أسامة علام: العرب جزء من الارتباك العام الذي يتخبط فيه العالم

روائي وقاص مرتحل بين المدن والثقافات

أسامة علام

أسامة علام: العرب جزء من الارتباك العام الذي يتخبط فيه العالم

روائي وقاص مصري، خرج من المنصورة محملا إرثاً من الإبداع والثقافة والفكر ليواجه الكثير من التحديات في الغربة حيث سافر للحصول على الماجستير من فرنسا، وعلى الدكتوراه في طبالمناعة من جامعة مونتريال بكندا. اهتم منذ اللحظة الأولى برصد حياة المهاجرين والمغتربين، وتوضيح الصورة الحقيقية لهم بطرق مختلفة، ظهر ذلك في أعماله الروائية والقصصية على السواء.

لا يمكن للحديث مع الروائي والطبيب أسامة علام المقيم بأميركا أن يبدأ إلا من تلك العلاقة الملتبسة دوما بين الشرق والغرب، بين التقدم والحضارة وحقوق الإنسان، وبين دول العالم الثالث التي تعاني مشكلات التخلف والفقر وضياع الهوية.

  • يبدو أن كتابتك تقع بين منزلتين أو مكانين، بين الشرق والغرب، بين الواقع والخيال، بين الشعر والفانتازيا، كيف تصنع عالمك، وإلى أي مدى استفدت من دراستك العلمية في الكتابة الأدبية؟

أسئلة الهوية هي الأشد إرباكا وقسوة في عالم أصبح الأكثر اندماجا وقدرة على طمس الهوية الأهم للإنسان. أقصد هنا الإنسانية على بساطتها المركبة كهوية وحيدة هي الأعمّ في شموليتها، كانت الكتابة الإبداعية طريقة لمحاولة مواجهة أسئلتي الشخصية ماذا أفعل في هذا العالم. ببساطة أوضح: لماذا أنا هنا وما الذي عليّ فعله لفهم نفسي وفهم الآخرين. أنا شخص مرتحل بقدر خاص، ولدت في ليبيا ونشأت في سلطنة عمان وتربيت في مصر وعشت شبابي في فرنسا وأصبحت رجلا في كندا وأشيخ على مهلٍ في أميركا. أعيش حالة ارتحال دائم وأعرف الجسور والمطارات والمدن الغريبة كأماكن يمكن وصفها بـ"أوطان محتملة". عملت في مهن عدة، من حارس أمن الى مدرس بالجامعات، ومن باحث علمي الى طبيب بيطري. من كل هذا القلق تخرج عوالمي، كريشة مستمتعة بمداعبات الريح أكتب، بلا مشاريع أو أحلام كبرى. ككاتب هاوٍ ألعب لعبة الكتابة. بلا حسرات متوقعة أو محاولات لتغيير العالم. بالتالي تخرج الكتابة كما وصفتها في سؤالك. بلا أي مهاترات حول الموهبة أو الإتقان.

كانت دراستي العلمية أحد روافد التجربةـ ولا شك أن كل شخص يتعانق ظله مع ظلي، يكون تجربة وحكاية في رحلة بحثي الدائم عن هويتي كإنسان.

تضعك مهنة الطب في تماس مع الفقد، تحاول كطبيب وإنسان أن تخفف الألم، وأنت موقن بطبيعتك الإنسانية أنك معرّض له

  • من يتابع رواياتك لا يلحظ التزامك ثيمة أو فكرة محددة، منذ البداية التي ربما لم تحظ بانتشار كبير في "واحة الزهور السوداء" حتى "الاختفاء العجيب للرجل المدهش" ثم "تولوز" و"الوشم الأبيض"، ثم الانتقال الى الخيال المطلق في "الحي العربي"... كيف تختار مواضيع رواياتك؟

