حسام الدين درويش: لا إصلاح دينيا دون سلطة تحميه

الاعتراف بالآخر وبالذنب... ألمانيا والإسلام نموذجا

حسام الدين درويش

حسام الدين درويش: لا إصلاح دينيا دون سلطة تحميه

كولونيا/ألمانيا: أصدر الكاتب والباحث السوري في الفلسفة، حسام الدين درويش، المقيم في مدينة كولن الألمانية، كتابه الأخير في منتصف هذا العام (2023) بعنوان "في فلسفة الاعتراف وسياسة الهوية: نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية"، من منشورات "مؤمنون بلا حدود" في الشارقة - الإمارات العربية المتحدة.

درويش محاضر في جامعات ألمانية عدة، وحاصل على درجة دكتوراه في الفلسفة من جامعة بوردو الفرنسية. وكان أصدر كتبا خمسة بالعربية، وثلاثة بالفرنسية، منها "نصوص نقدية في الفكر السياسي العربي والثورة السورية واللجوء" (2017) و"المعرفة والإيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر" (2022) و"في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام السياسي، وتجديد الخطاب الديني" (2022).

في كتابه الجديد عن "فلسفة الاعتراف" يتناول درويش موضوعات فكرية عدة، تتصل بمسألة الاعتراف بوصفه مقولة في الفلسفة السياسية تشمل العدالة والتسامح وحقوق الإنسان، في الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية. وهو يرى أن فكرة الاعتراف تنطوي على مفهومين متمايزين ومتصلين في الفلسفة المعاصرة:

  • الاعتراف بوصفه إقرارا بوجود آخر، حضوره وحقوقه وهويته، وكذلك احترامه وتقديره، ككيان اجتماعي وثقافي مستقل.
  • الاعتراف بوصفه إقرارا بالذنب والخطأ، وبمراجعة المجتمعات والجماعات والأفراد، ممارساتهم وتواريخهم.

يُعدّ الاعتراف، بوجهيه أو بمفهوميه، وثيق الصلة بفكرة العدالة في نظرياتها على مدى العقود الأربعة الأخيرة. إذ لا عدالة من دون الاعتراف بالآخر وحقوقه، وبلا مراجعة الممارسات الاجتماعية السياسية، وبلا اعتماد الحوار سياسة ضرورية لبناء العدالة.

يناقش الكتاب الصلة "السلبية" بين سياسات الهوية ومفهومي الاعتراف والعدالة اللذين من الضروري أن يرتبطا بحقوق الإنسان وبمكانته القانونية والأخلاقية، بصرف النظر عن هويته الفعلية أو المزعومة. في مقدّمة كتابه يقول حسام الدين درويش إنه "يتبنى في معالجة موضوعاته موقف الليبيرالية المساواتية، أو المساواة الليبيرالية"، مشددا على حريات الأفراد وحقوقهم الملازمة لمسؤولياتهم. وهو يشدد أيضا على التمييز بين "النسب" اللاإرادي، العائلي والإثتي والطائفي والديني والقومي، وبين "الانتساب" الإرادي لمنظمة أو منظمة أو حزب سياسي أو نقابة... إلخ.

"المجلة" التقت حسام الدين درويش في كولن، وحاورته في أفكار كتابه وطروحاته، وما يتصل منها بالأوضاع الراهنة في ألمانيا والبلدان العربية.

قد يظهر الاعتراف بالأخطاء والذنوب في مجتمعات ضعيفة، فيتخذ أشكال جلد الذات ولومها أي الإفراط في تبخيسها

الاعتراف وليد القوة

  • ما دامتْ فصول كتابك الجديد تتمحور حول فلسفة الاعتراف بالآخر المختلف وبالأخطاء، وبوصف الاعتراف مرآة لسياسات وممارسات سياسية واجتماعية معاصرة وحديثة، لنبدأ بالحديث عن مقدار حضور فكرة الاعتراف في الثقافة السياسية والاجتماعية في الدائرة العربية والإسلامية.

