"دافوس" واحترار ممرات التجارة العالمية

ان أحدا لم يعد غير معني بما يجري في أي نقطة في العالم من غزة الى أسوج

"دافوس" واحترار ممرات التجارة العالمية

لطالما كانت التجارة العالمية من أبرز المَحاور التاريخية لنقاشات المنتدى الاقتصادي العالمي، "دافوس"، في جبال الألب السويسرية، وهي ستكون مهيمنة على لقاءات هذه السنة، من مضيق باب المندب الى مضيق تايوان، ولا سيما بعد تدهور الأوضاع في البحر الأحمر مع اعتداءات الحوثيين على السفن وسلاسل التوريد الدولية، والغارات الأميركية-البريطانية الأخيرة، إضافة الى التهديدات الصينية المتعاظمة لتايوان بعد فوز الديموقراطي لاي تشينغ-تي رئيساً للجزيرة، الذي اعتبرته الصين خيارا خطيرا بين السلم والحرب التي تحتسب كلفتها بتريليونات الدولارات هناك لا بالمليارات.

موضوع الذكاء الاصطناعي سيكون طبعا طاغيا أيضا، ولا سيما مع حضور "النجمين"، الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت" ساتيا ناديلا ورئيس شركة "أوبن إيه. آي." سام ألتمان الذي أطلق مرحلة "الذكاء الاصطناعي التوليدي" مع منصة "تشات جي. بي. تي."، ومع بروز دوره في الحروب والسلاح أكثر منه في قطاعات أخرى حتى الآن.

مأزق التجارة العالمية وسلاسل التوريد يرتبط بالبحر الأحمر وبواقع الحربين في أوكرانيا وغزة التي ستستمد بعض الروح في دافوس من "الدعوى القضائية النبيلة" لجمهورية جنوب أفريقيا ضد حرب الإبادة الاسرائيلية على القطاع

حديث التجارة العالمية يرتبط بواقع الحربين في أوكرانيا وغزة، وقد تم موقتاً احتواء تداعيات الأولى أوروبيا باقتراب مرور عامين على شنها، وهذا انعكس في لجم التضخم واتجاه السياسات النقدية نحو تهدئة "جنون الفوائد"، بعد ترجيح انتهاء الأسوأ، كما ترى رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد وأقرانها. بالنسبة الى الحرب الثانية تبدو كرة الثلج متدحرجة، لكن يتوقع أن تستمد غزة بعض الروح من "الدعوى القضائية النبيلة" لجمهورية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد حرب الإبادة على القطاع، في مبادرة عدالة غير مسبوقة ضد إسرائيل كقوة احتلال تدّعي الدفاع عن النفس، في وقت يدّعي أطراف إقليميون الدفاع عن غزة بتعطيل حركة التجارة العالمية في عقاب جماعي أهوج. 

إنه، اذاً، احترار عالمي تجاري سيرفع الحرارة في دافوس، وكأن الكوكب لا تكفيه التقلبات والكوارث الطبيعية التي أفرزها تغير المناخ، والذي أصبح واقعا مشهودا مع ما يستجره من خسائر بيئية واقتصادية وانسانية فادحة، مما يتطلب تضامن القارات، لا الدول فحسب، بسبب الجفاف والفيضانات وتآكل الموارد. الجميع يعاين هذا التغير الكارثي للمناخ، وليس في الأفق حلول ناجعة على الرغم من مئات المؤتمرات والمنتديات والمبادرات والطاولات المستديرة منذ عقود، فالدوران في حلقات مفرغة، غير واقعية، يدوم ويدور حول المصالح الاقتصادية البحتة للدول.

