دوامة الحرب في السودان... إلى أين؟

Reuters
Reuters
شابة سودانية من ضحايا العنف في الجنينة امام خيمة في أدري في التشاد

دوامة الحرب في السودان... إلى أين؟

دخلت الحرب بين الجيش السوداني وميليشيا "قوات الدعم السريع" شهرها الثامن، من دون أفق لأي اختراق إيجابي يساهم في إنهائها.

انهارت منصة التفاوض التي رعتها الوساطة السعودية- الأميركية المشتركة على مذبح عدم جدية طرفي القتال في التعامل معها وعدم التزامهما بما تم الاتفاق عليه في الجولات السابقة. وانعقدت قمة دول "الإيقاد" (الهيئة الإقليمية للتنمية) يوم السبت الماضي، واختتمت أعمالها ببيان ختامي لم تتأخر وزارة الخارجية السودانية طويلا قبل أن تعترض عليه بمبررات أقل ما يقال عنها إنها واهية، فيما تنصلت "قوات الدعم السريع" من الالتزام بما ورد فيه من مقترح على عقد لقاء مباشر بين قائدي الطرفين (عبدالفتاح البرهان، ومحمد حمدان دقلو "حميدتي") لتبلغ سكرتارية "الإيقاد" أن من سوف يلتقي بقائد الجيش، سيكون شقيق حميدتي، عبدالرحيم دقلو، الذي يشغل في الحين ذاته منصب نائب قائد "الدعم السريع".

وفي الحين ذاته، استمر التضليل الإعلامي الذي يمارسه طرفا القتال ومن يواليهما من المدنيين بكثافة وهو تضليل أخطر على جهود إيقاف الحرب من كل هجمات ميليشيا الجنجويد وقصف الجيش. كمية الضلالات المنتشرة عن تسريبات من جدة عن فتوى لخبير أجنبي حول عدم ضرورة خروج الميليشيا من بيوت المواطنين أو عن مداولات اجتماعات "الإيقاد" المغلقة أو غيرها والتي تنتشر بشكل مذهل.

ولم تكف الحرب وويلاتها وعذابات الناس جراءها، لتعلم بعض القوى المدنية السودانية أن البروباغندا والأكاذيب لا يمكن أن تخدم غرضا جيدا أو هدفا شريفا. ولا يمكن للقوى السياسية المدنية أن تسعى لحكم الناس بخداعهم أو بخلق واقع مغاير لما يعايشونه ويشاهدونه كل يوم.

قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حميدتي"

بروباغندا العبث بأحلام وآمال السودانيين الذين ينتظرون أن تتوقف الحرب ليرجعوا إلى أهلهم وديارهم ووطنهم لا يمكن أن تكون مفيدة أو إيجابية، فالناس سيعلمون الحقائق، ولو بعد حين، ذلك ناهيك عن أنهم يشاهدونها نصب أعينهم كل ساعة؛ فالميليشيا لا تكف عن ارتكاب الانتهاكات والجرائم. آخرها ما أورده محامو الطوارئ عن ارتكاب الميليشيا لعدد من جرائم الاغتصاب الجديدة من قبل منسوبي "الدعم السريع" بحق 56 فتاة بجنوب دارفور بينهن خمس قاصرات وثلاثة أطفال ذكور، وهو ما نتج عنه حالة وفاة واحدة. في حين يستمر عجز الجيش أو عدم رغبته في أداء أي مهام متعلقة بحماية المدنيين أو استعادة الاستقرار للبلاد. والنتيجة واحدة، هي مزيد من المعاناة التي تقع على المدنيين.

لا جديد في سلوك القوى السياسية المسيطرة على توجيه حراك تحالف قوى الحرية والتغيير. وهو السلوك نفسه الذي مارسته هذه القوى وأدى إلى تضعضع التحالف وتكسره

في الجانب المدني، تستمر اجتماعات النخب السياسية بين أديس أبابا ونيروبي وغيرهما من العواصم، في ظل البحث عن تحالف مدني تسيطر عليه "قوى الحرية والتغيير" ويعمل كواجهة جديدة لها في العملية السياسية. وأعلنت الجبهة المدنية (تقدم) التي تم إعلان تأسيسها في أديس أبابا، خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، عن تشكيل هيئة لتنظيم مؤتمر جامع لتوحيد المدنيين في نهاية العام حول سبل إيقاف الحرب. 
لكن لم تلبث "قوى الحرية والتغيير" بعد أيام من اجتماع أديس أبابا أن أعلنت منفردة عن مبادرة لها لإيقاف الحرب، وأرسلتها لطرفي القتال في السودان، لمناقشتها معهم، وكأنما تناست الجبهة الموحدة التي لم تنقضِ أيام قليلة على تكوينها. وعادت "قوى الحرية والتغيير" إلى عادتها القديمة في محاولة احتكار الصوت المدني في أي عملية سياسية لضمان أكبر قدر من المقاعد السياسية لأعضائها. ولم تتأخر الهيئة القيادية لـ"تقدم" أن فعلت الشيء ذاته بأن أعلنت عن خارطة طريق لإيقاف الحرب، وتناست دورها الأساسي بتنظيم مؤتمر توحيد القوى المدنية، والذي طواه النسيان ويتم تداول الأخبار عن تأجيل عقده إلى مطلع العام القادم. 
الشاهد أنه لا جديد في سلوك القوى السياسية المسيطرة على توجيه حراك تحالف قوى الحرية والتغيير. وهو السلوك نفسه الذي مارسته هذه القوى وأدى إلى تضعضع التحالف وتكسره. وهو التركيز على الجهات المشاركة وتوزيع مكاسب العملية السياسية كغنائم وليس المحتوى المرجو منها أو الأهداف التي تخدمها. 
العملية السياسية التي سبقت الحرب كانت مختلة التصميم بشكل جعلها متعلقة بالأطراف المشاركة وليس القضايا التي تريد معالجتها، وسؤالها الأساسي كان: من يجلس على الطاولة؟ والهدف منها بشكل رئيس اقتسام السلطة وليس معالجة قضايا الانتقال واستعادة التحول الديمقراطي. وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى فشلها في تحقيق أي من ذلك، وانتهائها بهذا الشكل المفجع للبلاد.

قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان


دفع هذا التصميم المختل للعملية السياسية بالقوى المدنية المشاركة فيها والتي كانت خارج السلطة بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 إلى تقديم تنازلات كثيرة ومتتالية في قضايا رئيسة مثل العدالة الانتقالية والاقتصاد وغيرها إلى شريكي الانقلاب حينها والفصيلين المتحاربين الآن- الجيش، وقوات الدعم السريع- بينما تصلب الطرفان المسيطران على السلطة في مواقفهما بشكل كبير وخصوصا في القضية التي تعنيهما بشكل مباشر وهي قضية إصلاح القطاعين الأمني والعسكري؛ مما أدى إلى زيادة حدة الاستقطاب والتوتر العسكري الذي انتهى بالحرب التي اندلعت يوم 15 أبريل/نيسان 2023. 

الترتيب الصحيح لأولويات العمل السياسي الوطني الآن يبدأ من البحث عن سبل تخفيف معاناة الحرب على السودانيين. وكيف يمكن إغاثتهم في ظل هذا الجنون والجحيم المنصب فوق رؤوسهم

وغني عن الذكر أن بقايا النظام السابق زادوا نار هذا الاستقطاب والخلاف حطبا وهم يحاولون الاستفادة منه إلى أقصى حد للانتقام من الشعب السوداني الذي أسقط حكمهم بانتصار ثورة ديسمبر/كانون الأول. 
البروباغندا التي تمارسها بعض قيادات التنظيمات السياسية حاليا من قبيل أن فلانا أو فلانا مهدد بالقتل، أو أن هذا الطرف أقرب لتبني إيقاف الحرب من الآخر، أو أن الخبير الأجنبي في جدة أفتى بهذا أو ذاك وعمليتنا السياسية هي الحل وما شابه، هي أمر مخجل؛ فالشعب السوداني كله مهدد بالقتل في ظل هذا الموت العشوائي وسط جنون الحرب، والسودان يحتاج لعملية سياسية بوصلتها حل أزمته وليس جهة السلطة ومن يجلس على مقاعدها. 
والعملية السياسية ليست كلمة سحرية فيها الحل، بل إن ما نحتاجه هو عملية سياسية صحيحة السبك وذات هيكلة سليمة قادرة على إنقاذ السودان من مصير التفكك والانهيار الذي يمضي إليه سريعا. وذلك لا يكون بغير مخاطبة الأسئلة الصعبة وليس التهرب منها بنشر الضلالات الدعائية. 
ما شهدناه سابقا في عملية الاتفاق الإطاري كان عملية سياسية، وكانت فاشلة لدرجة أن نهايتها كانت حربا اندلعت بين المشاركين فيها، ولكنها لم تكن العملية السياسية الوحيدة الممكنة- أو كما كان يتم وصفها (the only game in town) وكانت نتيجتها الفعلية ما نشهده الآن وإن لم تتسبب فيه بشكل مباشر. 
لم تطلق قوى الحرية والتغيير الرصاص ولكنها أخطأت التقدير السياسي. وخطأ التقدير ليس عيبا ولا حراما وليس هناك معصوم منه، لكن ما هو معيب هو محاولة الإصرار على هذا الخطأ ومحاولة تبريره وتصويره صوابا ومحاولة الاستعانة به لتحقيق مكاسب سياسية. أما خلطه بمهمة وقف الحرب العاجلة وإنقاذ البلاد من جنونها فهو الأمر المعيب جدا والذي لا يليق بالقوى الوطنية.
إن الترتيب الصحيح لأولويات العمل السياسي الوطني الآن يبدأ من البحث عن سبل تخفيف معاناة الحرب على السودانيين. وكيف يمكن إغاثتهم في ظل هذا الجنون والجحيم المنصب فوق رؤوسهم ليفرقهم بين محاصر في مناطق القتال ونازح من داره في بلاد السودان الواسعة ولاجئ في بلاد الآخرين. أما البحث عن المناصب والسعي وراء المكاسب السياسية وبقية شهوات النفس السياسية فليس هذا وقتها. 
 

font change

مقالات ذات صلة