كتب معظم شعره خارج هذه الالتزامات الشيوعيّة، سواء في "حجارة تشيلي" أو في "قصائد حبّ" وهكذا كان لوركا وألبرتي بالنسبة إلى إسبانيا، وناظم حكمت بالنسبة إلى تركيا. لكن إذا كان نيرودا من أصحاب الضربات الجماليّة العالية، فإنّه في المقابل بقي شاعر الضوء بامتياز، أي شاعرا لم يلجأ على امتداد مراحله (عدا مرحلة شبابه) عندما مال إلى شيء من السورياليّة لكن لا إلى الغموض ولا إلى الالتباس المفتعل، علما بأنّ صورته بعناصرها تؤدّي إلى التباس مفتوح ومشعّ، لا إلى الصيغ الوعرة، ولا إلى عتمة الداخل، ولا إلى التمارين اللغويّة (كالشاعريَن السورياليَّين الفرنسيَّين ريمون كلينو وفيليب سوبو)، ولا إلى اجتراحات شكلانيّة، بل سهولة مركّبة. وابتعد كذلك عن "عتبة العمق" عند بول فاليري، وعن انغلاقيّة مالارميه خصوصا في قصيدته "رمية نرد".
ذلك أنّ الغموض إذا كان لمّاحا عنده، فهو غموض شفّاف موحٍ، أي لا غموض بمحاولات تجريبيّة مجرّدة، فهو بعيد عن المختبرات، بل هو غموض العناصر الطبيعيّة المدهش: ونظنّ أنّ استغلاله الأساطير والحكايات ما هو سوى تحليق في ظواهر غرائبيّة، باعتبار أن كل أسطورة هي "فعل مركّب وإدهاشي في ذاته ينفتح على الظواهر العجيبة (خصوصا في بلاده تشيلي إلى ما هو "مقدّس" في اللاوعي الإنساني، يتجاوز الحسابات العقلانيّة.