"شماريخ" عمرو سلامة... ولع بالنموذج الأميركي وجيل يبحث عن ذاته

جماليات بصرية وسردية غاضبة

"شماريخ" عمرو سلامة... ولع بالنموذج الأميركي وجيل يبحث عن ذاته

تبدو المدينة التي يرسمها عمرو سلامة، مؤلفا وكاتبا، في فيلمه "شماريخ"، المعروض حاليا في صالات السينما بالقاهرة، أشبه بمدينة "غوثام"، التي كان يعيش فيها جوكر، أو آرثر فليك، في الفيلم الشهير. فهي مملكة ظالمة، تكثر فيها الشرور، تُباع فيها النساء وتُشترى، تُغتصب بأوامر من الرجال الكبار، من الأب، الذي يلوح كحاكم أوحدلهذه المُدينة، وواضع لقوانينها أو بالأحرى مُصمّم لحالة الانفلات عن القوانين المعتادة خارج هذا العالم، وهذه المدينة. سوى أنه، وكما حدث مع جوكر في غوثام، يحدث في مملكة الأب سليم العاهل، يلعب دوره خالد الصاوي، أن يفيض الشرّ عن الحد، مما يُعرّض أمن هذه المملكة، أو لعلّه من الأجدر القول، أمن هذا الشر، إلى خطر يُهدّد وجوده نفسه.

"شماريخ" عمل سينمائي مُفعم بالغضب، أو على الأقل يُمكن رؤيتهعلىهذا النحو، إذا اتخذنا مسافة ضرورية من التصريحات الصحفية لمُخرجه المائلة إلى اعتبار الفيلم عملا ترفيهيا فقط، لا ينبغي تحميله ما لا يحتمل، وكذا إذا تأملنا عالم الشماريخ نفسه، إذ يملك العاهل ضمن مشاريع أخرى شركة أو مصنعا يعمل على تحضير جميع أنواع المُتفجرات. تُضيء الشماريخ، أو الألعاب النارية، سماء الفيلم في لقطته الأولى، بطريقة تُذكِّرنا باللقطة الأولى من فيلم "أوبنهايمر"، التي استعرضت حُلم العالِم الكبير بما سيصير لاحقا قُنبلته الذرية، تلك التي وضعت نهاية إجبارية لفصل من تاريخ البشرية، وبدأت فصلا جديدا.

مع ذلك، فإن رؤوف أو آسر ياسين، البطل الأول في الفيلم، لم يحلم ولا حلمت شريكته في الرحلة أمينة، تلعب دورها أمينة خليل، بصناعة أي قنابل ذرية، ولا التأثير بأي شكل على مجرى التاريخ، إنما كان الاثنان، على العكس تماما يبحثان عن المزيد من الخضوع للسرديات الكبرى إن جاز التعبير، والمزيد من التمسّك بما وجدا عليه آبائهما، إن كان خيرا، وإن كان شرا، وكذلك التشبّث بالآباء أنفسهم، وإن كانوا فاسدين إلى أقصى حد، وذلك حتى يتدخل القدر بطريقة ما ويقلب لهما المعادلة.

تبدو ثيمة علاقة هذا الجيل الشاب، مع أفراد عائلته، إحدى الثيمات المُفضلة في أعمال سلامة السينمائية

في السنوات الأخيرة، قدّم المخرج ذائع الصيت عمرو سلامة عدة أعمال فنية، أشهرها كان مسلسل "ما وراء الطبيعة"، الذي عُرِض على المنصة الأميركية "نتفليكس". العمل المأخوذ عن قصص المراهقين الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق، لم يكن أوفر تجارب سلامة حظا. افتقد المسلسل ذو الإنتاج الكبير، من ضمن عناصر عديدة، إلى تحقيق الانسجام الداخلي بين الحلقات نفسها. انصبهّ الاهتمام فيه على الخِدع والتكنيكات الشكلية، وكان ينبغي أن تأتي كلها بالطبع على الطراز الأميركي المُبهِر، وكأن هذا هو مقياس النجاح، وتلك هي المهارة. غاب المنطق الدرامي في رسم الشخصيات وفي تطوّر الأحداث، مما جعل من الصعب إنتاج أجزاء أخرى من السلسلة، أو على الأقل حتى إكمال مُشاهِدة الجزء المعروض منها إلى النهاية. في تجربة "ما وراء الطبيعة" بدا أن غرام عمرو سلامة بهوليوود، يسير ضده، لا معه، والقول نفسه يُمكن أن ينطبق على الكثيرين من أبناء الأجيال الشابة في الإخراج. إذ إن التقليد، يظل باهتا، إن لم تدعمه رؤية أصيلة تستفيد من العناصر الأجنبية وتدمجها بوعي في العمل الجديد.

