بوتين أمام الشاشات الأميركية... العوالم التي لا تلتقي

ليس هناك مسؤول أميركي يتحدث عن التاريخ كما تحدث الرئيس الروسي

AFP
AFP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء المقابلة مع الصحافي الأميركي تاكر كارلسون في الكرملين في 6 فبراير

بوتين أمام الشاشات الأميركية... العوالم التي لا تلتقي

في اللقاء التلفزيوني الذي أجراه الصحافي الأميركي المعروف تَاكر كارلسون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استهلَ كارلسون، منطقيا، اللقاءَ بسؤال يتعلق بالحدث الأهم والأكثر خطرا الذي جعل العلاقة بين روسيا وأميركا في أسوأ حال لها منذ نهاية الحرب الباردة وحوّل البلدين إلى خصمين: الحرب الروسية-الأوكرانية. كان رد بوتين على السؤال هو أنه إذا كان للقاء أن يصبح جديا فإنه ينبغي البدء في مكان آخر: التاريخ.

طلب بوتين من محدثه الأميركي أن يعطيه بين 30 ثانية إلى دقيقة للمرور على تاريخ بعض الأشياء. استغرق هذا المرور في حدود 25 دقيقة، بدءا من القرن التاسع وصولا إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين، وذلك في إطار تناول الرئيس الروسي لكيفية تشكل روسيا كدولة والتحديات التي واجهتها على مدى القرون.

في معظمها، كانت المقابلة التي استمرت أكثر من ساعتين تناولا رتيبا للتاريخ البعيد والقريب وصولا إلى أحداث ما عرف بثورة الميدان الأوكرانية في 2014 التي اعتبرتها روسيا انقلابا نظمته وكالة الاستخبارات الأميركية وما تلتها من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم واندلاع حرب الدونباس في أوكرانيا.

AFP
رجال دين أمام لوحة للقيصر بطرس الأكبر أثناء احتفالات الذكرى المئوية الثالثة لتأسيس مدينة سانت بيترسبورغ في 2003

يُفترض أن هذا اللقاء كان يمثل فرصة لبوتين كي يخاطب الجمهور الأميركي مباشرة عبر صحافي أميركي معروف وله برنامج مُتَابع كثيرا في أميركا ومتعاطف مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ومن ثم فإنه غير ساع لتشويه وجهة النظر الروسية، وهو الاتهام الروسي المعتاد للإعلام الأميركي على أنه جزء من جهد منهجي متعمد أميركي أوسع لتقويض الأمن القومي الروسي وتشويه صورة روسيا. بغض النظر عن دقة التناول التاريخي للأحداث في استعراض بوتين المكثف، كان لافتا أن الرجل اختار التاريخ زاوية للوصول للأميركيين ومحاولة التأثير عليهم.

لا يحتل التاريخ أهمية خاصة أو كبرى في فهم أميركا لنفسها ولا يُستخدم عادة كأداة تحليل يلجأ لها غالبية الأميركيين لفهم حاضرهم

