مؤتمر ميونيخ ...حل الدولتين والمصلحة الأميركية

اتسم موقف واشنطن بالواقعية

EPA
EPA
الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ يتحدث أمام الدورة الستين لمؤتمر ميونيخ للأمن في 17 فبراير

مؤتمر ميونيخ ...حل الدولتين والمصلحة الأميركية

على امتداد ثلاثة أيام نهاية الأسبوع المنصرم، شكل مؤتمر ميونيخ للأمن منصة لاجتماع كبار صناع القرار وقادة الرأي في العالم، في تكرار سنوي لتظاهرة أمنية دولية، تناقش من خلالها المخاوف الأمنية الأكثر إلحاحا في العالم، في خضم توترات جيوسياسية متزايدة وارتفاع منسوب القلق وانهيار الثقة في نظام دولي افتقد قدرته على التعاون لحل الأزمات.

يُعد مؤتمر ميونيخ منصة هامة لفهم الكيفية التي تُفكر بها الولايات المتحدة والدول الأوروبية خاصة في ما يتعلق بالتحديات التي تطال النظام العالمي القائم والتهديدات الأمنية الدولية، لكن القاسم المشترك بين دورات المؤتمر المتتالية هو القلق الكبير الذي ينتاب الغرب إزاء مستقبل "هيمنته". لقد أقر مؤتمر ميونيخ في دورته عام 2023 وللمرة الأولى، أن النظام الدولي قد أصبح على أعتاب تعددية قطبية في ظل تعاظم جهود المعسكر المتمثل في روسيا والصين لتشكيل قواعد وقيم النظام الجديد. إذ إن معارضة قواعد النظام القائم لم تعد حصرا على الصين وروسيا، بل طالت أيضا الدول التي امتنعت عن إدانة العملية ‏العسكرية الروسية في أوكرانيا، مما يجعل من السهل استمالتها لتقويض قواعد ومبادئ هذا ‏النظام.

لقد أبرز تقرير مؤتمر العام الماضي حدة التنافسات بإدراج الصين كواحدة من التحديات الأمنية أمام حلف "الناتو"، وعودة الصراعات بين المُعسكرين بما يشبه الحرب الباردة بدلا من تقديم حلول مُشتركة لملفات حقوق الإنسان والبنى التحتية والرقمية والتعاون الإنمائي والطاقة والتغير المناخي والتهديدات النووية والاستراتيجية.

Reuters
نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس أثناء مؤتمر صحافي في ميونيخ في 17 فبراير

لم تخرج النسخة الستون للمؤتمر هذا العام من دائرة صراع المعسكرين لتقويض قيم وأعراف النظام الدولي القائم والتأكيد عل الخطر المتمثل في الصين وروسيا، ولكن المؤتمر تحول بامتياز منصة أميركية أكدت من خلالها نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس على الأحادية القطبية وعلى قيادة الولايات المتحدة للعالم وقدرتها على التصدي لمحاولات الصين وروسيا إعادة تشكيل النظام الدولي بما يعود بالنفع المباشر على الشعب الأميركي.

المصلحة الأميركية فوق كل اعتبار

وتحت عنوان "المصلحة الأميركية فوق كل اعتبار" أكدت هاريس أن "المنهج الأميركي لا يعتمد على فضائل الأعمال الخيرية، نحن نتبع نهجنا لأنه يصب في مصلحتنا الاستراتيجية... نحن واضحون، لا يمكننا أن نكون أقوياء في الخارج إذا لم نكن أقوياء في الداخل". لقد تناولت نائبة الرئيس على مدى 30 دقيقة تقريبا كل الملفات الأمنية المطروحة، مؤكدة الالتزام بمواصلة المشاركة العالمية، ودعم القواعد والمعايير الدولية، والدفاع عن القيم الديمقراطية في الداخل والخارج، والعمل مع الحلفاء والشركاء سعيا لتحقيق أهداف مشتركة.

