"على يمين القلب" لليالي بدر: جدٌ مسلم وجدّة يهودية

رواية عن مجتمع فلسطين وشتاته

AFP
AFP
ليالي بدر، خلال حضورها الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السنمائي المقام في منتجع الجونة على البحر الأحمر، 29 أكتوبر2020.

"على يمين القلب" لليالي بدر: جدٌ مسلم وجدّة يهودية

في مفتتح رواية "على يمين القلب" للفلسطينية ليالي بدر، تقول الساردة إنّها تكتب لتشفى، وهي عبارة تبرّر، ربّما، جملة الذكريات التي تجمعها الرّاوية في أوراق متناثرة استعادت فيها أزمنة وأمكنة مختلفة بدءا من فلسطين.

الكاتبة التي ولدت في أريحا تعود بنا من خلال بطلتها غرام إلى هذه المدينة الساحلية التي لها رائحة البرتقال حيث تتذكّر شغفها بنشر الغسيل على سطح البيت ومشاهدتها هناك لأوّل فيلم رسوم متحركة من والت ديزني، وفي السطح رأت تيلسكوب أبيها الأبيض الكبير والذي يعتبر، حسب الساردة "أوّل عربي ينحت مرآة تليسكوب بيده". وتستذكر الكثير من القصص المليئة بالأساطير الخيالية والتي تماهت معها وصارت تعتقد أنها تتحدث مع الجنِّيات وتأمرهن بالقيام ببعض المهام.

تستذكر أوّل مرّة طرّزت فيها قطعة قماش بمساعدة أمّها التي اعتبرتها أوّل قطعة من جهار عرسها. لتسرد من هذا المنطلق قصّة زواج أبيها وأمّها، والتي نعرف في موضع آخر من الرواية أنّ أجدادهما ينحدران من ديانتين وثقافتين مختلفتين، إذ أن الجدّة لجهة الأم واسمها راحيل وصلت مع زوجها "كوهين" وأمّها "سمحا" في أواخر القرن التاسع عشر من إسبانيا على متن سفينة، ضمن سفن كثيرة كانت محمّلة بعائلات يهودية جاءت من إسبانيا والبرتغال "يحملون اسم السفارديم الذين يتحدثون بلهجة اللادينو المختلفة عن اللهجة العبرية المعروفة في فلسطين"، الموصوفة من قبلهم بـ "أرض الميعاد". راحيل التي درست الطب في جامعة مدريد بدت أكثر التزاما بتعاليم التوراة من أمّها. فتحت عيادة صغيرة لها في القدس سرعان ما كبرت وتوسعت مع بلوغ ابنها يعقوب السنتين وولادتها لابنتها جويا عام 1900.

تقدّم الرواية صورة قريبة عن مجتمع فلسطين في تحولاته خلال القرن العشرين

قبل النكبة

على الرغم من انشغال الأم في عيادتها والأب في نشاطه السياسي إلاّ أنهما ربيا طفليهما على حلم نشوء "دولة إسرائيل". في حين أن الجدة سمحا بقيت تخفّف هذا الغلو وتحثّ على قبول الآخر مخففة نبرة الانتقام لدى كوهين وانتقالها إلى ابنتها راحيل.

حين يصبح جويا ويعقوب شابين سيرتادان الأندية الليلية والحفلات مع مسلمين ومسيحيين ويهود "حيث درج كبار المغنِّين والفنانين على القدوم من مصر وبيروت ليُحيوا حفلاتهم في مدن فلسطين المختلفة". وفي الوقت الذي كانت فيه فلسطين تعيش مرحلة الانتداب البريطاني، بدأ "الحُلم بدولة اسرائيل يقترب حثيثا. كان الطلائعيون اليهود يعملون على قدم وساق، المستوطنون يبنون مستعمراتهم بهمة ودأب، حسب الخطة التي جنَّدوا لها كل الموارد العلمية والفكرية والمادية من كل أنحاء العالم".

