حرب غزة... سلاح السخرية في مواجهة الدعاية الإسرائيلية

برزت خصوصا خلال اقتحام مجمّع "الشفاء"

AFP
AFP
مستشفى الشفاء

حرب غزة... سلاح السخرية في مواجهة الدعاية الإسرائيلية

تعدّ السخرية أداة تعبيرية مؤثّرة في التعليق على القضايا الاجتماعية والسياسية، بما يجعلها تنتشر بين قاعدة جماهيرية عريضة. وهي من القوالب الأدبية المعروفة والمستخدمة منذ عصور سحيقة. والأدب الساخر متشعب ومتنوع، من الشعر الى الرواية، فالقصة القصيرة، والمقالة والكاريكاتور.

والحال أن السخرية خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على أهل غزة والشعب الفلسطيني، باتت سلاحا شديد الفعالية، يستخدمه كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي لدحض التضليل الإسرائيلي الممنهج، والروايات العنصرية والفوقية.

هذا السلاح يلقى رواجا هائلا على تلك الشبكات، التي لعبت الدور الأكبر في التحول الكبير في الرأي العام الغربي تجاه ما يحصل في غزة، بعدما أحسن المؤثرون استثمارها، من أجل الخروج من أسر وسائل الإعلام الغربية التقليدية.

في مواجهة العنصرية

عبر فيديو ساخر، استطاع الفنان الكوميدي الفرنسي ذو الأصول المغربية مالك بن طلحة، توجيه نقد لاذع لبرنامج الإعلامي الفرنسي باسكال برو "L’heure des pros"، الذي يعرض على قناة "سي نيوز" الفرنسية اليمينية المتطرفة. حتى اللحظة، فاقت عدد مشاهدات هذا الفيديو 32 مليون مشاهدة عبر منصة "إكس"، بالإضافة الى نحو 3.3 مليون مشاهدة عبر "يوتيوب".

استطاع الفنان الكوميدي الفرنسي ذو الأصول المغربية مالك بن طلحة، توجيه نقد لاذع لبرنامج الإعلامي الفرنسي باسكال برو

يعدّ برنامج "L'heure des pros"  منصة للهجوم الدائم على المهاجرين والعرب والمسلمين، بقصد شيطنتهم وتشويه صورتهم، وتحميلهم وزر كل الموبقات التي يعاني منها المجتمع الفرنسي، والأوروبي بصورة عامة. يلجأ برو في برنامجه الى قضايا هامشية، لكنها ذات تأثير اجتماعي وثقافي، فيحاول استثمارها بهدف إذكاء الغضب الاجتماعي ضد المهاجرين. 

في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، وبالتزامن مع انتشار حشرة البق في الأماكن العامة بفرنسا، مثل محطات المترو والقطار ودور السينما وغيرها، اتهم باسكال برو في برنامجه المهاجرين بالتسبب في انتشار هذه الحشرة، مُرجعا سبب اتهامه لهم إلى "قلة نظافتهم الشخصية مقارنة بالمقيمين".

كلام برو الذي ينضح بالعنصرية أثار جدالا واسعا داخل فرنسا وعلى ميادين شبكات التواصل. حتى إنه استفز بعض الأحزاب السياسية الفرنسية، ودفع عددا من النواب الى تقديم شكوى في حقه واصفين كلامه بـ"العنصري"، وكان من بينهم حزب "النهضة" الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. 

كما انتشر على منصات التواصل فيديو لباسكال، عقب انتهائه من حلقة برنامجه يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي تقوم فكرته على طاولة نقاش تضم إعلاميين مساعدين وضيوفا شبه دائمين، يترواح عددهم بين الأربعة والستة أشخاص، ظهر فيه غاضبا، ويوجه نقدا لاذعا الى أحد زملائه في الحلقة، طالبا منه التوقف عن الدفاع عن الفلسطينيين. ذلك أنهم حسب زعمه "يريدون قتل إسرائيل".

ضمن البرنامج نفسه، خرج الفنان الفرنسي الشهير إنريكو ماسياس وطالب بتصفية أعضاء "حركة فرنسا الأبية"، وهو حزب فرنسي يساري، بسبب مواقفهم من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. قال ماسياس بشكل صريح "علينا أن نصفي هؤلاء الأشخاص".