لا يشعر الأميركيون عادة بالانجذاب أو الاهتمام بالتاريخ على النحو التفصيلي الذي قدمه بوتين، فإسهاب الرجل في سرد التاريخ يثير الملل لدى المشاهد الأميركي العادي ويقلل احتمالات تعاطفه معه أو تفهمه لثيمة "روسيا الضحية" بسبب تجاوز الآخرين عليها أو رفضهم غير المفهوم لها التي حاول بوتين أن يرسخها عبر المقابلة (كرَّرَ بوتين عبارة "لا أفهم" بخصوص الغرب عدة مرات في المقابلة). 
كبلد لا يتجاوز عمره 300 عام، لا يحتل التاريخ، خصوصا الضارب منه في القدم، أهمية خاصة أو كبرى في فهم أميركا لنفسها ولا يُستخدم عادة كأداة تحليل يلجأ لها غالبية الأميركيين لفهم حاضرهم. أقصى استخدام للتاريخ في الحيز العام الأميركي هو فهم بعض أحداثه المهمة أميركيا والمنتقاة بوصفها خلاصات لتجارب سابقة من أجل البرهنة على صحة نهج أو سلوك حالي (أو العكس، استخدام هذه الخلاصات للمحاججة ضد تكرار نهج أو أسلوب ظهر خاطئا في السابق). 
لماذا أنفقت أميركا أموالا كثيرة بعد الحرب العالمية الثانية على "أعدائها" السابقين من الألمان واليابانيين في إطار خطة مارشال مثلا؟ لأنها أرادت أن تمنع بروز التطرف والكراهية من جديد عبر خلق مصالح اقتصادية مشتركة تدفع المختلفين إلى التعاون وتحولهم إلى حلفاء لأميركا. عبر هذا الاسترجاع التاريخي المُقنَّن يُمكن مثلا تبرير الإنفاق الأميركي السخي في العراق والاستثمار السياسي فيه، في السنوات الأولى التي أعقبت إطاحة نظام صدام حسين في 2003. 
في سياق مختلف، يمكن مثلا، كما حصلَ كثيرا، استدعاء التدخل العسكري الأميركي الفاشل في فيتنام في ستينات القرن العشرين، للتحشيد ضد قرار تدخل عسكري أميركي في بلد آخر الآن. مثل هذه الاستخدامات الأداتية والمجتزأة للتاريخ، كدروس وخلاصات نافعة في إطار نقاش سياسات بخصوص الحاضر أو المستقبل، شائعة ومعتاد عليها في الولايات المتحدة. يبرز التاريخ هنا بوصفه سلسلة دروس ناتجة عن مجموعة أحداث في الماضي يمكن لصناع السياسة والجمهور التعلم منها لصياغة ودعم سياسات معينة أو معارضتها. بعيدا عن الحيز العام حيث تُصنع السياسات ويُعترض عليها ضمن نزاع الأفكار والمصالح، هناك أيضا هواة قراءة التاريخ والمحترفون فيه، وهم أقلية لا تؤثر في الرأي العام وصناعة القرارات، إلا إذا قدمته على نحو مجتزأ يتعلق بالخلاصات التاريخية وعلاقتها بالسياسات الحالية.

يقترح بوتين نظاما دوليا جديدا يقوم على "التعاون والتكافؤ"، بين الغرب الليبرالي وروسيا القومية كشريكين في رسم مصير العالم

لا يجد المرء سياسيا أو مسؤولا عاما في الولايات المتحدة الأميركية يتحدث عن التاريخ كما تحدث عنه بوتين: ككل عضوي متواصل عبر الزمن ومترابط في المعنى ليشكل المصدر المركزي والتعريفي للهوية وأساسا في فهم المجموعة لنفسها، بما ينطوي عليه هذا الفهم من ضرورة انضواء الفرد في المجموعة لتاريخها وتمثله. يمثل هذا الفهم التاريخ الذي قدمه بوتين عبر ساعتي المقابلة فهما قوميا لمعنى روسيا كبلد، تصاعد تدريجيا في البلد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات وتسارع وترسخ في عهد بوتين. في ثنايا هذا الفهم القومي، يبرز الصراع مع الآخر "الشرير" كقوة أساسية ومحركة للتاريخ في النسخة البوتينية المسكونة بمركزية روسيا في العالم. من هنا، يظهر المغول والبولنديون والليتوانيون والأوكرانيون والأميركيون فضلا عن الأوروبيين الغربيين كتمثلات مختلفة عبر الزمن لهذا الآخر.