الواقع المعاصر سخيف ورتيب. أكتب حياتي بشكل مختلف في كل رواية أو عمل أدبي. أعيش على صفحات كتبي تلك الحياة الخاصة التي يحرمني الواقع منها. أغلب شخصياتي هي ممن قابلتهم بصورة أو بأخرى في أيام ترحالي الطويلة. لكني أعيد كتابتها بما يتناسب مع ذائقة رجل غريب. أغمض عينيَّ وأتخيل عالما آخر ينضج على مهل. لا أفكر في أحد أو شيء سوى أن أتابع حياة هؤلاء الأصدقاء المتخيلين. موضوع الرواية ليس سوى خشبة مسرح صماء وصالحة لاستقبال الموسيقى والأضواء وإبداع الممثلين. في كلّ عمل إبداعي هناك دائما قصة حب، موت، فرح أو قسوة. لكن تبقى الصنعة دائما في كيفية تحريك خيوط الدمى. متى تجعل الأضواء خافتة أو ساطعة؟ متى تستخدم غيتار الفلامنكو أو متى تعزف الناي الحزين. نحن لا نخوض في النهر نفسه مرتين. هذا تماما ما يحدث لك ككاتب. وفي كل مرحلة عمرية أنت كاتب آخر، أنت شخص آخر.

  • لنتوقف قليلا عند "الحي العربي"، وتلك الفكرة/ الحلم، في الرواية كان كل ما فكرت فيه أن يكون للعرب وجود وسيطرة كاملة على حي من أحياء كندا، ولكن كيف ترى العرب اليوم؟ هل يمكن أن يتوحد العرب فعلا عند قضية قومية كبرى؟

لا يمكن وصف حال العرب خارج ظروف واقعهم المعاصر وتاريخهم الطويل. على الرغم من أن الإنسانية كلها في حالة معرفية مربكة. فكرة النقاء العرقي لفصيل إنساني ما هي في طريقها الى الاندثار. لذلك أرى أن العرب جزء من الارتباك العام الذي يتخبط فيه العالم. أعيش فى نيويورك، الوجهة الاكثر استقبالا للبشر من كل مكان. الكل يحلم بأشياء مبهمة على فهمي. أحيانا أتساءل ماذا نريد كعرب؟ ولا أجد إجابة واضحة سوى ما سيجيبه أي إنسان، عربيا أكان أم لم يكن. الكثير من الأمان والجري خلف هدف السعادة المتحرك دائما. فهل سيتوحد العرب عند قضية قومية واحدة؟ الإجابة في تقديري هي أن على العرب أولا التوحد حول أهمية أن يصبحوا أشخاصا قادرين على فهم أهمية أن يصبحوا أحرارا في مناقشة قضية وجودهم كمجموعة من البشر. نحن شعوب مفعول بها. غضبنا وفرحنا رد فعل. علينا أولا أن نتعلم أن نكون فاعلين.

  • من الطب البيطري والعلاقة المباشرة بالحيوان إلى التقاط أدق تفاصيل حياة الإنسان، كيف ترى تلك العلاقة بين عالم الطب والأدب؟

هناك دائما هذا السؤال المبهر عن علاقة الانسان بالعالم. كل الأمور مرتبطة بقدرتك على الرؤية كطريقه مهمة للتعلم. تجعلنا الحياة المعاصرة نتناسى وضعنا الأهم كمخلوقات لا تعيش وحدها. مدن الأسمنت والتكنولوجيا الحديثة سرقت ما أعطى الانسان متعته في المتابعة. أتعلم كل يوم من زبائني أصحاب الفراء الإنسانية البسيطة والمدهشة. يجعلك الطب تطرح الأسئلة. تندهش وتعاود الابتسام من قدرتك على تجاهل حقائق مؤكدة كالخوف من الموت أو المرض. تضعك مهنة الطب في تماس مع الفقد. تحاول كطبيب وإنسان أن تخفف الألم. وأنت موقن بطبيعتك الإنسانية أنك معرّض له. فتصبح أشفّ وأقدر على فهم ضعفك الشخصي. من هنا تستطيع رؤية العالم بعين الحكّاء. الحكي يحتاج إلى الكثير من الحكمة والتفهم والانضباط. وهي أمور لا يمكن ممارسة مهنة الطب من دونها.

