كرة القدم وضغائن التاريخ

كرة القدم وضغائن التاريخ

شاهدت مقطع فيديو ظهر لي على "التايملاين" مثلما تظهر منشورات أخرى كثيرة، بسبب تفاعل جمهور التواصل الاجتماعي الكبير معها، أو ظنا من خوارزميات تلك المنصات أنها يجب أن تقع ضمن اهتمامي، وفي هذا المقطع مذيع عراقي غاضب، بل يكاد ينفجر غضبا، بعد خروج بلاده من بطولة آسيا على يد الأردن، عازيا السبب إلى "تآمر حكم المباراة"، ومعه الاتحاد الآسيوي برمته الذي لا يريد للدول العربية الوصول إلى مراحل متقدمة في البطولة.

في مقطع فيديو آخر يكاد مراهق عراقي يشعل النار بنفسه مباشرة على الهواء للسبب عينه. وفي مقطع ثالث يكاد والد أحد لاعبي المنتخب الأردني يسقط أرضا بسكتة قلبية من شدة الانفعال بعد تسجيل هذا المنتخب نقطة الفوز. وفي مقطع رابع، نرى شابا يشمت بسقوط أحد المنتخبات العربية أمام منتخب آسيوي، مرددا عبارات طائفية شامتة. وفي مقطع خامس نرى رجلا عربيا من بلد آخر، يشمت بسقوط منتخب عربي آخر، لأسباب سياسية هذه المرة.

لم أشاهد المباراة ولست خبيرا بكرة القدم، لكن الطريقة التي كان يتفجع بها المذيع، ومعه في الأستوديو ضيوف يبكون بحرقة غريبة، أو طريقة احتفال والد اللاعب، أو محاولة الشاب الانتحار على الهواء، أو شماتة هذا وذاك، كلها بعض من أجواء التواصل الاجتماعي التي تصل ذرى استثنائية من الانفعال والغضب والتعصب والتحيز. وقد رأينا مثل ذلك، سواء تعليقا على هذه المباراة، أو مثلا على خروج الإمارات من البطولة أمام طاجكستان وموقف جمهور المدرجات السوداني المؤيد لهذه الأخيرة، أو مباريات المنتخب الفلسطيني وأغنية "دمي فلسطيني" التي لعلعت في المدرجات إلخ. وفي الوقت نفسه، هناك جماهير أخرى لا تقل غضبا، منها الجمهور المصري، الذي خرج منتخبه من البطولة الأفريقية، فانهالت التعليقات والمواقف والأحزان، منها ما يحمل محمد صلاح مسؤولية الخسارة، ومنها ما يربط بين هذه الخسارة وأوضاع مصر الاقتصادية المتدهورة "هي وقفت على كرة القدم" كما قال أحد المعلقين.

إنها مرآة لما يعتمل في الشوارع العربية، والنخب العربية، من مشاعر الإحباط والتشرذم والخوف من الحاضر والقلق من المستقبل

كرة القدم في صلب كل هذه المواقف والانفعالات، وعلى الرغم من تعليق بعض المعلقين والمهتمين بأن هذه لا تعدو كونها "لعبة" ولا يجب الانجرار  إلى المشاحنات والعصبيات ومراكمة المشاعر السلبية بين الشعوب العربية، التي لا ينقصها مزيد من الانقسام والتشتت والخصومات الظاهر منها والخفي، فإن الواقع يقول إن الأمر بات يتجاوز منطق "اللعب" و"اللعبة"، وما يحتمله هذا المنطق من احتمالات الربح والخسارة و"الروح الرياضية" التي يفترض أن تكون السائدة دوما، فقد باتت كرة القدم، عند عشاقها على الأقل، وهم كثر جدا، ومن بينهم نخب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، هوسا حقيقيا وعلامة من علامات التقدم أو الانحطاط، الانتصار أو الهزيمة، السعادة أو الابتئاس، اليأس أو الأمل. وهذا الهوس المتلفز، الذي عززته وسائل الإعلام، وبرنامج مسابقات ومنافسات محلية وإقليمية وعالمية، لا تكاد تنقطع على امتداد العام، أصبح مظهرا دائما من مظاهر الحياة العربية، بل يكاد يتفوق على جميع المظاهر والاهتمامات الأخرى.