إلى هذا، لا يُمكن حصر الكلام على تجربة سلامة الإخراجية في التأثر الزائد عن الحد بالأميركيين. ما زلنا نذكر له أعمالا مثل "زي انهاردة" و"أسماء" وحتى "الشيخ جاكسون"، وقد عبّرت عن شيء من هوية الجيل المولود في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، الجيل الذي تربى على الأفلام الأميركية المقصوصة منها المشاهد الجريئة، الذي قرأ قصص الجيب من تأليف خالد توفيق ونبيل فاروق، الجيل الذي لم يعثر على نفسه تقريبا وسط الزحام، والذي لاحقته الأحداث السياسية، بصورة أربكته، وذكرته مجددا أن المُتحكمين في المشهد ما زالوا من أجيال الكبار، أصحاب الفِكر المُتجمِد. لعمرو سلامة، أسلوبه في التعبير، وأيضا خفته، التي ربطته بمُشاهدين من تلك الأجيال، قد لا يكونون من مُحبي الفلسفة، ولا التأمل العميق للذات.

الموقف من العائلة

لا يأتي "شماريخ" خارج ولع سلامة بالنموذج الأميركي. وفي نظرة ما، قد يبدو كل هذا العالم السينمائي المُظلِم، عالم سليم العاهل وابنيه المُتصارِعين، مجرد ديكور يسمح بتحقيق مشاهد الانفجارات والمعارك وضرب الرصاص ومطاردات السيارات. لكن القول بذلك قد لا يكون مُنصفا في هذه الحالة. تبدو ثيمة علاقة هذا الجيل الشاب، مع أفراد عائلته، إحدى الثيمات المُفضلة في أعمال سلامة السينمائية.

رأينا مثلا في " زي انهاردة " التأثير المُدمِر لحضور ذلك الشقيق المُدمن، وكان يؤديه بالمناسبة أيضا آسر ياسين، في حياة شقيقته البطلة بسمة. وفي "الشيخ جاكسون"، لعبت العلاقة المتوترة مع الأب بعد موت الأم دورا في صياغة الهوس الديني الذي شكّل شخصية البطل لاحقا. في "شماريخ" سؤال عن العلاقة مع الأب، وإنما أيضا العلاقة مع الأخ، وهما كل مَنْ تبقى تقريبا من هذه العائلة.

تتمحور أزمة رؤوف أو "بارود" كما يُطلقون عليه في أنه ابن غير شرعي لسليم العاهل، حارب وحده، بعد انتحار أمه، في سبيل أن يحصل على اعتراف أبيه به. أما هذا الأب نفسه، فله ابن آخر، شرعي، يُشبهه إلى حد بعيد، وهو فارس، يلعب دوره آدم الشرقاوي، ويُقدمه الفيلم في صورة الشرير المثالي بقصة شعر غريبة، واستعداد مُستمِر للاغتصاب، إنه يقول مثلا إن شيئا لا يثيره عند المرأة إلا رفضها الحقيقي له (وهو سلوك موروث من الأب العاهل)، ناهيك عن سهولة قتل الحيوانات والبشر سواء كانوا أقارب له أم لا.

وكأنما ورث رؤوف من أمه الجارية المُغتصبَة الرِقة، وورث فارس من أمه الزوجة المتواطئة انغماسها في لعبة العنف التي يُجيدها سليم العاهل، إضافة طبعا إلى وراثته لطباع سليم العاهل نفسه، الذي يخطف النساء ويبعث ابنه رؤوف لقتل الرجال، ومنهم والد أمينة، يلعب دوره سامي مغاوري، الذي يذهب إليه في المشهد الأول من الفيلم، لهذا الغرض، وهناك يلتقي أمينة للمرة الأولى، هو من خلف القناع، وهي بوجهها المكشوف والمصدوم لمصرع لأبيها.

وإن كان رؤوف ذهب للقتل مدفوعا بأمر سليم العاهل واشتراطه كي يحصل على اعترافه، فإنه لا يظهر، أمام سقوط أمينة أرضا، كشخص قاس أو رجل قاتل، ولا يمتثل لبقية أوامر الأب بقتلها، بل على العكس يُقرر إنقاذها. ربما يفعل ذلك، لأنه رأى فيها شيئا من الرقة، التي اتسمت بها أمه، ودفعتها للانتحار، هربا من كل هذا الظلم الذي يزرعه من حوله أينما وجد سليم العاهل، بعد أن أنجبت له رؤوف.

