معذبو التاريخ والجغرافيا

معذبو التاريخ والجغرافيا

لا ندري إلى أين ستمضي بنا الحرب، مع أن ليس هناك في الأفق سوى الهلاك، وهو هلاك لا يقاس بكمية الدم المسفوح، في كل جانب، أو بعدد الجثث التي لم تعد المقابر تتسع لها، بل يذهب ليشمل كل شيء بما في ذلك ما كنا نظنها قيما عصرية أو "عقلا وتعقلا"؛ فما نراه من دمار في غزة يؤكد أننا في حرب انتقامية تمادى فيها الإسرائيليون إلى أقصى درجات التوحش، بهدف إيقاع أكبر ضرر في الفصائل الفلسطينية كي لا تكرر فعلها المتمثل في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لاعتقاد منهم أن مشاهد القتل الجماعية المرعبة قد تردع الفلسطينيين عن القيام بأي خطوة تمس دولة الاحتلال. وهم بذلك يتناسون أن عشرات المجازر والحروب لم تستطع إنهاء مقاومتهم ومطالبتهم بالحق في وطنهم والعودة إليه، سواء بعد تطهير القرى الفلسطينية من سكانها الأصليين في 1948 أو في حرب 1967 وصولا إلى مجزرة صبرا وشاتيلا وحروب غزة السابقة.

التاريخ المعاصر يقول لنا بتفصيل واضح إن أكثر شعب عانى من اضطهاد المحتل وعنصريته هو الشعب الفلسطيني؛ ففي سبيل ترسيخ مزاعم دينية تدعي الحق في الأرض، انتُزع هذا الشعب من قراه ومدنه وهُجر إلى مناف ومخيمات صارت بمثابة الهوية الأكثر التصاقا بالفلسطيني الذي لم يعرف سوى العذاب منذ أن وُلد على هذه الجغرافيا المجروحة. كل ذلك كان بدعم وتشجيع معظم دول الغرب الرأسمالي الذي رأى في الدولة الوليدة مَثَلَه المصغر، حتى وإن مضى خارج قيم العلمانية الحديثة وأعلن هويته كدولة يهودية.

هذا التوحش في كل مستوياته لا يدع فرصة لأي شخص يحمل رؤية نقدية ليقول رأيه في إشكاليات المقاومة الفلسطينية نفسها، أو في علاقات بعضها ببعض، أو في مفهومها للمقاومة والدولة والعلاقة مع الآخر

لهذا بدت المشكلة الفلسطينية كأنها مشكلة العالم، فبقدر ما برهنت الحرب الأخيرة على أن الإسرائيليين لن يكونوا في سلام دون أن يحصل الفلسطينيون على السلام أيضا، أكدت أن الاستقرار السياسي والاقتصادي لن يتحقق في الإقليم أو العالم من دون حل المشكلة الفلسطينية، وهو حل بالطبع يبتعد عن الحلول المتطرفة التي يطرحها الوزراء الإسرائيليون والمتمثلة في إلقاء قنبلة نووية تقضي على ما تبقى من الفلسطينيين أو نفيهم إلى العالم بنسب محددة.

هذا الحل، كما يبدو لي، لن يكون غير الاعتراف العالمي بدولة فلسطينية مستقلة مرسومة الحدود بحسب القرارات الأممية مهما كان للبعض مآخذ عليها وملاحظات، ومهما بدت للكثيرين مستحيلة التحقق بعد ترديدها طوال عقود ماضية.

ما عاناه الفلسطينيون في كل الحروب والمواجهات يكفي ليعيد العالم تصوره نحو المشكلة الفلسطينية ويكتشف أسسها التي لم تعد خافية على أي متفحص، وتكمن في النزعة العنصرية المتطرفة لدى معظم صناع القرار الإسرائيلي الذين ينظرون إلى الفلسطينيين باعتبارهم أناسا زائدين على الحاجة البشرية أو "حيوانات"، بحسب تعبير وزير الدفاع يوآف غالانت؛ ولهذا لا يترددون عن التباهي بسعيهم نحو حروب إبادة معلنة.

هذه النظرة صارت عنوانا في الأخبار وتزداد توحشا حين تحمل توصيفات فكرية وثقافية تصبح معها لسانا للمتطرفين، فها هو برنار هنري ليفي، الموصوف بالفيلسوف، ينتقد دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون لإيقاف الحرب ويعتبرها دعوة خاطئة، قبل أن يكتب مقالا في اليوم التالي يبرر فيه دفاعه عن إسرائيل وحربها.

هذا التوحش في كل مستوياته لا يدع فرصة لأي شخص يحمل رؤية نقدية ليقول رأيه في إشكاليات المقاومة الفلسطينية نفسها، أو في علاقات بعضها ببعض، أو في مفهومها للمقاومة والدولة والعلاقة مع الآخر، لأنه يجد أن معظم ما يظهر من المقاومة هو نتاج تعنت المحتل وصلفه. حتى بدا لهؤلاء أن العالم لم يبدأ بالالتفات إلى عدالة القضية سوى بعد تقديم الآلاف أرواحهم قرابين في معبد الحقيقة. 

font change