Reuters
مبان سكنية مدمرة في بلدة سيلودوف الأوكرانية في 19 فبراير

تستثمر الأيديولوجيات الهوياتية- القائمة على مركزية الهوية وضرورة الحفاظ عليها- كالقومية والإسلاموية في التاريخ كثيرا، وتعتبره مصدرَ قوتها وشرعيتها وقضيتها الأهم. تمنح هذه الأيديولوجيات معتنقيها مهمة رئيسة ودائمة، تتنوع في الشكل بحسب الزمان والمكان لكن تتوحد في المضمون. تتلخص هذه المهمة بالدفاع عن الهوية ضد أعدائها المفترضين. يقوم جزء مهم من هذا الدفاع على الانغماس في الماضي وتَمثُلِ قيمه بوصفه مصدر نشوء هذه الهوية وتطورها عبر حقبه المختلفة. 
لا يغيب المستقبل في هذه الرؤى الأيديولوجية، لكنه يحضر في إطار محدد سلفا، بمسار واضح يستأنف عبره مهمات الماضي ويواصل حماية الهوية عبره. إنه مستقبل خاص هو مستقبل الهوية وليس مستقبل الحياة، إذ تُختزل الحياة ويُعاد ترتيبها بكثير من القسر غالبا، كي تصبح امتدادا للهوية وتابعة لها. 
عندما يصر الإسلاميون مثلا على أن هناك أسلوب حياة معينا واحدا هو المطلوب والمقبول على أساس اتساقه مع قيم الماضي الدينية بفهم الإسلام السياسي لها، ويُشيطن ما سواها أو يُمنع، فإنهم لا يختلفون كثيرا عن بوتين بتمسكه بالماضي، من خلال رفضه النظام الدولي الجديد، بقيمه الليبرالية عموما، الغربية المنشأ، وهو ما برز في مقابلته مع كارلسون. يقترح بوتين نظاما دوليا جديدا يقوم على "التعاون والتكافؤ"، بين الغرب الليبرالي وروسيا القومية والمحافظة، كشريكين متساويين ومتكافئين في رسم مصير العالم. 
يقفز هذا السيناريو المتخيل على التناقض الهائل في القيم الذي يجمع هذين الطرفين، فروسيا التي تزاوج بين أرثوذكسية مسيحية تسيطر عليها الدولة (في إطار مضلل هو "تكامل الدولة والدين") وتهيمن عليها روح قومية سلافية تستند على مركزية الماضي في تحديد المستقبل وتنظر إلى الحريات الشخصية بارتياب كأحد أشكال الانحلال الغربي وتدير اقتصادا "رأسماليا" أوليغارشيا خاضعا لسيطرة الدولة على أساس التواطؤ والتخادم، لا يمكنها أن تتعايش في سياق أي شراكة حقيقية مع غرب حديث قامت نظمه السياسية على أساس الفصل بين الدين والدولة والإيمان بالحريات الشخصية وحق الجماعات في تقرير مصائرها واقتصاد رأسمالي تنافسي. 

حوار بوتين أكد قناعة أميركية عامة أن هوسا أيديولوجيا يقود صناعة القرار في موسكو

في عام 2022، في سياق استرجاع تاريخي آخر لبوتين شَبَّه فيه روسيا اليوم بروسيا القيصرية في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر تحت ظل حكم بطرس الأكبر، أعظم القياصرة الروس. قالَ مخاطبا جمهوره في اللقاء ضمن دفاعه عن إحدى حروب القيصر بطرس التي تضمنت احتلال أراضي دولة مجاورة: "قد تعتقدون أنه كان يستولي على الأراضي السويدية، لكنه لم يستولِ على أي شيء. لقد استعاد ببساطة الأماكن التي عاش فيها السلاف قرونا، وتقع مهمة استعادة السيادة الوطنية والأراضي التقليدية وتعزيزها الآن على عاتقنا أيضا". 
كان حديث بوتين هذا في سبتمبر/أيلول من ذلك العام، أي بعد سبعة أشهر من بدئه غزو أوكرانيا. في ذلك الوقت، كان واضحا أن الحملة العسكرية الروسية للإطاحة بنظام الحكم في أوكرانيا والمجيء بآخر موال لروسيا قد فشلت. لكن قوة الأيديولوجيا المستندة على تبجيل الماضي "التليد" والرغبة في إعادة إنتاجه في الحاضر تهيمن عادة على عقول المؤمنين بها وتمنعهم من رؤية وقائع الحاضر التي تخالف هذا الماضي.
في لقائه مع كارلسون، كانت هذه الروح الإمبراطورية والتوسعية حاضرة في كلام بوتين عن أوكرانيا التي هي، في رأيه، ليست دولة حقيقية (أي تفتقر للأصالة التاريخية)، ومواطنوها كانوا فقط يسكنون الأطراف، بلا أي محتوى وطني أوكراني لشخصياتهم، وبالتالي هم روس في الأصل و"المنطق" والحتمية التاريخية!
باستثناء أقلية بيضاء صغيرة من القوميين الأميركيين المتطرفين، الذين هم عادة من جمهور دونالد ترمب، هذا الخطاب الهوياتي والاستغراق التاريخي لمنحه شرعية معاصرة ليس جزءا من تجربة الأميركيين للواقع ولا فهمهم لأنفسهم. 
من الصعب تصور أن بوتين في أثناء تمثله هذا الدور على مدى أكثر من ساعتين على الشاشة سيؤثر في قناعاتهم ويدفعهم لتغييرها، أو يقنعهم بـ"عدالة" قضية روسيا في غزو أوكرانيا. قد يكون العكس هو الذي حصل: تأكيد قناعة أميركية عامة أن هوسا أيديولوجيا يقود صناعة القرار في موسكو. 

font change

مقالات ذات صلة