تعليق تمويل "الأونروا" يكشف نفاق المانحين

اتهم الفلسطينيون إسرائيل بتشويه سمعتها

DPA
DPA
شاحنة مساعدات تابعة لـ"الأونروا" تنتظر الدخول إلى قطاع غزة من معبر رفح في 19 نوفمبر

تعليق تمويل "الأونروا" يكشف نفاق المانحين

في خضم الأزمة المتواصلة في غزة، تواجه وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، تحديا جديدا، حيث تتهم إسرائيل 12 من موظفيها في غزة بالتورط في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي قادتها "حماس". ومما يثير الدهشة أن هذه الادعاءات ظهرت إلى السطح في اليوم نفسه الذي أمرت فيه محكمة العدل الدولية إسرائيل بتعزيز المساعدات لغزة كجزء من التدابير الرامية إلى منع الإبادة الجماعية.

وعلى الرغم من التحقيق السريع الذي أجرته "الأونروا" وإنهاء خدمة الموظفين المتهمين، جمد المانحون الرئيسون، الذين يساهمون بأكثر من ثلاثة أرباع ميزانية الوكالة، تمويلهم استجابة لهذه الادعاءات، في خطوة تعرض للخطر عمليات الوكالة في الشرق الأوسط، بما في ذلك غزة، مع احتمال توقفها بحلول نهاية هذا الشهر إذا لم يستأنف التمويل.

يكشف حجب الأموال عن الأونروا لامبالاة بها صلف تجاه 2.3 مليون شخص في غزة يواجهون العوز والمجاعة الوشيكة والمرض بسبب القصف الإسرائيلي المستمر والحرمان المتعمد من المساعدات، ما يفرض على الدول المانحة- بدلا من هذا العقاب الجماعي لكل الفلسطينيين الذين هم في أمسّ الحاجة بناء على مزاعم ضد حفنة من الأفراد- أن تستأنف التمويل وأن تدعم تحقيقات "الأونروا"، والأهم أن تدعو إلى وقف إطلاق النار لإنهاء الاستهداف العشوائي وقتل المدنيين الأبرياء.

مواجهة الاتهامات

تأسست "الأونروا" (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى) عام 1949 بهدف تقديم المساعدة والحماية للفلسطينيين الذين نزحوا إلى غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان والأردن. ويعمل لديها 30 ألف موظف، وتقدم المساعدة الإنسانية المباشرة والتنمية البشرية وبرامج الحماية لأكثر من 5.9 مليون لاجئ فلسطيني مسجلين لدى الوكالة ويعيشون في مناطق عملياتها. ويخصص أكثر من نصف ميزانيتها العادية للتعليم.

ومع ذلك، تعرضت "الأونروا" وعملياتها المنقذة للحياة منذ 26 يناير/كانون الثاني لتهديد وجودي. فقد اتهمت إسرائيل 12 من موظفي الوكالة بالمشاركة في عمليات اختطاف وقتل في أثناء غارة السابع من أكتوبر/تشرين الأول التي أشعلت حرب غزة. ووفقا لقناة "سكاي نيوز"، فإن الملف الذي أعدته المخابرات الإسرائيلية المؤلف من ست صفحات، وشاركته مع حكومات غربية مختارة فقط، يزعم أن ستة من هؤلاء الموظفين تسللوا إلى إسرائيل، أربعة منهم شاركوا في اختطاف إسرائيليين وآخر قدم دعما لوجستيا.

تعليق تمويل "الأونروا" أثار انتقادات قوية في أوساط المدافعين عن حقوق الإنسان وصانعي السياسات لأنه خاطئ وقاس ومقلق بشدة

ويؤكد الملف أيضا أن ما يقرب من 190 موظفا من موظفي "الأونروا" هم نشطاء تابعون لـ"حماس" أو "الجهاد الإسلامي" الفلسطيني. كما يدعي التقرير أن "الأونروا" مضطرة للعمل تحت سلطة وإشراف "حماس"، وتشارك في مساعدة الحركة بتأمينها المساعدات الإنسانية المنقولة إلى غزة.