وإذا كان الهوس بكرة القدم، على مستوى العالم، قديما قدم اللعبة نفسها، وإذا كان الطابع الاستهلاكي للعبة، بات لا يوفر ركنا من أركان الأرض، ولا شعبا من شعوبها، فأغلب الظن أنه بلغ في العالم العربي حدودا خرافية لا تبتعد كثيرا عن طريقة العرب في تدبير شؤونهم في كل شيء آخر تقريبا. سوف تجد شيئا من القبلية يستوطن هذه المعادلة، مثلما باتت تستوطنها العصبيات الوطنية، والنزاعات السياسية، ولغة المديح والهجاء، والمناصرة والعداء، لتكون هذه اللعبة جزءا لا يتجزأ من ركام المشكلات العربية المتفاقمة، سواء داخل كل بلد على حدة أو في العلاقات الملتبسة بين تلك البلدان. فلم تعد هي متنفس الفقراء من فقرهم، ولا المظلومين من الظلم، ولا الغاضبين من أسباب الغضب الكثيرة، فحسب، بل دخلت في صلب تلك الديناميكية التي تحكم العلاقات في المنطقة العربية برمتها.بهذا المعنى، فإن كرة القدم، وبقدر ما أنها جزء من ظواهر أعم ترتبط بواقع المنطقة العربية المرتبك بصورة شبه مستدامة، فإنها تعبير صادق عن ذلك الواقع. إنها مرآة لما يعتمل في الشوارع العربية، والنخب العربية، من مشاعر الإحباط والتشرذم والخوف من الحاضر والقلق من المستقبل، وهي أيضا مرآة لطموحات عرب بأن يكون لهم حضور وتأثير في العالم وحصة من القوة الناعمة التي تمثلها الكرة، وتطلع عرب آخرين إلى أن تكون الرياضة، ومنها كرة القدم، موردا اقتصاديا واستثمارا طويل الأمد. كرة القدم تعبر عن ذلك كله، ولا تستطيع سوى ذلك، فهي اللعبة الأكثر جماهيرية في العالم، وهي المجال العام الجماعي شبه الوحيد المتاح للجميع، بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية أو طوائفهم أو طبقاتهم الاجتماعية، أو مستواهم التعليمي. كرة القدم بالفعل تجمع الجميع، وتعبر عن الجميع، لكنها وهي تفعل ذلك، فإنها لم تستطع، في الحالة العربية، أن تكون قوة جامعة، ولا أن تنقل العرب من مستويات دنيا في الجدال العام إلى مستويات أعلى، ولا أن تحل مشكلات العرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكثيرة، ولا أن تمنح العرب الهوية الحداثية التي يتوقون إليها.

قد تبدو كرة القدم، على ازدهارها هي أحد أشكال الفشل الهوياتي المزمن الذي تتخبط به المنطقة منذ عقود

حسب كرة القدم أن تكون مرآة. وبهذا الوصف، فإنها مرآة أمينة فعلا. أما تحويلها إلى شبه أيديولوجية جماعية، مبشرة بالازدهار والتفوق، وناشرة لقيم التسامح والحوار، ومعززة للروح الرياضية ولفكرة التنافسية الإيجابية، وذلك بعد فشل كل الأيديولوجيات الأخرى السياسية والدينية إلخ، فهل يؤتي أكله؟ ففي عالم عربي غارق بالفوضى، والأزمات، والنزاعات، والخلافات، والأجندات المتضاربة، هل ننتظر من كرة القدم، ومن جماهيرها وعشاقها، أن يغردوا خارج السرب، في وقت قد تبدو كرة القدم، على ازدهارها هي أحد أشكال الفشل الهوياتي المزمن الذي تتخبط به المنطقة منذ عقود.

وفي حين حققت دول عربية، بالفعل، تقدما حقيقيا في هذا المجال، وباتت هناك منتخبات تتمتع بتنافسية احترافية دولية حقيقية، بما يعكس نجاعة الاستثمار في الرياضة، كما نجحت دول عربية في استضافة بطولات دولية مهمة، أي نجحت في أن تكون جزءا من العالم الأوسع، ولم تعد جالسة في مقعد المتفرج، كما لا يفوتنا طفرة المواهب العربية الجديدة، سواء في المنطقة العربية أو في الأندية العالمية، والتي تؤشر إلى أن عقود التهميش السابقة، وكل الاضطرابات والحروب والأزمات، لم تنجح في القضاء على شغف أصيل بالكرة، في حين لا بد من الاعتراف بجميع هذه الوقائع الإيجابية، فإن السائد لا يزال هو القدرة على استدخال كل ذلك في منطق الاحتراب والعداوة والإلغاء والعصبيات والحزبيات والمذهبيات، والأخطر هو منطق المؤامرة والشعور العارم بأن ثمة أياديا خفية تحوك طوال الوقت مسارات البطولات وخلاصاتها. فلا يعود الاحتفاء بكرة القدم احتفاء بروح الشباب والتحفز للمنافسة والنجاح، مما ينتسب إلى لغة المستقبل والطموح إليه، بل يصبح جزءا من ماض بعضه يعود إلى مئات السنين، من ضغائن وأحقاد ظلت معلقة، ومن حاضر شائك لا يبدو أن ضغائنه المستجدة وأحقادها الراسخة، في طريقها إلى الحل.

font change