"شعرة معاوية" بين طهران وواشنطن

لا عودة قريبة إلى طاولة المفاوضات

AFP
AFP
عناصر من "الحشد الشعبي" يحملون صور القتلى الذي سقطوا في الضربات الأميركية أثناء تشييعهم في بغداد في 4 فبراير

"شعرة معاوية" بين طهران وواشنطن

يُحكى أن أعرابيا سأل معاوية بن أبي سفيان: كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي؟ فأجابه معاوية: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.

أصبحت هذه الحكاية مثلا يتناقله العرب عندما يريدون الاستدلال على حنكة التعامل في المواقف السياسية، والتحول من سياسة التصعيد إلى التهدئة. ويبدو أن "شعرة معاوية" هي التوصيف الأدق للعلاقة بين الولايات المتحدة وإيران. فكلما تصعّد طهران مواقفها وعملياتها من خلال أذرعها في المنطقة وتهدد فيها مصالح ونفوذ ووجود الأميركيين، تقابلها تصريحات البيت الأبيض بأن أميركا لا تريد حربا في الشرق الأوسط!

مشهد متناقض يعيشه الشرق الأوسط في حالة "لا حرب ولا سلام"، بين واشنطن وطهران. هي حرب على أراضي دول أخرى، وصراع على النفوذ في منطقة تشهد توترا وعدم استقرار. ويبدو أن منطقتنا ترفض مغادرة مشاهد الحروب وما يترتب عليها من قتل ودمار وتهجير واستنزاف مواردها الاقتصادية. وكلما توجهت إرادات حكام دول المنطقة نحو الشراكة الاقتصادية وطرح مشاريع التنمية، نجدها تعود مرة أخرى إلى دائرة الحروب والصراعات على النفوذ.

وقد حدث تحول نوعي في مستوى عمليات الفصائل المسلحة التي تستهدف الوجود العسكري الأميركي في العراق، بعبور الحدود العراقية واستهداف قاعدة "البرج 22" بالقرب من مقر "حامية التنف" التي تقع على الحدود الأردنية- السورية، ما أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة العشرات.

وقد اتهمت الإدارة الأميركية إيران بالوقوف خلف هذه الهجمات ومن نفذها من فصائل مسلحة عراقية مدعومة من طهران. كما تبادلت القيادات الأميركية والإيرانية التهديد والوعيد، إلا أنها اتفقت على أن خيار الحرب ليس مرجحا، وأن توسيع رقعة الحرب ليس مطروحا.

الرئيس الأميركي جو بايدن قال: "لا أعتقد أننا بحاجة إلى حرب أوسع في الشرق الأوسط. هذا ليس ما أبحث عنه"، ليقابله قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي بالتصريح: "نسمع بعض التهديدات من تصريحات المسؤولين الأميركيين، ونقول لهم إن أي تهديد لن يمر دون رد... نحن لا نسعى للحرب، لكننا سندافع عن أنفسنا".

أميركا واستراتيجية ردود الفعل

زاد عدد هجمات الفصائل المسلحة في العراق على منشآت عسكرية أميركية إلى أكثر من 160 هجوما، بين شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 ونهاية يناير/كانون الثاني 2024. وكانت استراتيجية إدارة بايدن في التعامل مع هذا التهديد العسكري تنحصر في ردود الفعل. ويكون الرد على الهجمات التي تسبب ضررا في القواعد العسكرية التي يوجد فيها الأميركيون، سواء كانوا جرحى أو قتلى. ولذلك فشلت استراتيجية ردود الفعل في تحقيق ردع هجمات فصائل "المقاومة الإسلامية في العراق".

فشلت استراتيجية ردود الفعل الأميركية في تحقيق ردع هجمات فصائل "المقاومة الإسلامية في العراق"

يدرك الرئيس الأميركي تماما أن الرد على الهجوم الذي أدى إلى مقتل ثلاثة وإصابة العشرات من الجنود، يجب أن يعبر عن التوازن الذي يواجهه في السعي لمعاقبة مرتكبي هذه الهجمات وتقليص قدراتهم واستعادة قوة الردع. الأمر الذي من المرجح أن يتخذ شكل عمليات انتقامية "عدة". كما أعلن ذلك في المؤتمر الصحافي الذي أعقب الهجوم على الموقع الأميركي.