بالطبع تسبّب كل ما سبق بردود فعل غاضبة كثيرة، من المقالات الى التصريحات، الى التغريدات والتدوينات عبر شبكات التواصل الاجتماعي. إلا أن كل ذلك برع الفنان ملك بن طلحة في تقديمه ببساطة وانسيابية، وبأسلوب نقدي لاذع في فيديو مدته 16 دقيقة. 

الأدب الساخر

يقول الأديب الفلسطيني غسان كنفاني: "السخرية ليست تنكيتا ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق".

يذخر التراث الأدبي الساخر بالعديد من الأعمال الخالدة التي لا تزال حاضرة حتى يومنا هذا. فمن منا لا يعرف كتاب "البخلاء" للجاحظ، الذي تستخدم طرائفه وقصصه على نطاق واسع، ويعدّ من أشهر الكتب في التراث العربي. ومن أبرز رواد الأدب الساخر العرب، السوري محمد الماغوط، والمصري محمود السعدني الملقب بـ"الولد الشقي"، والمصري عمر طاهر.

يضاف إليهم الأديب التركي عزيز نيسين الذي يعتبر ظاهرة في حد ذاتها، بإنتاجه الغزير الذي سخر فيه من تناقضات المجتمع، وفضح الوصوليين والمتسلقين نحو السلطة. لذلك جرت ترجمة الكثير من أعماله الى العديد من اللغات بينها العربية. وجرى تحويل إحدى رواياته "زوبك" أو "Zübük" بالتركية، الى عمل درامي سوري، "الدغري"، الذي لعب بطولته الفنان دريد لحام، وحقق نجاحا كبيرا. أما في الشعر، فالتراث الأدبي العربي يحفل بالكثير من القصائد الساخرة في مختلف العصور.

 أدخل التطور التكنولوجي أنواعا جديدة من النقد الساخر تقوم جميعها على الثقافة البصرية

أما على الصعيد العالمي، فقد يفاجأ البعض بأن هوميروس، شاعر "الألياذة" و"الأوديسة"، لديه ملحمة ساخرة، "باتروخوماخيا"، في القرن الثامن قبل الميلاد، تدور أحداثها عن معركة حامية الوطيس بين الفئران والضفادع، ينتقد من خلالها الفكر الديني. وكذلك كتاب "الحمار الذهبي" للأديب لوكيوس أبوليوس، الذي يعتبر أول رواية ساخرة في العالم. كما تعد الملحمة الشعرية الساخرة، "دون جوان"، للورد بايرون من أيقونات الأدب الساخر الأوروبي، وهي التي تسخر من الحياة الاجتماعية في البلاط الملكي البريطاني. وتبقى رواية "دون كيخوته" للأسباني ميغال دي ثربانتس، التي يسخر فيها من البطولات الحمقاء، الأشهر في هذا الإطار.

الإمام الخانع - من حساب مالك بن طلحة على أكس

بيد أن التطور التكنولوجي أدخل أنواعا جديدة من النقد الساخر تقوم جميعها على الثقافة البصرية. في عقد التسعينات من القرن الماضي، بدأت برامج السخرية بالانتشار في أميركا، ولا تزال تحظى بشعبية كبيرة. ذلك أن المشاهد العادي يستطيع من خلالها التعرف الى المستجدات السياسية والاجتماعية، بأسلوب فكاهي وحس نقدي لاذع. ويحرص السياسيون في أميركا على متابعة أبرز البرامج الساخرة، لمعرفتهم بمدى شعبيتها، خاصة عند فئة الشباب (18-30 سنة)، وذلك بهدف محاولة كسب هذه الفئة.

بدأت هذه البرامج بالانتشار في العالم العربي إبان ثورات ما يعرف بـ"الربيع العربي"، بمعزل عن انقسام الآراء حول تلك الثورات. ويعتبر برنامج الإعلامي المصري باسم يوسف "البرنامج" الأشهر، والأكثر مشاهدة في الشرق الأوسط. في ما بعد، جنحت هذه البرامج أكثر صوب شبكات التواصل الاجتماعي للتحرر من القيود السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية. وتلعب هذه البرامج دورا بارزا في تشكيل وعي قطاع كبير من الجمهور حول بعض القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية.

"جدول إرهابيي حماس" الذي نشره الجيش الاسرائيلي

غزة والنقد الساخر

استطاع رواد شبكات التواصل الاجتماعي تشكيل جبهة ضغط مؤثرة، من خلال السخرية من فيديوهات المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، والاستهزاء بالأخطاء الفاضحة التي وقع فيها أكثر من مرة.

