فوز ترمب بولاية آيوا... واستئناف الاستقطاب السياسي والاجتماعي في أميركا

يترسخ موقع ترمب يوما بعد آخر في صدارة السباق الجمهوري

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

فوز ترمب بولاية آيوا... واستئناف الاستقطاب السياسي والاجتماعي في أميركا

بخلاف مُنافسَيه الاثنين رون ديسانتيس، ونيكي هيلي، اللذين قضيا أوقاتا طويلة في ولاية آيوا، تضمنت زيارة كل مقاطعاتها وإقامة أنشطة انتخابية كثيرة فيها، اكتفى دونالد ترمب بزيارة قصيرة للولاية وأنشطة قليلة فيها ليحصد فوزا غير مسبوق لمرشح جمهوري في تاريخ هذه الولاية المحافظة في الغرب الأوسط الأميركي، أحد المعاقل التقليدية للحزب الجمهوري.

في الحقيقة كان انتصاره مذهلا بكل المعايير: صوتت له 98 مقاطعة من مقاطعات الولاية الـ99، وحُسم التصويت له بعد 31 دقيقة فقط من بدء المؤتمرات الانتخابية، التي يُفترض أن تتواصل لساعات، وحصل على 51 في المئة من عدد المصوتين، بفارق 30 نقطة عن المنافس التالي.

حالها حال أربع ولايات أخرى، تتبع ولاية آيوا نظام المؤتمرات الحزبية (Caucuses)، الأشد تعقيدا وتمثيلا للروح الحزبية، لحسم تنافس المرشحين الحزبيين للرئاسة، فيما تستخدم 45 ولاية أميركية نظام الانتخابات التمهيدية (Primaries) الأبسط في التنظيم والذي يسمح بمشاركة شعبية أوسع. هنا تكمن أهمية المؤتمرات الحزبية في آيوا التي فاز فيها ترمب، بوصفها كاشفة عن المزاج العام السائد بين الناخبين الجمهوريين على امتداد البلد.

تُعد آيوا من الولايات البيضاء عموما، قليلة التنوع العرقي، نحو 88 في المئة من سكانها من البيض الذين يُعدون ديموغرافيا الكتلة التصويتية الأكبر التي يستمد منها ترمب دعمه الانتخابي (يشكل البيض أكثر من 75 في المئة من مجمل عدد السكان، وهم الأكثر تصويتا مقارنة بالمجموعات العرقية الأخرى). ضمن هذه الكتلة الواسعة والمتنوعة، تبرز ثلاث شرائح داعمة بقوة لترمب، كما ظهر ذلك في آيوا مؤخرا وفي الانتخابات الرئاسية عام 2016 التي فاز فيها ترمب.

أثبتت آيوا أن الجمهور التقليدي المؤيد لترمب لا يزال ثابتا في دعمه للرئيس السابق، وأن الدعاوى القضائية الكثيرة التي تلاحقه لم تؤثر على هذا الدعم.

الشريحة الأولى هم المسيحيون الإنجيليون الذين حقق ترمب كثيرا من مطالبهم، مثل التضييق على الإجهاض، وترشيح قضاة محافظين (مثلوا أكثر بقليل من نصف عدد المصوتين في آيوا).

ثم هناك الشريحة الثانية المكونة من عمال المصانع، من غير الحاصلين على شهادات جامعية، الذين يطلق عليهم "ذوو الياقات الزرقاء". يشعر هؤلاء بالاستياء بسبب انتقال كثير من المصانع الأميركية التي يعملون فيها إلى دول ذات عمالة أرخص في آسيا وأميركا اللاتينية في سياق صعود العولمة التي دعمتها بقوة سياسات الحزب الديمقراطي خصوصا في عقد التسعينات الذي انقضى معظمه تحت رئاسة بيل كلينتون، المكروه بشدة بين جمهور ترمب.

ثم هناك الشريحة الثالثة الأصغر حجما لكنها أكثر تأثيرا انتخابيا عبر التمويل والمشاركة، والمتمثلة في المزارعين. استفاد هؤلاء من الاعفاءات الضريبية والمنح المالية أثناء رئاسة ترمب، فضلا عن السياسات الحمائية التي اتبعها الرجل، خصوصا تجاه الصين، لدعم الإنتاج والتصدير الزراعيين في أميركا.

تجد هذه الكتلة التصويتية في ترمب تعبيرا عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وتعتبر خطابه السياسي القائم على المواجهة الشرسة لفظيا، وشيطنة "الساسة المتحكمين" في العاصمة الفيدرالية عبر تصويرهم كمجموعة أنانية ومعزولة عن الناس العاديين، إعلانا صادقا عن غضبهم من ساسة واشنطن من الديمقراطيين والجمهوريين "المزيفين".