يتراءى لي أن فكرة الاعتراف وممارسته ضعيفتا الحضور في الثقافة السياسية والاجتماعية العربية والإسلامية. الضعف هذا يشمل وجهَي الاعتراف: الإقرار بحق الآخر في الاختلاف، والاعتراف بالأخطاء ومراجعتها، أكانت سياسية أم اجتماعية أم أخلاقية تتعلق بدول وجماعات، أو فردية سلوكية تتعلق بأشخاص أفراد. وأرجّح أن سبب ضعف ثقافة الاعتراف في مجتمعاتها عائد إلى ضعفها المتعدد الأوجه، أبرزها عجزها عن بناء دول ديموقراطية متماسكة. ذلك أن الاعتراف بالآخر وبالأخطاء يحتاج إلى قوة في النفس وقوة على النفس، احتياجه إلى ثقة بالذات، تتحصل في معترك تاريخ مديد. لذا نلاحظ أن الاعتراف وممارسته لا يظهران إلا في مجتمعات قوية ومتماسكة، وتمتلك ثقة عالية بذاتها.

وقد يظهر الاعتراف بالأخطاء والذنوب في مجتمعات ضعيفة، فيتخذ أشكال جلد الذات ولومها. أي الإفراط في تبخيسها، ورد ضعفها إلى مساوئ في ثقافتها وتراثها.

غلاف كتاب درويش الأخير

  • وهذا ما نسميه "المقاربة الثقافوية" التي تنتقدها في كتابك.

 نعم. وأرى أن المقاربة الثقافوية تقوم على نظرة جوهرانية لاتاريخية للماضي والتراث العربيين والإسلاميين. فهي ترد ضعف العرب والمسلمين في الحاضر إلى ماضيهم وتراثهم، لا إلى أسباب سياسية واقتصادية قائمة في الحاضر والماضي القريب. سبب ضعفنا الراهن هو ثقافتنا السيئة، حسب هذه النظرة. وغالبا ما يجري التركيز على الجانب الديني في هذه الثقافة، باعتبار ثقافتنا الدينية غير نقدية.

وهذا ما يظهر لدى مثقفين عرب، منهم صادق جلال العظم وأدونيس وجورج طرابيشي، على سبيل المثل. هم وسواهم من أصحاب النظرة عينها، يرون أن سبب تخلّفنا، شعوبا ومجتمعات، يكمن في ثقافتنا التي مصدرها الأساسي الدين الإسلامي.

التركيز على الدين، باعتباره العقبة الأساسية التي تعوِّق التقدّم والتحرر والتحديث الاجتماعي والسياسي والفكري، يستهدف إزاحة حضوره من الفضاء العام، فنشفى من ضعفنا وتخلفنا بسحر ساحر.

السلطة والدين والمجتمع

  •  لكن ألا ترى أن حركة الإصلاح الديني وتياراته، التي بدأت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسواهما في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قد ارتكست وتوقفت لاحقا، علما أنها كانت واعدة في تلك البدايات، لكنها لم تظهر في أجيال جديدة من المثقفين الدينيين؟

أرى أن السبب الرئيسي والأساسي لذلك الارتكاس يكمن في دور السلطات السياسية وأشكال حضورها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ففي ظل غياب دولة الحق القانون والمواطنة، يستحيل قيام تيارات إصلاحية على صعيد الدين وسواه من المجالات.

علينا أن ننتبه إلى أن محمد عبده مثلا، كان يدعو إلى الإصلاح الديني في ظل سلطة سياسية تحميه وتدعمه في مصر. والإصلاحات الدينية على صعيد التشريعات والقوانين في تونس مثلٌ آخر أحدث زمنا. فالسلطة السياسية التونسية هي التي دفعت إلى تبنّي قوانين في المجال الديني تتعلق بحقوق النساء وحرياتهن، ومساواتهن بالرجال. وهذا ما حصل أيضا في المغرب الذي تتمتع السلطة المَلَكية فيه ببعدين، دنيوي وديني. لدينا مثل جديد وراهن، وهو ما يحدث اليوم في السعودية، حيث قامت السلطة السياسية بتبنّي إصلاحات في أوضاع النساء والحياة الاجتماعية والثقافية، فتبعها رجال الدين.

هذا يعني أن لا إصلاح دينيا أو غير ديني يمكن تحقيقه في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، في حال غياب سلطة تشجعه وتحميه، وتسمح بالاختلاف والتنوّع والتعدُّد في الرأي وبالحوار، لتطوير الأفكار والقيم. أما في الدول الديكتاتورية السلطات، التي يسيطر فيها طرف أو جماعة على الجماعات الأخرى وتقمعها، فينغلق الفضاء العام ويمتلئ بسلطة قاهرة تمنع التطور والإصلاح.