هاريس: مع الصين هناك منافسة مسؤولة ومواجهة عند الضرورة وعمل مشترك عندما يخدم ذلك المصالح الأميركية

وبما يشبه إلى حد بعيد منطق الإملاء على الآخرين، وصفت هاريس ما تقوم به الولايات المتحدة في العالم من أقصى الشرق حتى أوكرانيا مرورا بالمحيطين الهادئ والهندي: "مع الصين هناك منافسة مسؤولة ومواجهة عند الضرورة وعمل مشترك عندما يخدم ذلك المصالح الأميركية. وفي المحيطين شراكات وتحالفات لضمان السلام والأمن والتدفق الحر للتجارة. وفي أفريقيا رهان على أن ما يحصل سيشكل مستقبل العالم". أما فيما يتعلق بأوكرانيا فقد أكدت أن الشراكة مع الأغلبية الداعمة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مجلسي الكونغرس الأميركي، سوف تؤمن الأسلحة والموارد الحيوية التي تحتاج إليها أوكرانيا بشدة وأن حلف شمال الأطلسي هو أعظم تحالف عسكري عرفه العالم على الإطلاق.
وفيما يشبه الاتساق مع الإملاءات الأميركية، قال وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار: "إن استمرار بلاده في التعاون مع روسيا في مشتريات الغاز والأسلحة لا يجب أن يشكل مشكلة بالنسبة للحلفاء الغربيين". 
كما تحدث وزير الخارجية الصيني، وانج يي، عن العلاقات مع واشنطن، وقال: "عندما تعمل الصين والولايات المتحدة معا، يمكن تحقيق أشياء جيدة لكلا البلدين والعالم بأسره"، مشددا على أن "المواجهة تضر بالجانبين والعالم". 
وقال المستشار الألماني أولاف شولتز: "إن ألمانيا، وهي أكبر اقتصاد في أوروبا، رفعت إنفاقها على الدفاع إلى 2 في المئة من الناتج المحلي، وستواصل تحقيق هذا الهدف الذي وضعه حلف الناتو" وتناقش مع حليفتيها فرنسا وبريطانيا تطوير أسلحة دقيقة قادرة على الوصول إلى مسافة بعيدة، من أجل ضمان أن تظل استراتيجية الردع الخاصة بها متطورة". 


غزة والواقعية الأميركية


من جهة أخرى، وبما يمكن اعتباره خروجا على المألوف الأميركي في مخاطبة الغرب والصين والهند وروسيا، احتلت غزة الحيز الأكبر من الاهتمام الأميركي بشكل خاص والدولي والعربي بشكل عام، إذ لم تخلُ أي من المداخلات من التطرق إلى الاستقرار في الشرق الأوسط نظرا للتداعيات التي فرضتها الحرب التي دخلت شهرها الخامس على المستوى الجيوستراتيجي، كما على مستوى العلاقات الدولية والأمن والسلم الدوليين. هذا وقد شكل الحضور العربي الوازن للدول المعنية والمواكبة للحرب استكمالا للاتصالات الدبلوماسية الجارية على أكثر من صعيد. 

بلينكن: كل الدول العربية تقريبا تريد الآن بصدق دمج إسرائيل في المنطقة لتطبيع العلاقات

لقد اتسم الموقف الأميركي- ربما للمرة الأولى- بالواقعية في الربط بين ضمان أمن إسرائيل وإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية. فبعد مطالعتها التي اتسمت بفوقية واضحة كانت هاريس متقدمة في إعطاء الموضوع الفلسطيني الحيز المتلائم مع حراجة الموقف، إذ قالت بوضوح: "أريد أن أتطرق إلى قضية واحدة، إلى جانب أوكرانيا، التي غطيتها لفترة طويلة جدا– وهي القضية الإسرائيلية الفلسطينية". تكلمت هاريس عن مسار ينهي الصراع ويضمن أمن إسرائيل وإطلاق سراح الرهائن، وحل الأزمة الإنسانية، وعدم سيطرة "حماس" على غزة، حيث يمكن للفلسطينيين أن يتمتعوا بحقهم في الأمن والكرامة والحرية وتقرير المصير.