استراتيجية ردود الفعل الأميركية على استهداف القوات الأميركية من قبل الفصائل المسلحة في العراق، أوصلت الإدارة الأميركية إلى خيارات حرجة، تتراوح بين كيفية التوازن إزاء استعادة الردع ومنع التصعيد الكارثي الذي يمكن أن يجر المنطقة إلى حرب مباشرة مع إيران. لا سيما بعد مطالبة خصوم بايدن من الصقور الجمهوريين، مثل السيناتور ليندسي غراهام، من ولاية كارولينا الجنوبية، بمهاجمة إيران على الأراضي الإيرانية. ودعوة نيكي هيلي، مرشحة الحزب الجمهوري للرئاسة، إلى استهداف قادة الحرس الثوري الإيراني. وفي الوقت نفسه، ينتقد دونالد ترمب، خصم بايدن المحتمل في انتخابات 2024، الرئيس الأميركي باعتباره ضعيفا ويتهمه بجر الولايات المتحدة إلى مستنقع آخر في الشرق الأوسط.

AP
آلية تابعة لـ "الحشد الشعبي" ترفع أنقاض مقر له تعرض للقصف الأميركي في القائم في 3 فبراير

ونقل تقرير نشره موقع "سي إن إن" بالعربية، تصريحات سياسيين تدعو بايدن إلى تغيير استراتيجية ردود الفعل، والانتقال نحو الضربات المباشرة لأذرع إيران والفصائل المرتبطة بها في منطقة الشرق الأوسط. إذ قال السيناتور توم كوتون عن ولاية أركنساس: "يجب أن يكون الرد الوحيد على هذه الهجمات هو الانتقام العسكري المدمر ضد القوات الإرهابية الإيرانية، سواء في إيران أو في جميع أنحاء الشرق الأوسط". وأضاف: "أي شيء أقل من ذلك سيؤكد أن جو بايدن جبان لا يستحق أن يكون القائد الأعلى".

ودعت هيلي سفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة، في تصريح لموقع "نيوزماكس"، بايدن إلى استهداف قادة الحرس الثوري الإيراني مباشرة. وقالت: "ابحث عن واحد أو اثنين ممن يتخذون القرارات... سيخيفهم جميعهم عندما تفعل ذلك".

"المرونة البطولية" استراتيجية إيران تجاه أميركا

أول من التفت إلى استراتيجية إيران تجاه خصومها والتي يسميها المرشد الإيراني علي خامنئي "المرونة البطولية"، هو الكاتب أكبر كنجي، المتخصص في الشؤون الإيرانية، في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، بعد توقيع الاتفاق بين إيران و"مجموعة 5+1" عام 2015، إذ يشير كنجي إلى أن خامنئي تحدث عن "المرونة البطولية" مرات عدة: عام 1996 في خطاب ألقاه أمام جمهور من الدبلوماسيين الإيرانيين. وكررها عام 2013 في خطاب ألقاه أمام أعضاء مجلس صيانة الدستور. ويجسد خامنئي فكرة "المرونة البطولية" بأن "لاعب المصارعة في حلبة الصراع مع الخصم يظهر المرونة لأسباب فنية لكنه لا ينسى الخصومة".

تدرك طهران أن الانجرار إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل أو أميركا سيكون بمثابة لعبة صفرية