ردود فعل مختلطة

استجابة لهذه الادعاءات أعلنت "الأونروا" بسرعة الإنهاء الفوري لعقود الموظفين المتهمين وبدأت دونما تأخير تحقيقا شاملا للتأكد من صحة تلك الادعاءات. وفي وقت لاحق، أكد الأمين العام للأمم المتحدة استقلالية التحقيق الذي تجريه الأمم المتحدة في هذه الادعاءات، وأكد أن مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية، وهو كيان التحقيق البارز داخل منظومة الأمم المتحدة، كلف رسميا بإجراء تحقيق شامل في هذه القضية.
مع ذلك، أعلنت أستراليا والنمسا وكندا وإستونيا وفنلندا وألمانيا وأيسلندا وإيطاليا واليابان ولاتفيا وليتوانيا وهولندا ونيوزيلندا ورومانيا والسويد وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بشكل جماعي تعليق مدفوعاتها لـ"الأونروا" إلى أجل غير مسمى استجابة لهذه الادعاءات.

AFP
فلسطينيون يتظاهرون في رام الله ضد قرار وقف تمويل "الأونروا" في 7 فبراير

وفي تناقض صارخ، أكدت حكومات بلجيكا وأيرلندا ولوكسمبورغ وسلوفينيا وإسبانيا والنرويج على استمرار دعمها المالي للوكالة بمقتضى القانون. وشددت هذه الدول في الوقت نفسه على ضرورة إجراء تحقيق شامل في هذه الادعاءات. في هذه الأثناء أعلن الاتحاد الأوروبي وفرنسا أنهما سيعيدان النظر في هذا الأمر في ضوء نتائج التحقيق الذي أعلنته الأمم المتحدة.

فجوة الأدلة

إن تعليق التمويل الذي قد يبلغ ثلثي إجمالي ميزانية "الأونروا"، أثار انتقادات قوية في أوساط المدافعين عن حقوق الإنسان وصانعي السياسات لأنه خاطئ وقاس ومقلق بشدة. وتتعدد أسباب هذه الإدانة وأهمها الطبيعة غير المتناسبة في قرار المانحين. 

أمست معارضة إسرائيل القوية لـ"الأونروا" أكثر وضوحا في ضوء ادعاءاتها الأخيرة ضدها

وأشار منتقدو القرار، كالأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى أنه لا ينبغي معاقبة الوكالة والفلسطينيين بسبب أفعال محتملة ارتكبها اثنا عشر موظفا من أصل 13 ألف موظف في غزة، ولا سيما أن الوكالة شرعت في معالجة القضية على الفور.
أما الاتهامات الموجهة إلى الموظفين الآخرين، الذين يشكلون نحو 10 في المئة من القوى العاملة، فكانت اتهامات عامة ولم تقدم أسماء أو أدلة دامغة. ومن بين من يتبنون هذا المنظور محطة "سكاي نيوز". فقد أعلنت بعد مراجعتها وثائق المخابرات الإسرائيلية، أنها لم تر دليلا على هذه المزاعم، وأن العديد منها، حتى لو كان صحيحا، لا يثبت تورط "الأونروا" بشكل مباشر.
اتهم الفلسطينيون إسرائيل بتلفيق المعلومات لتشويه سمعة "الأونروا"، هذه المنظمة التي تحمي وضع اللاجئين الفلسطينيين. وهذا الوضع أمر حاسم لضمان حق العودة إلى الوطن لـ6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لدى الوكالة بلا وطن.

يقين غير مبرر

إن الشك المعقول الذي أعربت عنه "سكاي نيوز" وآخرون، ينبغي أن يكون في الحد الأدنى سببا كافيا كي يتصرف المانحون بمسؤولية وينتظروا نتيجة التحقيق. فعدم التسرع في إصدار الأحكام يتسم بأهمية خاصة هنا، نظرا لتحامل إسرائيل على الوكالة وحملتها الطويلة الأمد عليها. حيث إن تل أبيب تزعم منذ مدة طويلة أن مقاتلي "حماس" استخدموا منشآت "الأونروا" لإخفاء الأسلحة وتخزينها، بما فيها  المدارس والمستشفيات، وحفروا أنفاقا تحت مباني الوكالة وأحيانا بعلمها.

Reuters
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش

أمست معارضة إسرائيل القوية لـ"الأونروا" أكثر وضوحا في ضوء الادعاءات الأخيرة. وشدد وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في 27 يناير/كانون الثاني على معارضة الحكومة الإسرائيلية المستمرة لـ"الأونروا". وذكر من بين ادعاءاته الأخرى أن وكالة الأمم المتحدة "تديم قضية اللاجئين" وكشف أن الحكومة الإسرائيلية "بقيادته" تعتزم "العمل على تأمين دعم الحزبين في الولايات المتحدة ودعم الاتحاد الأوروبي ودول أخرى على مستوى العالم لسياسته الرامية إلى وقف أنشطة الأونروا في غزة". أما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير فذكر أن الهدف هو أن يهاجر الفلسطينيون من غزة "طوعا"، مما يسمح لإسرائيل بإعادة إنشاء المستوطنات اليهودية غير القانونية في القطاع.