اندماج

  • بين الاندماج في الغرب ومحاولات التعايش، وبين الانغماس في الغرب والانتماء المطلق له، كيف ترى تلك العلاقة التي يعيشها الكثير من المهاجرين العرب، وهل ينسلخ الكاتب عن بيئته ووطنه؟

وهل ينسلخ الانسان عن كينونته البشرية؟ نحن كبشر نتاج ذكرياتنا الأولى. عوالم الأجنّة والطفولة والصبا هي المكوّن الأهم فى رسم شخصياتنا. تعيش في بلاد لا تتكلم لغتك ولا تستطيع الضحك على النكات الآتية من الوطن بقلب يعي أنك شخص مختلف. التحدي الأهم فى تجربة الهجرة هو قدرتك على التأقلم. أن تتعلم أن تحمي جوهرك الثقافي الأصيل تحت صدفة من ثقافتك الجديدة المكتسبة. لا أحد يستطيع تغيير جلده. هناك من يصبغه، لكن متى كانت الصبغات حيلة ناجعة تصل بك إلى حالة الديمومة؟ لن تطربك إلا الأغاني التي اعتدت سماعها، طهي الأمهات، لمسات الحب الأولى، اكتشاف ذكورتك أيام المراهقة. ستجلدك النوستالجيا وستحب ذلك. لتبقى سعادتك الأهم في مقابلات الأصدقاء من بلادك البعيدة. لتكتب مثلي قصصا وروايات تدور أحداثها في الغرب لكن دائما بقلب ذلك الطفل الذي لم يغادر أبدا.

مهمة الإبداع أن يجعل البشر أكثر إنسانية وتفهما وجمالا. لا أن يخبرهم ما هو الصواب والخطأ

  • كيف ترى تلك العلاقة بين الرواية والقصة في عالم القراء والأدب اليوم؟ كيف ترى الرهان على القصة القصيرة من واقع تجربتك في مجموعتي "طريق متسع" و"كم مرة سنبيع القمر"؟

أحب دائما أن أصف نفسي ككاتب هاوٍ. لذلك لا ألزم نفسي تتبع الرائج لمجرد رواجه. الأمور كلها يجب أن تكون خاضعة لقدرتك على التحرر كي تستطيع أن تكتب نصا تحبه، ويستطيع التعبير عن حالتك النفسية. كتبت الرواية دون الاهتمام بأن أسجل للآخرين ما أريد أن يتعلموه. هذه ليست مهمة الفن في الأساس. مهمة الإبداع أن يجعل البشر أكثر إنسانية وتفهما وجمالا. لا أن يخبرهم ما هو الصواب والخطأ. البحر مليء بالسمك وليس على الصياد الهاوي سوى الاستمتاع بتجربة الصيد. هو بالتأكيد يعلم أن سمكة واحدة وجميلة ستكفي لوجبة العشاء. ماذا يهمني إذا أصبح الوطن الذي أكتب له وبلغته تصدر فيه رواية لكل قارئ. عندما كتبت القصة القصيرة كتبتها لأني أريد أن أكتب بهذه الطريقة الآن. دون رهانات على شيء. أنا رجل يعيش على الجانب الآخر من المحيط الشاسع الذى يفصلني عن الوطن. لا أقابل النقاد أو القراء. أكتب لكي أبحث عن سعادتي الشخصية في اللعبة. أمارس الابداع لكي أصبح أكثر حرية. بالطبع يسعدني الإطراء كأي كاتب. لكنه لا يدفعني الى الكتابة.

أنماط

  • تعدّدت أنماط كتابة الرواية العربية في الفترة الأخيرة، وكان هناك حضور كبير للرواية التاريخية مثلا، كما ظهرت أفكار تجريبية ومخالفة لما اعتاد عليه القارئ في الكتابة، كيف ترى تلك التغيرات، وإلى أي نمط من الكتابة تنتمي أكثر؟

علينا جميعا ككتاب الاستمتاع باللعبة وعلى القارئ الاختيار والاستمتاع بما يجده مناسبا لذائقته الخاصة. لا أحب كثيرا الروايات التاريخية ولا أعتقد أنها تناسب ذائقتي، طالما لا تقدم جديدا يعيد كتابة التاريخ. أستمتع أكثر بالأفلام الوثائقية التي تحكي التاريخ وأجدها أكثر صدقية. أحب الخيال لأنه يحرر الروح. أحب أكثر الكتابة عن البشر ومعاناتهم، عن ذلك العالم الخفي لهؤلاء المعذبين أو السعداء بصمتهم الاختياري. أحب عوالم ساراماغو ومياس وكنزابورو أوي والكوني ومنيف. حيث الإنسان هو المسرح والمسرحية.