السلطات هذه تخوِّف الناس من حضور الدين في الفضاء العام الذي تطردهم منه أصلا وتطغى عليه بحضورها الاستبدادي فيه، وتحملهم على كتمان هوياتهم وثقافاتهم المتنوعة. مثل هذه السلطات في عالمنا العربي تخيّر الناس بين استبدادها واستبداد الجماعات الدينية المتطرفة. هكذا يصبح الإسلام إما إسلاما رسميا تابعا للسلطة المستبدة ومصفّقا لها، وإما إسلاما شديد التطرُّف يثأر من استبداد السلطة القائمة بتكفيرها وتكفير المجتمع.

النسب انتماء موروث لا خيار فيه، أما الانتساب، فقائم على الخيار الحر في الانتماء الإرادي

  • لكن أليس من قطب آخر غير السلطة السياسية تقع عليه المسؤولية في هذه الحال؟ أعني بذلك المجتمع والحركات الاجتماعية المؤثرة في تكوين السلطة. لماذا لم تتمكن الحركات الاجتماعية في المجتمعات العربية من التصدي للسلطات الديكتاتورية، وهي فشلت في ما يسمى "ثورات الربيع العربي" كما نعلم؟

نستطيع أن نحمّل المجتمع المسؤولية عن غياب الحركات الإصلاحية، على قدر ما يكون المجتمع قادرا على التحرك والتعبير بحرية عن آرائه وتطلعاته، وعلى التدخل في صوغ السلطة السياسية. فكيف لنا أن نحمّل المجتمعين العراقي والسوري مثلا، المسؤولية عن عدم إنجاز حركة إصلاحية، في ما سلطتا الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع والحاكم حكما ديكتاتوريا أمنيا في البلدين، تحظران تكوين منظمات وأحزاب ونقابات وجمعيات حقوقية وصحافة؟

باختصار، وحسب فلسفة الحرية والمسؤولية، نقول: لا مسؤولية بدون حرية. أما ثورات الربيع العربي ققد واجهتها السلطات الديكتاتورية بالحديد والنار، فقتلت وهجرت وسجنت جيلا شابا بكامله من نخب المجتمع المدني القائم على مغادرة النسب اللاإرادي إلى الانتساب الإرادي، ولدينا المثل السوري دليلا على ذلك.

حسام الدين درويش

النسب والانتساب والاستبداد

  • سياسات الهوية التي تتحدث عنها في كتابك، وركيزتها المجتمعات والجماعات الأهلية، كم هي معوّقة لنشوء حركات اجتماعية - سياسية قادرة على التدخل في صوغ السلطة؟

أميّز في كتابي بين النسب والانتساب. النسب انتماء لا إرادي، طبيعي وعضوي وموروث ولا خيار فيه. شأن الانتماء إلى دين وطائفة وعائلة وهوية إثنية أو أقوامية. أما الانتساب، فعلى عكس النسب، قائم على الخيار الحر في الانتماء الإرادي والواعي إلى منظمات وأحزاب ونقابات وحركات حقوقية وجمعيات. وهذه كلها من نشاطات المجتمع المدني، لا مجتمعات الجماعات الأهلية القائمة على النسب.

شرط نشوء مجتمع مدني ونشاطات مدنية، هو توفر حقوق سياسية تتيح النشاط السياسي والحقوقي والنقابي. وهذه هي السياسة في معناها المعاصر والحديث. أما عندما يُبنى النظام السياسي على أسس الانتماءات الأهلية التي تسمح بسيطرة جماعة على سواها، فتتعطل الحياة السياسية السوية، وتتحول السلطة إلى قبيلة مغلقة تسيطر على الدولة.

  • كم هي مسؤولة عن ذلك تيارات القومية العربية في سوريا والعراق، وفي مصر الناصرية؟

أظن أن مسؤوليتها كبيرة. فالتيارات السياسية العربية القومية ليست ديموقراطية، بل مضادة للديموقراطية. وهي تيارات نخبوية، على الرغم من أنها كانت تعبّر عن تطلعات عامة للشعب، لكن نخبويتها الطليعية، الثورية والتحررية، أدت إلى انفصالها عن المجتمع والشعب، فيما هي تتحدث عن الأهداف والقضايا الكبرى. وغالبا ما تكون مثل هذه الحركات مطيّة للاستبداد.