ويبدو أن سياسة إيران الخارجية بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بدأت تتجه مرة أخرى نحو استراتيجية "المرونة البطولية". فهي لا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل ولا الولايات المتحدة، ولكنها تعمل على تحريك أذرعها للاشتباك مع الولايات المتحدة في مناطق وجودها ونفوذها. 
استراتيجية "المرونة البطولية" التي تعتمدها إيران في مواجهة خصومها، دائما ما يكون هدفها إيقاف التصعيد. فهي استراتيجية للمناورة بالمواقف السياسية والانسحاب خطوة إلى الخلف، ولا تسعى دائما لتحقيق أهداف إيران في سياستها الخارجية، وإنما لمنع الخصم من تحقيق أهدافه، من خلال التراجع المؤقت عن سياستها. وعادة ما تستخدم هذه الاستراتيجية عندما تريد التهدئة. 
على سبيل المثال، فإن إيران التي ترفع شعار "الموت لإسرائيل"، و"تحرير القدس" وتقوم أيديولوجيتها السياسية على ركيزة العداء لإسرائيل وقيادة مشروع محاربتها في المنطقة، تدير الصراع منذ بدء أحداث "طوفان الأقصى" وحرب إسرائيل ضد غزة وفق منطق الدولة وحسابات الربح والخسارة، وبعيدا عن الصدام المسلح المباشر أو الدخول في حرب مباشرة. حيث تدرك أن الانجرار إلى ساحة المواجهة العسكرية مع إسرائيل أو أميركا سيكون بمثابة اللعبة الصفرية. إذ إن لدى إيران الكثير من المنشآت والمؤسسات التي يجب أن لا تكون هدفا لأي هجوم عسكري من قبل أميركا أو إسرائيل. 
لقد استخدم الإيرانيون استراتيجية "المرونة البطولية" عندما ضغطوا على "كتائب حزب الله" في العراق، لتعلن إيقاف العمليات ضد مقرات الوجود العسكري الأميركي والذي أتى بعد تعهد الرئيس الأميركي بايدن بشن حملات عسكرية ضد الجماعات المتورطة في قصف القاعدة الأميركية بالأردن. وتصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بأن "الميليشيات المدعومة من إيران مسؤولة عن هذه الهجمات المستمرة على القوات الأميركية، وسنرد في الوقت والمكان الذي نختاره". 
وتعهدت كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي، بمحاسبة المسؤولين عن قتل الجنود الأميركيين، وقالت إن بلادها "ستواصل الحرب ضد الإرهاب، وسنحاسب جميع المسؤولين". ليأتي الرد الإيراني، على المستوى الرسمي بتصريح وزارة الخارجية الإيرانية على لسان المتحدث باسمها ناصر كنعاني: "سبق أن قلنا بوضوح، إن جماعات المقاومة في هذه المنطقة ترد على جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الصهيوني"، وهي "لا تأتمر" بأوامر إيران، و"تقرر أفعالها بناء على مبادئها الخاصة".

EPA
الرئيس الأميركي جو بايدن والسيدة الأميركية الاولى جيل بايدن في قاعدة دوفر الجوية اثناء استقبال نعوش الجنود الاميركيين الذين قتلوا في قصف الفصائل الموالية لايران على قاعدتهم قرب الحدود الاردنية - السورية، في الثاني من فبراير

تستخدم إيران أذرعها المسلحة في البلدان التي تفرض سيطرتها عليها، تارة للتصعيد العسكري ضد الوجود الأميركي ونفوذه في منطقة الشرق الأوسط. وتارة أخرى للتلويح بقوة نفوذها وسطوتها السياسية في بلدان تفرض سيطرتها عليها.

يخبرنا تاريخ الشرق الأوسط أن موت نظام قديم، وولادة نظام جديد في المنطقة يحتاج إلى حرب حتى تتم عملية الانتقال

يدرك القادة في إيران أن الفترة القادمة لن تكون فيها فرصة للعودة إلى طاولة المفاوضات مع إدارة بايدن. ولذلك، فهي ليس لديها ما تخسره لحين حسم نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية في نهاية هذا العام. كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران لم تعد تحمل أي جديد يمكن أن يؤثر على ارتفاع مستويات التضخم الاقتصادي، ودخول الاقتصاد الإيراني في مرحلة الكساد العميق. 
إذن، خيارات طهران جميعها مُرة، ويبدو أنها حتى أذرعها والفصائل المسلحة في المنطقة، لم تعد غايتها تحقيق النفوذ الإقليمي في المنطقة، وإنما هي أدوات لردع الخصوم وتوسيع جبهات مواجهتهم، لمنعهم من زيادة الضغط على إيران، والبقاء ضمن خطوط صراع وتنافس مع تلك الأذرع وليس مع إيران مباشرة. 
ويخبرنا تاريخ منطقة الشرق الأوسط المتخم بالحروب والصراعات أن إعلان موت نظام قديم، وولادة نظام جديد في المنطقة يحتاج إلى حرب حتى تتم عملية الانتقال. والصراع على منطقة الشرق الأوسط وقوة النفوذ الإيراني في المنطقة سيكون محكوما بعاملين أساسيين: الأول عودة ترمب إلى البيت الأبيض. والثاني، كيف ستكون نهاية الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة.

font change

مقالات ذات صلة