هي متاهة كبيرة إذن، أدخل فيها عمرو سلامة بطليه، من جهة رؤوف بصراعه الداخلي بين الخير والشر، ومن جهة أمينة التي ستأخذ على عاتقها مهمة الانتقام من قاتل أبيها، بتقديمه للعدالة، فهي في الأساس مُحامية ماهرة، ومن دون أن تعرف، أن ذلك الذي يظهر باستمرار لإنقاذها كلما تعرضت للخطر قد يكون قاتل أبيها، والأهم من دون أن تعرف طبيعة هذه الأنشطة التي مارسها أبوها، والتي ربطته بعالم سليم العاهل الذي لا يُمكن أن يأتي من وراءه أي خير. أما لقاء الطرفين، بما يمثله من رحلة سينمائية مزدوجة للبطل، فمن المفترض أن يُقدم لنا على الشاشة قصة حُب متوقعة تُخفف من وطأة هذا الظلام، وتمنح رؤوف دافعا للقتال ضد الظلم، ورغبة في حماية أنثاه (هذه المرة استعان عمرو سلامة بخبير كوري لتنفيذ مشاهد الحركة، ليأتي الأكشن على الطريقة الكورية، في فيلم بالروح الأميركية).

قد لا تكون رحلة رؤوف وأمينة، أكثر من رحلة بحث عن الذات التي نبذها العالم الخارجي

والواقع أن قصّة الحُب ليست أقوى ما في هذا الفيلم، على الرغم من أنها يُفترض أن تكون المُحرِك الأساسي للتحوَّل في حياة كل من أمينة ورؤوف ووعيهما. كأننا رأيناها من قبل، تفاصيل هذه القصة، في أفلام أخرى وسمعنا حتى حواراتها. كما أننا افتقدنا بشدة إلى لفتة حميمية بين جسدين تقاربا كثيرا (بسبب مشاهد المعارك والدمار)، لكنهما ظلا على مسافة آمنة مع ذلك، لا تُضايق المشاهد المُتحفظ وربما أيضا المُخرِج المتحفظ.

رحلة البحث عن الذات

إن الشماريخ في النهاية، هي الغضب، أو هي بالأحرى السماح بالتعبير عنه، تحريره، عبر تفجيره إلى الخارج. وفقا لهذه الرؤية، فإن ما يحتاجه البطلان بشدة، كان قريبا منهما طوال الوقت، أي تحرير هذا الغضب غير الواعي من العائلة. على المستوى السياسي، فإن جيل الثمانينات والتسعينات، كان المُحرِك الأساسي للمظاهرات التي طالبت بتغييرات في الحياة العامة في مصر، في يناير 2011، بل كانت الشماريخ حتى إحدى المُفردات الحاضرة بقوة في المشهد الثوري آنذاك. وهي الأجيال، التي دفعت بشكل أو بآخر، أثمانا فادحة من وراء هذه المطالبات، والتي كان عليها أن تُراجع نفسها، حين لم يتحسّن المشهد العام، ومن ضمن هذه المراجعة للذات بالطبع، تأتي المراجعة للعلاقة بالعائلة، ومنها الأب بمفهومه كسُلطة، قد تكون مُتعسفة، أو مُستبدة في الكثير من الأحايين.

"شماريخ" فيلم مُمتع على المستوى البصري. يقدم العديد من أماكن التصوير، والمعارك المُتقنة التي ينتصر فيها البطل على طول الخط (لأنه طبعا البطل، هكذا تُحب السينما بمختلف جنسياتها)، كما يُقدِم ظُلما لا حدود له، وقهرا يُصيب النساء والحيوانات، وكأنه يُترجم بطريقة هزلية المشهد في الشرق الأوسط الكبير. قد لا يُحب عمرو سلامة هذا الكلام، لكن أليست السينما في نهاية الأمر، مرآة لعصرها؟ أوليست هذه إحدى الأسباب التي نُحب من أجلها السينما ونُقدرها؟

قد لا تكون رحلة رؤوف وأمينة، في "شماريخ" أكثر من رحلة بحث عن الذات، لا الجذور، لا الماضي، لا الأسباب، إنما الذات التي نبذها العالم الخارجي وضنّ عليها باعتراف ما، هذه الذات بحاضرها فقط، بحاجتها إلى الدفء، إلى الجمال، إلى الحُب وإلى أفق ما للمستقبل. هكذا يُمكن أن نجد معنى للعبارة التي قالتها أمينة في مشهد الانفجار الكبير، الذي كان يُفترض به أن يُنهي حياتيهما: "أنا برفض أننا نموت دلوقت!". وكأن هذه النهاية المؤقتة لعالم البطلين، والتي لا يحفل بها العالم الخارجي على أي حال، كانت الطريقة الوحيدة لبناء عالم جديد آخر، أكثر رومنسية ومثالية، وربما خيالية أيضا. إنها الحلول الفردية لمَن استطاع إليها سبيلا.

font change

مقالات ذات صلة