AFP
رئيس الوزراء الفلسطيني يتحدث أثناء ندوة ضمن مؤتمر ميونيخ للأمن في 18 فبراير

لقد أكدت هاريس على حل الدولتين وعدم إعادة احتلال غزة، وعدم تغيير أراضيها الجغرافية. وأضافت: "لقد كنا واضحين للغاية بشأن اعتقادنا بأن السلطة الفلسطينية يجب أن تكون هي السلطة هناك، مع الإصلاح، ويجب أن يحدث ذلك. في رأيي، لا يمكن أن يكون هناك سلام وأمن في تلك المنطقة– لشعب إسرائيل أو الفلسطينيين وشعب غزة– دون حل الدولتين. ولا يمكننا أن نتخلى عن ذلك... بينما نعمل أيضا على مواجهة العدوان من إيران ووكلائها، ومنع التصعيد وتعزيز التكامل الإقليمي". 
بدوره أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال حلقة نقاشية في متن المؤتمر: "كل الدول العربية تقريبا تريد الآن بصدق دمج إسرائيل في المنطقة لتطبيع العلاقات... وتقديم التزامات وضمانات أمنية حتى تشعر إسرائيل بالمزيد من الأمان". وأضاف: "أعتقد كذلك بوجود ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى للمضي قدما نحو إقامة دولة فلسطينية تضمن أيضا أمن إسرائيل". 
وحول المفاوضات الجارية، أشار بلينكن أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تعمل على إبرام صفقة ضخمة من شأنها أن تشهد تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وتسعى المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى إلى إقامة دولة فلسطينية في إطار هذه الصفقة.
وفيما يمكن اعتباره اختبارا للولايات المتحدة حيال كييف وطهران يمكن التوقف عند تطورين ميدانيين:
الأول: انسحاب القوات المسلحة الأوكرانية نهاية الأسبوع المنصرم من مدينة أفدييفكا في شرق البلاد لتجنب حصارها من القوات الروسية، بعد معارك عنيفة دامت أشهرا عدة للسيطرة عليها. هذا وقد اعترف القائد العام الجديد ألكسندر سيرسكي بأن القوات الروسية التي تتمتع بتفوق على صعيد العديد والمدفعية والطيران قد أسرت كثيرا من جنوده. ويعتبر احتلال أفدييفكا الانتصار الأكبر لروسيا بعد إخفاق الهجوم المضاد الذي شنته كييف الصيف الماضي، وهو يمثل تغيير كبيرا في جبهات القتال منذ استيلاء القوات الروسية على باخموت في مايو/أيار 2023، إذ أصبحت القوات الروسية هي المبادرة بالهجوم على الجيش الأوكراني، الذي يواجه صعوبات في تجديد قواته ويفتقر إلى الذخائر. وفيما تعتد روسيا بنشر 600 ألف جندي على الجبهة، وباقتصادها الذي أخفقت العقوبات الغربية في إخراجه عن مساره، فإنها تشترط تخلي كييف عن خطة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لإنهاء الحرب، وهو ما تعده كييف تدخلا في سيادتها.

يبدو مؤتمر ميونيخ للأمن وكأنه محاولة أميركية لإعادة تأكيد الريادة على العالم

الثاني: التصعيد الخطير الذي يمثله الهجوم الذي نفذته إسرائيل على خطي أنابيب غاز رئيسين داخل إيران خلال الأسبوع المنصرم، مما أدى إلى انقطاع الخدمة عن المنازل السكنية والمباني الحكومية والمصانع الكبرى في خمس محافظات على الأقل في جميع أنحاء إيران. يمثل هذا الهجوم تحولا ملحوظا في حرب الظل التي تشنها إسرائيل منذ سنوات على إيران جوا وبرا وبحرا وسيبرانيا، كما يؤكد عمق الاختراق الاستعلامي والاستخباري لإسرائيل في البنية التحتية الإيرانية، خاصة أن خطي الأنابيب تضررا في مواقع متعددة في الوقت نفسه. كما يرسل الهجوم في الوقت عينه تحذيرا صارخا حيال حجم الضرر الذي يمكن أن يصيب إيران مع تصاعد التوترات بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة.
يبدو مؤتمر ميونيخ للأمن وكأنه محاولة أميركية لإعادة تأكيد الريادة على العالم باحتواء أوروبا وزجها في صراع مفتوح مع روسيا وتهديد الصعود الاقتصادي الصيني بالعسكرة في المحيطين الهندي والهادئ، بما يؤكد قدرة واشنطن على الإدارة والتحكم في مجموعة من الصراعات الدولية. ويبقى الصراع في الشرق الأوسط والتزام الولايات المتحدة بردع طهران والسير باتجاه حل الدولتين هو الاختبار الحقيقي للمصداقية الأميركية في المنطقة. 
فهل يلتقي حل الدولتين مع المصلحة الأميركية التي تكلمت عنها نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس؟

font change

مقالات ذات صلة