أشهر الفيديوهات هو ذاك الذي يتحدث فيه عن جدول بأيام الأسبوع معلق على حائط داخل مستشفى "الشفاء" على أنه "قائمة أسماء إرهابيي حماس الذين يحرسون الرهائن". الأمر الذي دفع بالمشرفين على حسابات الجيش الإسرائيلي على شبكات التواصل الى إزالته تماما. علاوة على السخرية من أدلة الإرهاب المزعومة التي تحدث عنها مثل حفاضات الأطفال ورضاعاتهم، وغيرها الكثير. حتى أن هاغاري تصدر "الترند" غير مرة بسبب السخرية من فيديوهاته.

ولعلّ اللافت في هذه الحرب أيضا، هو لجوء إسرائيليين، بمن فيهم جنود، إلى السخرية من مأساة الشعب الفلسطيني، بلغة فوقية عنصرية، تكاد تكون موازية للغة الإلغاء بأدوات عسكرية، فترى بعضهم يؤدّي مشاهد ساخرة على أنقاض المدارس والبيوت التي دمّرها الاحتلال، أو تقلد الضحايا الفلسطينيين، وهو ما لم يستطع النجاح في خلق سردية مختلفة، بقدر ما أكد السردية الإسرائيلية نفسها، التي لا تعامل الفلسطينيين بوصفهم بشرا متساوين في الحقوق، بقدر ما تتشفّى من آلامهم.

نجح باسم يوسف عبر بعض الرمزيات البسيطة في الشكل، الشديدة التأثير في المضمون، في أن يبين مدى ارتباط الفلسطينيين بأرضهم وجذورهم

عند الحديث عن النقد الساخر، وشبكات التواصل، والقضية الفلسطينية، لا بد من التوقف عند الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف، الذي اكتسحت إطلالته مع الإعلامي البريطاني المعروف بيرس مورغان شبكات التواصل بالمعنى الحرفي للكلمة. إذ حازت تفاعلا عربيا وعالميا، وحصدت نحو 21 مليون مشاهدة، وهي نسبة المشاهدات الأعلى في تاريخ برنامج مورجان، مما حدا بالأخير الى إجراء مقابلة ثانية مع باسم يوسف وجها لوجه. فقد نجح الأخير بذكاء في كسر القيود التي فرضها الإعلام الغربي على القضية الفلسطينية، واستطاع تقديم معاناة أهل غزة بطريقة نقدية ساخرة، وقف حيالها مورغان حائرا، وهو الإعلامي الخبير والشهير بقدرته على التحكم بمسار الحوار مع ضيوفه.

في المقابلة الثانية، التي حصدت نسبة مشاهدات فاقت الـ11 مليونا، استطاع باسم يوسف في أن يدحض التضليل الإسرائيلي، والإسناد الغربي المحكم لها، وأن يقدم القضية الفلسطينية بطريقة مغايرة للنمط السائد، بأسلوب تميز بالعمق والسلاسة والانسيابية، حيث أعاد القضية الى جذورها، واقتحم التاريخ لإبراز الأصل الأوروبي لمعاناة اليهود من الاضطهاد، ولتشريح اتهام معاداة السامية.

باسم يوسف أثناء التحضير للحلقة الثانية

كما نجح يوسف عبر بعض الرمزيات البسيطة في الشكل، الشديدة التأثير في المضمون، في أن يبيّن مدى ارتباط الفلسطينيين بأرضهم وجذورهم، من خلال الرداء، وعبوة زيت الزيتون الفلسطيني من الضفة الغربية التي قدمها الى مورغان، وحديثه عن شجرة الزيتون المعمرة، والصعتر وغيرها. كل هذه الإشارات للدلالة على أن فلسطين لم تكن يوما "أرضا بلا شعب"، كما تزعم الرواية الإسرائيلية.

وإذا كان الغرب قد برع في ما مضى في استخدام مختلف أدوات القوة الناعمة من أجل التأثير في المجتمعات والعقل الجمعي لها، فإن باسم يوسف ومالك بن طلحة وغيرهما، نجحوا في توظيف السخرية لإحداث تأثير ثقافي، تعجز عنه الخطب والأيديولوجيات والمصطلحات السوسيو- ثقافية الثقيلة في عصر تدفق المعلومات، والأخبار المضللة والإغراق الثقافي والإعلامي.

font change

مقالات ذات صلة