نازحون في جنوب غزّة: كلّ يوم نموت مئة مرة

بعد انتهاء الهدنة وتمدّد العدوان الإسرائيلي

AFP
AFP
فلسطينيون يغادرون الشمال يسيرون عبر طريق صلاح الدين في منطقة الزيتون على المشارف الجنوبية لمدينة غزة في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.

نازحون في جنوب غزّة: كلّ يوم نموت مئة مرة

غزّة: لم تصمد الهدنة الإنسانية في غزة، سوى لأيام معدودة، حصل خلالها أبناء القطاع على فرصة لالتقاط الأنفاس، وتوقف نزيف الأرواح مؤقتا، ليعود القتل والترويع بصورة أشدّ هولا بعد تجدّد العدوان الإسرائيلي وتمدّده إلى جنوب غزة.

صحيح أن الهدنة العابرة لم تأت بجديد على الصعيد المعيشي والاجتماعي الفلسطيني، فبقي أبناء القطاع مشتتين مشرّدين، يعيش معظمهم في ظروف بالغة القسوة، وفي مراكز إيواء غير مؤهلة لأدنى ظروف الحياة الإنسانية المقبولة. كما بقي حال شح البضائع وارتفاع أسعارها على حاله، بل إن بعضها ارتفع ثمنه، ولم يتغير شيء في أزمة انقطاع الغاز والوقود والماء، وظلّت الحياة اليومية تراوح مكانها في بقعة العيش البدائي المطعّم بالرعب.

حملت تلك الهدنة وهم التحرر من أسر الحرب التي ظلّ سيفها فوق رقاب الناس، وظنّ الفلسطينيون أنها قد تكون بداية إنقاذهم من الإبادة الجماعية المتواصلة بحقهم. لكنّ الوهم انكسر، وعادت دورة الحرب من جديد، دون أمل يلوح في الأفق بتوقفها قريبا، وكأن ثمة قدرا رسم، وقرارا اتخذ، بأن تتواصل المقتلة، وتستمر أشكال الترويع والإذلال، في تلك البقعة المعزولة عن العالم.

تنظر إلى وجوه الناس، من نساء وأطفال وشيوخ، فتراها شاحبة مرهقة، أجساد متثاقلة، ونظرات شاردة، بعضهم يسير ملوّحا بيديه كأنه يكلم نفسه

حالة من القهر والخوف والخذلان والإحباط يعيشها الفلسطينيون في ظلّ تجدد الحرب، فكانت الساعة السابعة صباحا من يوم الجمعة الماضي، الأول من ديسمبر/ كانون الأول، نقطة انطلاق جديدة للرعب والقلق، والهجس باحتمالات القصف العشوائي الذي تمارسه إسرائيل بوحشية ودون تمييز على منازل الغزيين ومراكز الإيواء في الشمال والجنوب.

وجوه شاحبة

تنظر إلى وجوه الناس، من نساء وأطفال وشيوخ، فتراها شاحبة مرهقة، أجساد متثاقلة، ونظرات شاردة، بعضهم يسير ملوّحا بيديه كأنه يكلم نفسه، وبعضهم يسعى طوال اليوم إلى تدبير شؤون يومه، وإيجاد ما يقيت أطفاله ويقيهم البرد. رجال ونساء يمشون متفرّقين في شوارع مدينة رفح، متجهين- نحو منطقة دوار العودة، وهي بداية سوق المدينة المركزي، للحصول على بعض السلع وأساسيات العيش التي يعرفون مسبقا أنها غير متوافرة، وإن توافرت فإنها تفوق طاقتهم الشرائية.

REUTERS
رفح جنوب قطاع غزة في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

بين هؤلاء محمد الصباغ (34 عاما) الذي يقول بحسرة وخيبة أمل: "عادت الحرب، ومعها الخوف والقلق على الصغار والآباء والأمهات. يبدو أن إسرائيل لم تكتفِ بسحقنا وإبادتنا طوال شهرين، بل عادت الطائرات المشؤومة لتحلق في سمائنا وتحصد أرواحنا، بينما العالم ينظر إلينا بعين واحدة، والدول القريبة والبعيدة تخلّت عنّا، ولم يعد أحد يريد أن يتقدّم لحمايتنا من الفقد والموت والمعاناة".

ويضيف الصباغ: "فقدت حتى الآن خمسة من أفراد عائلتي، أنهت إسرائيل حياتهم، اعتبرتهم مجرد أجساد بلا قيمة، ومحتهم من الوجود. لا أحد يفكر في فاجعتنا، لا أحد يقيم وزنا لحياتنا، وكأننا حمل زائد يجب التخلص منه، كنت آمل أن الهدنة هي نهاية الحرب، لقد بدأنا نفكر بالفعل بإمكانية العودة إلى بيوتنا واستئناف حياتنا، لكنّ هذا الأمل لا يزال معلقا، إن لم يكن قد انتهى نهائيا".