  • الحديث عن الروايات والقراء والنقد يقودنا مباشرة إلى الجوائز العربية، من ساويرس إلى كتارا إلى الجائزة العالمية (بوكر العربية) والحديث عن المحاصصة الجغرافية في كل جائزة، بل وحتى جائزة نوبل وما ترشحه من كتابة مختلفة كل عام، كيف ترى موقع الرواية العربية اليوم؟ وهل يمكن أن يكتب روائي كتابة خاصة للحصول على جائزة؟

 الرواية العربية الآن في محاولة للبحث عن شخصيتها الخاصة. يكتب الكثيرون محاولين إعادة إنتاج الرواية الغربية بشكل عربي، حسنا لا بأس في ذلك. هذا ما اعتمدناه تماما في جوائزنا العربية. فأصبح لدينا عالم كامل من الأشباه. أشباه جوائز وأشباه كتاب يكتبون للحصول على أشباه الجوائز تلك. في حالة متردية من الثقافة العامة والجري المحموم خلف انتشار وشهرة مشبوهين.

  بالطبع، تدعم ذلك دور نشر لا تهتم بسوى الربح بلا حركة نقدية جادة تذكر. بعدما أصبح لـ"البوكتيوبر" أهمية ومتابعون أكثر من أي ثقافية محترمة. وأصبحت مجموعات القراءة تمتلك القدرة على الصعود أو الهبوط بأي كاتب مهما بلغت أهميته. وأصبح "فايسبوك" وسيلة لتصفية الحسابات. فعن أي موقع للرواية العربية نتحدث إذن.

لديّ الكثير من الحكايات التي أتمنى أن أحكيها لآخرين كي نمضي وقتا أكثر مؤانسة، بلا طموح كبير لشهرة أو جوائز

  • جمعك كتاب "أربع محاولات للحياة" بعدد من الكتاب الأصدقاء المصريين، كيف ترى العلاقة بين الكتاب والأدباء في مصر والعالم؟ هل ساعدك وجودك في كندا على تكوين صداقات مختلفة؟ هل تتابع الإصدارات الحديثة للكتاب وما موقفك من كتابة الشباب؟

ساعدتني تجربة الهجرة في مصاحبة الكثيرين من البشر. بالطبع هنا لا احد يعرفني بصفة كاتب ولا أقدم نفسي بهذه الصيغة البتة. أحب البشر فى كينونتهم البسيطة والمرتبطة بتكوينهم الثقافي الأصلي. لي أصدقاء من جهات العالم الأربع، أتحدث ثلاث لغات، أهميتها هي التواصل مع جوهر الشخص الذي أتحدث معه، أتابع الإصدارات الحديثة للكتاب في العالم العربي بالكثير من الارتباك المصاحب لغزارة الإنتاج. وأحب كثيرا كل ما يكتبه الكتاب الشباب ليس لأنه الأفضل. الخبرة والتجربة والزمن كافية لابقاء الجيد فقط. لكن مصدر سعادتي دائما هو أن يختار شاب الكتابة كطريقة للتعبير. وكما قلت لك أنت في كل كتاب تخرج شخصا جديدا.

  • عشر سنوات تقريبا مرت منذ نشر مجموعتك القصصية الأولى، "قهوة صباحية في مقهى باريسي"، كيف تنظر إلى هذه السنوات العشر؟ وهل حققت ما كنت تحلم به؟

كتبت "قهوة صباحية" فى مونتريال بكندا. عشت بعدها حسب الترتيب الزمني في أدمنتون – كندا، ودبريدج وبرامس -أميركا، أتوا-كندا، ناتي ونيويورك بأميركا. هذا ما أنظر إليه في تلك العشر سنوات. كتبت خلالها روايات وقصصا كانت تطرح أسئلتها مدن لا تعرفني سوى بصفتي الشخص الغريب المستعد دائما لحزم حقائبه. هل كان الأمر جديدا؟ ربما في كثير من الأحيان. هل حققت ما كنت أحلم به؟ لا أعرف كما لا أعرف ما أفكار أعمالي المقبلة. أعرف فقط أنني أحب الكتابة كطريقة ناجحة في جعلي أكثر اتزانا، محاولا الاستمتاع بالرحلة على قسوتها أحيانا. لديَّ الكثير من الحكايات التي أتمنى أن أحكيها لآخرين كي نمضي وقتا أكثر مؤانسة، بلا طموح كبير لشهرة أو جوائز. فليس هناك أمتع من أن يسمعك أحدهم.

font change

مقالات ذات صلة