أثبتت آيوا أن الجمهور التقليدي المؤيد لترمب لا يزال ثابتا في دعمه للرئيس السابق، وأن الدعاوى القضائية الكثيرة التي تلاحقه لم تؤثر على هذا الدعم، إن لم تكن قد زادت منه. في 2016 خسر ترمب آيوا لصالح المرشح الرئاسي الجمهوري تيد كروز بحصوله على نحو 27 في المئة من أصوات الناخبين، مقابل 24 في المئة لصالح ترمب حينها. لكن بحصوله على 51 في المئة في سباق الترشح الانتخابي الأخير في الولاية تضاعفت أرقام ترمب ليصبح ممثلا حقيقيا للمصوتين البيض الغاضبين الذين يعتبرون أن الحزب الجمهوري التقليدي قد خذلهم وفشل في تمثيل مصالحهم. 

دور ترمب كمنقذ ومحارب يتجاوز أثره بكثير السباق الانتخابي بزمنه المحدد والإدارة المؤسساتية له فوزا أو خسارة، إلى صراع ثقافي شرس بخصوص الهوية ومستقبل التعايش ودور المؤسسات في أميركا. 

انتصار ترمب الساحق في آيوا، بوصفها الولاية الأولى في السباق الانتخابي الجمهوري، يساعده في تشكيل زخم متصاعد يُسهل حصوله على انتصارات انتخابية أخرى في الولايات القادمة: نيوهمبشاير، نيفادا، ساوث كارولاينا، ميتشيغان وسواها، وصولا إلى "يوم الثلاثاء الكبير" في الخامس من مارس/آذار، موعد تصويت 17 ولاية، والذي يُتوقع له أن يحسم السباق الجمهوري لصالح ترمب.

في العادة هناك الكثير من التركيز الإعلامي على سباقات الترشح الانتخابي في الولايات المبكرة: آيوا أولا، ثم نيوهمبشاير ثانيا، قبل أن يتراجع هذا "الوهج" مع استمرارها في ولايات أخرى على نحو متسارع يحولها إلى شأن عادي، باستثناء التغطية الواسعة التي يتلقاها يوم "الثلاثاء الكبير".

Eduardo Ramon

يقوي الفوز المبكر والساحق لترمب في آيوا عزيمة حملاته الانتخابية المحلية في الولايات الأخرى ويمنحها المزيد من الثقة، ويحسم- لصالح الفائز- تردد بعض الناخبين الجمهوريين المتأرجحين، ويزيد من نسبة التبرعات التي تتلقاها. لكن فضلا عن هذه الوظائف التقليدية التي يقدمها الفوز المبكر للفائز، ثمة فائدة مهمة أخرى يحصل عليها ترمب تناسب شخصيته ويعتاش هو عليها نفسيا وسياسيا، خصوصا في ضوء ضخامة الفوز نفسه، وهي تحوله من مجرد مرشح سياسي ساع إلى فوز انتخابي يمكن التعاطي معه مؤسساتيا، إلى ممثل اجتماعي لقسم كبير من مجتمع أميركي غاضب يشعر أن قيمه الثقافية ومصالحه الاقتصادية، التي كانت تاريخيا أساسية في بناء أميركا وتطورها، تتعرض لتهميش منهجي ومتعمد من القوى الليبرالية "المهيمنة" التي "اختطفت" الدولة (الحزب الديمقراطي، والجمهوريون المعتدلون).

هنا يبرز دور ترمب كمنقذ ومحارب يتجاوز أثره بكثير السباق الانتخابي بزمنه المحدد والإدارة المؤسساتية له فوزا أو خسارة، إلى صراع ثقافي شرس بخصوص الهوية ومستقبل التعايش ودور المؤسسات في أميركا. 

ستواجه خسارة ترمب المحتملة انتخابيا أمام بايدن- خصوصا إذا كانت النتائج متقاربة- برفض كثير من القاعدة الجمهورية المؤيدة لترمب لهذه النتيجة وبالتالي تأكيد حسها بالتهميش وتعميقه. 

تعيد هذه الدينامية التي أكدتها نتائج المؤتمر الانتخابي في آيوا، إنتاج الاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد الذي برز إلى السطح في 2016 عندما خاض ترمب حملته الانتخابية للفوز بترشيح الحزب الجمهوري وصولا إلى فوزه بالانتخابات الرئاسية العامة ضد مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون. يشي كل هذا باستئناف محتمل للصراع بخصوص نتيجة الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والقبول بها على أساس ما تعلنه المؤسسات المعنية.

في هذا الصدد، ستواجه خسارة ترمب المحتملة انتخابيا أمام بايدن، خصوصا إذا كانت النتائج متقاربة، برفض كثير من القاعدة الجمهورية المؤيدة لترمب لهذه النتيجة وبالتالي تأكيد حسها بالتهميش وتعميقه. 

الخاسر الأكبر في مثل هذا السيناريو هو الحزب الجمهوري الذي يأخذه ترمب على نحو متصاعد نحو اليمين المتشدد، خطابا وسلوكا، فيما تبدو الأصوات والشخصيات "العاقلة" في هذا الحزب عاجزة عن صناعة بديل غير شعبوي لترمب يبقي جمهور الحزب ومطامحه وأدوات اشتغاله في إطار المؤسسات والسياسة كتنافس انتخابي وفكري مفتوح، لا أن يأخذه خارجهما، كما يفعل ترمب ببراعة عالية ومقلقة.

font change

مقالات ذات صلة