لا أحد يعرف

أما السيدة فاطمة الحرازين (46 عاما) فتقول لنا: "لا أحد من خارج غزة يعرف ما فعلته الحرب حتى الآن بنا، نحن نموت كل يوم مئة مرة، نرى الموت يحاصرنا، جثث وأشلاء، وجدران منهارة ومبان مدمرة، كل هذا فقط لأننا أهل غزة، نحن مدنيون لا علاقة لنا بأي عمل مسلّح، ومع ذلك فقد خسرنا كل ما نملك... تعبنا وسئمنا ولم تعد لنا طاقة على احتمال كلّ هذا الذل، فهل ترضى الدول المتقدمة بأن يهان الإنسان بهذه الطريقة؟ هل ترضى أن يدفع الأبرياء الثمن؟ لماذا علينا تحمل كل هذه الكوارث التي تنزل على رؤوسنا؟".

AFP
مخيم تل السلطان الجديد غرب رفح في جنوب قطاع غزة، في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

وتكمل السيدة: "خلال أيام الهدنة تفاءلنا خيرا، كانت فترة استراحة لنا من الموت، على الرغم من أن أوضاعنا لم تتحسن، خاصة أن زوجي يعمل سائق أجرة، ولم يكن لنا دخل قبل الحرب سوى عمله اليومي. الآن نعيش على مساعدات يومية من الأونروا، لا تكاد تكفي لشخصين، ولا تقيت الأطفال".

وتعود الحرازين لتصرخ: "لم نعد نحتمل أكثر من ذلك، هل يحتمل الإنسان حربا لمدة شهرين، دون عمل او طعام أو بيت يؤويه؟ من في العالم مستعد لخوض هذه التجربة؟ هذا الواقع لا يمكن التأقلم معه، يجب أن تتوقف هذه الحرب وأن ينتهي هذا الجنون".

لا يمكن لإنسان عاقل أن يرى ما يحدث معنا في غزة، ولا يهتزّ ضميره، ولا يستوقفه كلّ هذا العبث

كيف أنجو من الموت؟

أما السيد الخمسيني أيمن أبو الخير، النازح إلى الجنوب وعائلته، فيقول: "حين أفكر في المكان الذي أعيش فيه، والوضع الذي أواجهه وعائلتي، أكاد أفقد عقلي. فما يحدث جنون بكل معنى الكلمة، فلا يمكن لإنسان عاقل أن يرى ما يحدث معنا في غزة، ولا يهتزّ ضميره، ولا يستوقفه كلّ هذا العبث".

يكمل أبو الخير: "لا أفكر في خسارتي منزلي شمال غزة، ولا دمار سيارتي وبقالتي، على الرغم من كل الألم والحسرة. لكنّ هاجسي الوحيد الآن كيف لي أن أنجو وزوجتي وأطفالي من الموت، فالإنسان أهم من الأرض، لأن الأرض يعمرها البشر ويحافظون عليها، لكن ما يحدث الآن هو دمار لكلّ شيء، وهذا هو الظلم بعينه".

يضيف النازح الفلسطيني: ويختتم أبو الخير حديثه بالقول: "عودة الحرب تعني استمرار القضاء علينا، والمزيد من التدمير لغزة وسكانها. نحن نريد انتهاء الحرب بالكامل، لا نريد هدنا مؤقتة، فليس من الطبيعي أن يستمر قتل الفلسطيني، والعالم يشاهد بصمت، هذه مهزلة لا يمكن تقبلها".

وتروي لنا أماني الدريملي (38 عاما): "هذه الحرب  كسرت قلوبنا وحطّمت آمالنا. لا أصدق كيف يمكن للجيش الإسرائيلي أن يدمر المباني على رؤوس النساء والأطفال، دون أن يحاسبه أحد، أين القوانين التي يفترض أن تحكم هذا العالم، أين كلّ الكلام عن السلام وحقوق الإنسان وحماية المدنيين؟".

AFP
أطفال فلسطينيون بجوار أنقاض منزل دمر في غارة إسرائيلية

وتضيف الدريملي: "لقد طمأنت أطفالي بأن الحرب أوشكت على النهاية حينما أعلن عن الهدنة، وها أنا اليوم أحاول أن أشرح لهم كيف أن الحرب لم تنته حقا، وأن مصيرنا ما زال مجهولا، الغريب أنهم يسمونها هدنة إنسانية، مع أنه لا شيء يوحي بكلمة إنسانية في كلّ ما يحدث لنا، إننا نجوع ونعاني الويلات في مراكز اللجوء، وبتنا نشعر بأننا لا قيمة لنا، ولا أحد يكترث لنا".

وتختتم الدريملي حديثها: "كانت حياتنا قبل الحرب صعبة جدا، بفعل الحصار الإسرائيلي لسنوات على غزة، وزوجي عامل، لا يمكنه أن يطعمنا دون استمرار عمله اليومي. كنا بالكاد نتدبّر أمورنا، فما بالكم وقد جاءت الحرب بمصائبها. للمفارقة، بتنا نحلم بتلك الحياة الشاقة التي كنا نحياها قبل الحرب، نحلم بهدنة جديدة توقف هذه المعاناة والدمار الذي لم يبق حجرا على حجر".

font change

مقالات ذات صلة