لا يمكن لمنتدى الأغنياء ألا يتوقف عند تراجع حركة الملاحة بنسبة 30% في قناة السويس، كما عند ارتفاع أسعار النفط 4% مع مزيد من تحويل مسارات ناقلات النفط من البحر الأحمر بعد الضربات الأميركية-البريطانية 

للمصادفة، ينعقد منتدى دافوس (15-19 يناير/كانون الثاني) على وقع أزمة التجارة بعد 100 يوم على حرب غزة، والضربات العسكرية للحوثيين في خمس محافظات يمنية من بينها صنعاء، تماما كما انعقدت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في مراكش على وقع التداعيات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" التي لا تزال تغرقها الدماء الفلسطينية وجثث  آلاف الأطفال حتى الآن... لا يمكن للاقتصاد العالمي أن ينأى بأرقامه عن هذه الدماء، ولا عن أثر التلوث المناخي الفظيع الذي تسبب به هذا الكم الهائل من البارود والسموم جراء القصف الإسرائيلي الوحشي غير المسبوق بكثافته في مدة قصيرة وبقعة جغرافية صغيرة جدا، حيث سجلت انبعاثات كربونية خلال أول شهرين فقط من الحرب بلغت 281,315 طنا، توازي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية لجمهورية أفريقيا الوسطى!

لا يمكن لمنتدى الأغنياء ألا يتوقف عند تراجع حركة الملاحة بنسبة 30 في المئة في قناة السويس، كما عند ارتفاع أسعار النفط 4 في المئة مع مزيد من تحويل مسارات ناقلات النفط من البحر الأحمر بعد الضربات الأميركية-البريطانية الأخيرة، واضطراب حركة السفن واختيار ممرات أخرى أطول مسافة وبتكلفة تزيد 4 أضعاف في الأقل، في مقابل نشاط حركة السفن والفرقاطات العسكرية، على حساب التجارية التي لاذت جنوبا نحو رأس الرجاء الصالح. فما الذي يمنع الممرات الأخرى من أن تُختطَف بدورها، أو أن تُشلّ حركتها لأسباب قاهرة، مثل الجفاف الحاصل في قناة بنما، وهي ممر حيوي آخر، وما هي الأسس التي يمكن أن تُرسى مستقبلا لتجنيب الاقتصاد العالمي خضات كهذه، والتطلع إلى ما ينبغي التركيز عليه من التطور التكنولوجي السلمي ورفع الفاعلية الاقتصادية والازدهار. 

القصف الإسرائيلي الوحشي غير المسبوق بكثافته في مدة قصيرة وبقعة جغرافية صغيرة جدا، سجل انبعاثات كربونية خلال أول شهرين فقط من الحرب بلغت 281,315 طنا، ما يوازي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية لجمهورية أفريقيا الوسطى 

يقدر كبير الاقتصاديين السابق في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، جون لويلين، احتمال حدوث اضطرابات "خطيرة في التجارة العالمية" بنسبة 30 في المئة، ارتفاعا من 10 في المئة قبل أسبوع فقط، وأعرب عن قلقه من تفاقم النزاع الى درجة يمكن أن يؤدي انتقال الصراع في البحر الأحمر إلى مضيق هرمز والشرق الأوسط، مما قد يترك تأثيرا خطيرا على أسعار النفط.

وتساعدنا الأرقام في استيعاب أسباب الهبّة الدولية "المتأخرة" لـ"تحرير" باب المندب من صواريخ الحوثيين، فهو ممر نحو 15 في المئة من التجارة العالمية و12 في المئة من تجارة النفط و8 في المئة من تجارة الغاز. وبالطبع، قد تُنسف كل جهود المصارف المركزية في العالم في العمل على خفض التضخم في حال وقف الإمدادات وارتفاع أسعار النفط والحبوب والمواد الأولية والسلع، وما يستتبع ذلك من خفض توقعات النمو الاقتصادي العالمي من 2,6 في المئة في 2023 إلى 2,4 في المئة السنة الجارية وفقا للبنك الدولي، بعد أعوام صعبة، تخللتها جائحة "كوفيد-"19 وحرب روسيا على أوكرانيا التي استنزفت أوروبا عسكريا واقتصاديا، وبعد انهيار أسواق ومصارف لم تلتقط أنفاسها بعد.

فيما تشتد حال "عدم اليقين" مع انعقاد اجتماعات دافوس، فإن الأكيد في هذه المرحلة، أن أحدا لم يعد غير معني بما يجري في أي نقطة في العالم حتى في أسوج حيث دعا القائد الأعلى للقوات المسلحة السويدية ميكايل بيدن السويديين "أن يستعدوا نفسيا للحرب"!

font change