ليس هناك أسوأ من هذا الوقت لانهيار عمليات "الأونروا" وأكثر من مليوني فلسطيني يواجهون المجاعة

لا شك أن مسار العمل المفضل الذي كان من الواجب اتباعه، هو اعتماد منهج مدروس والامتناع عن الاستنتاجات المتسرعة والتصرف بشكل متناسب، نظرا للعواقب الكارثية المترتبة على تعليق مساعدات "الأونروا". ولم يكن مفاجئا أن يجبر حجم التمويل المعلق الوكالة، وهي منظمة الإغاثة الأكبر في غزة، على الإعلان عن أنها ما لم يستأنف التمويل "لن تكون قادرة على مواصلة" عملياتها في غزة أو الضفة الغربية أو الدول الثلاث الأخرى في المنطقة التي تعمل فيها "بعد نهاية فبراير/شباط". وما كان ثمة وقت أسوأ من هذا الوقت لانهيار عمليات "الأونروا" وأكثر من مليوني فلسطيني يواجهون المجاعة في غزة. كما تؤوي الوكالة أيضا أكثر من مليون فلسطيني نازح في 150 منشأة داخل غزة، وانهيار عملها قد يؤدي إلى موجة أخرى من النزوح الجماعي.

معايير مزدوجة مكشوفة

يؤكد توقيت الاتهامات نفاق الدول الغربية التي أوقفت تمويل "الأونروا". فقد أعلنت إسرائيل عن مزاعمها في اليوم نفسه الذي أصدرت فيه محكمة العدل الدولية حكما في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل، فوصفت الفظائع التي ترتكبها تل أبيب في قطاع غزة بأنها حالة معقولة لتوصف بأنها إبادة جماعية. واعتمدت المحكمة أوامر ملزمة لإسرائيل تطالبها باتخاذ تدابير فورية وفعالة ليغدو ممكنا توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية السيئة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة.
واتهم كثيرون إسرائيل بأنها اختارت توقيت اتهاماتها هذه كي تقوض الزخم المصاحب لحكم المحكمة. والأهم أن الخطوة الإسرائيلية تُعد مناورة للضغط على حلفائها كي يقطعوا التمويل، فيمكن ذلك إسرائيل من عرقلة تسليم المساعدات إلى غزة حتى دون تحدي حكم المحكمة.
وما يثير الدهشة أيضا بالقدر نفسه السهولة التي قامت بها الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا، بتعليق تمويلها الإنساني بينما تقاوم هذه الدول وقف المساعدات العسكرية ومبيعات الأسلحة لإسرائيل. مع أن قواتها ترتكب، مع إفلاتها من العقاب، انتهاكات واسعة النطاق وخطيرة ترقى إلى مستوى جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين.

على الدول المانحة أن تعطي الأولوية لحماية حياة المدنيين بكل الوسائل الضرورية بما في ذلك فرض وقف إطلاق النار

وعلى الرغم من حكم محكمة العدل الدولية، استمر القصف الإسرائيلي المكثف من الجو والبر والبحر في معظم أنحاء قطاع غزة، مما أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا المدنيين والتشريد والدمار.
لقد أصبح النفاق واضحا تماما، وعلى الأخص إذا أخذنا بالحسبان أن هذه الدول تدعي أنها تدافع عن نظام قائم على القواعد حيث تكون المساعدات الإنسانية، مثل الحياة المدنية، مقدسة. وبسلوكها على هذا النحو، تعمل القوى الغربية الكبرى كالولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة على تفكيك ما تبقى من مصداقيتها، ليس فقط في الجنوب العالمي، بل في بلدانها الأصلية أيضا.

AFP
عيادة "الشيخ رضوان" التابعة لـ"الأونروا" التي دمرها القصف الإسرائيلي، كما بدت في 3 فبراير

ومن أجل التخفيف من تداعيات القرار المتحيز وغير العادل بتعليق مساعدات "الأونروا"، فإن على الدول المانحة المعنية أن تمارس عاجلا ما تدعو إليه وأن تعطي الأولوية لحماية حياة المدنيين بكل الوسائل الضرورية بما في ذلك فرض وقف إطلاق النار.
لم يفت الأوان بعد على هذه البلدان كي تتصرف بحكمة وتنقذ ما تبقى من سمعتها، حتى الآن- ولكن ربما ليس أبعد.

font change

مقالات ذات صلة