الترحيب والذنب الألمانيان

  • بما أنك تقيم وتعمل في ألمانيا، كيف ترى مواقف السلطات الرسمية الألمانية في ما يتعلق بالحرب في غزة، وبسياسة الاعتراف بالآخر وبالذنب؟

تقوم الدولة والسياسة في ألمانيا على أساس الاعتراف بالذنب/الخطيئة حيال المحرقة اليهودية. وهذه مسألة إيجابية من حيث المبدأ وفي تلاؤمها مع فلسفة الاعتراف السياسية. لكن سياسة الاعتراف الألمانية هذه، جنحت جنوحا أنانيا في عدم رؤيتها أي ذنب آخر، وأي ظلم آخر يقع على غير ضحاياها في المحرقة النازية. وهذا ما يمنع اعترافها بحقوق متوازنة للآخر العربي والفلسطيني. وهي حظرت حتى الأصوات اليهودية المناصرة لحقوق الفلسطينيين.

موقف السلطة السياسية الألمانية اليوم لا يتناسب قطعا مع الحديث عن دولة ديموقراطية ليبيرالية. وهو موقف يعكس ضعفا كبيرا في ممارسة الحرية والتنوع في إبداء الرأي والنقد. طبعا هناك أصوات ألمانية معارضة لمواقف السلطة وتنتقدها. لكن هذه الأصوات ليست جزءا من السلطة السياسية.

  • ألا ترى أن حركات الاعتراض التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني في أوروبا وفي جهات أخرى من العالم - وهي تقوم على انتساب أو انتماء إرادي حر، حسب تشخيصك - ضعيفة التأثير في تركيب السلطات السياسية، أو ما يسمى الاستبلشمنت (المناصب) في السلطة؟

في ضوء نشاط حركات الاعتراض الأوروبية على ما يحدث في غزة، ليست هذه هي الحال في بريطانيا وفرنسا وأميركا، حيث هناك انقسامات داخل الأحزاب الحاكمة، وتعدُّدية في الرأي والنظر إلى سياسات إسرائيل والحق الفلسطيني. وقد تكون ألمانيا حالة استثنائية في هذا المجال، حيث توحّدت السلطة السياسية والأحزاب في واحد موحد.

سياسة الاعتراف الألمانية هذه، جنحت جنوحا أنانيا في عدم رؤيتها لأي ذنب آخر، وظلم آخر يقع على غير ضحاياها في المحرقة النازية

  • في كتابك فصل عن "ثقافة الترحيب" في ألمانيا، استنادا إلى تجربة اللجوء السوري إليها وفيها. في ضوء المستجدات الألمانية على هذا الصعيد، هل من مراجعة لـ"ثقافة الترحيب" التي تحدثت عنها؟

ما كتبته في ذاك الفصل من الكتاب، هو حصيلة حوار مع صديقة ألمانية قامت بمبادرة تحت عنوان الترحيب باللاجئين السوريين. والحق أن مبادرات المجتمع المدني الألماني على هذا الصعيد، كانت مفاجئة حتى للألمان أنفسهم. وهي عكست موقفا أخلاقيا إنسانيا رائعا في استقبالهم السوريين ودعمهم ومساعدتهم في تجاوز مأساتهم التي تعرضوا لها في بلادهم.

لكن ذلك تعرّض إلى صدع كبير جراء الموقف الألماني حيال ما يحدث في غزة. وأستطيع القول في هذا السياق إن الموقف الجديد يناقض ثقافة الترحيب بالسوريين في ألمانيا، بل هو موقف غير أخلاقي وعدواني وأناني، وغيّر صورة ألمانيا السابقة. وهذا ما يقوله الألمان المنتقدون لسياسة السلطة في بلدهم، ويعتبرون أنه يعمّق الفجوة بين الشرق والغرب، بين الإسلام وأوروبا.

وقد يكون ما لم آخذه في الحسبان في كتابي، هو عدم تنبُّهي إلى حدود ثقافة الاعتراف بوصفها دليلا إلى الصواب السياسي. فالتجربة الألمانية الجديدة تفيد بضرورة أن يكون الاعتراف بالذنب مبنيا على توازن ومحدد بأمور أخرى، كي لا يجنح إلى عدم رؤية ذنوب ومظالم أخرى وضحايا آخرين.

وهذا ما أتابعه في حواري المستمر مع الصديقة الألمانية. وسوف ينشر هذا الحوار في حلقات متتابعة باللغتين الألمانية والعربية.

font change

مقالات ذات صلة