في إحدى السهرات تتعرّف جويا على رشيد الذي نشأ منذ صغره في السفارة النمساوية في القدس حيث عمل والده في قسم المراسم. فكان على صلة يومية مع إيفا، زوجة السفير، التي رعته بعد وفات أمّه وهو في الثالثة من عمره، فألحقته بمدرسة "الفرير"، حيث توفّرت له فرصة تعلّم اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية قبل أن توفّر له فرصة دراسة الصحافة في الجامعة الأميركية في بيروت.

حين التقى جويا في بيت لحم كان قد أصبح صحفيا في "جريدة القدس" فانبهر بجمالها وتمسك بها، إذ الحب "لا يقيم وزنا لاختلاف الديانات" فهربت الفتاة من بيت عائلتها اليهودية لتتزوج الشاب المسلم. ومن هذا الزواج جاءت أمّ الساردة التي تزوّجت أبيها، ابن أبو العامر، بعد أن التقيا في حافلة وصادف وجودهما في عمل طبي لإنقاذ جرحى معارك بين اليهود والعرب عام 1947.

رشيد الذي كان قد استضاف مرّة الفنّانة أمّ كلثوم أنجب مع زوجته جويا تسعة أبناء اتفقا على تدريسهم في مدارس مسيحية، لا مسلمة ولا يهودية. لكن المعارك التي نشأت وقتها أحدثت شرخا في العائلة، وأدّى قرار مجلس الأمن بالتقسيم إلى بقاء نصف العائلة في القدس الغربية والنصف الآخر في القدس الشرقية.

عذابات شخصية

لا تأخذ حكاية الآباء معظم صفحات الرواية، بل هناك العذابات الشخصية لغرام والتي صاحبتها في طفولتها وشبابها، بُعدها عن الأبوين في مدرسة داخلية (دار الطفل العربي) في القدس، علاقتها بالفتيان وزواجها وهي ما زالت طفلة من أحد أقربائها. وقبل ذلك معايشتها لحرب 1967 وفقدانها لصديقاتها وأصدقائها الذين لم ترهم بعد نزوحها إلى عمّان ومنها إلى الكويت. هناك خذلان الأب وعذاب الأم وفراقهما، على الرغم من توحدهما في أنشطة سياسية واجتماعية.

AFP
ليالي بدر، تحضر عرض فيلم الفارس والأميرة ضمن الدورية الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي، في مسرح مارينا، في الجونة بمصر، 23 سبتمبر 2019

ظنت غرام أنّ أباها يريد التخلّص منها، فهي عبء بالنسبة إليه، أنثى يمكن أن يرمي بها من الشرفة أو يدفع بها للزواج بسهولة، فصورته تبدو قاسية إذ لم يسمح لبناته بزيارة قبر أمهن بعد وفاتها، أو بوضع صورتها على حائط غرفتهن، أو حتى الحديث عنها. "رحلت ماما ورحلت رائحتها وبقي الأثر فينا، نحن بناتها". لهذا بقيت غرام تتوسل الحب من الآخرين وتبحث عنه حتى وإن كان بالشراء.

تقدّم الرواية صورة قريبة عن مجتمع فلسطين في تحولاته خلال القرن العشرين، فنتعرّف من خلال سرد غير تصاعدي على حال الكثير من الجوانب الاجتماعية كالتعليم والصحافة والعلاقات الأسرية ضمن حكايات عائلات كانت تعيش في سلام أو في صراعات ثقافية متنامية وصولا إلى اندلاع الحرب وترقب الفلسطينيين مجيء الجيوش العربية لإنفاذهم وشعورهم بعدها أن الحكومات العربية خذلتهم، ثم خروجهم من بيوتهم ومدنهم وقراهم إثر مذابح عامة.

كلّ ذلك جاء من خلال الانتقال بين الأزمنة، وهو انتقال حوّل السرد الروائي، كما ظهر في بعض الأجزاء، إلى سرد للذكريات، فبدا أن الكاتبة أرادت أن تفشي سيرتها الشخصية من خلال بطلتها غرام وقد راحت تسرد بضمير الأنا كاشفة عن كلّ شيء في حياتها.

font change

مقالات ذات صلة